Hakadha Khuliqat
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genre-genre
ووصف الطبيب دواء بسيطا، وقال إنه سيعود بعد ثلاثة أيام ليطمئن على صحة الطفل وعلى أثر الدواء، وعنيت أنا خلال هذه الأيام الثلاثة بتنفيذ أوامره في شأن الطفل بدقة أثارت إعجاب أمه ومسرة أبي، وكنت أنتظر اليوم الثالث بصبر نافد، وبخاصة لأنني رأيت الطفل قد زالت وعكته وعاودته الابتسامة البريئة الملائكية التي تجعل الأطفال جميعا أحباب الله، وتجعل هذا الطفل الجميل ملاكا يشع منه نور يسعد كل من حوله.
وجاء اليوم الثالث، وجاء الطبيب ورأى الطفل، وأبدى اغتباطه بشفائه، ولم تضن علي زوج أبي بشهادة طيبة؛ إذ قالت إنني أنا التي بذلت كل العناية في تنفيذ العلاج، وأدار الطبيب الشاب نظره إلي وقال: يظهر أن للآنسة غراما بالطب، أم أن حبها لأخيها وعاطفتها الرقيقة نحوه كانا أشد أثرا من الدواء في سرعة برئه، وأنا مع ذلك سأعود بعد أسبوع لأزداد اطمئنانا على صحته، فالأطفال في سن التسنين معرضون لوعكات لا خطر منها، ولكنها تزعجهم وتزعج أمهاتهم أحيانا.
وجعل الطبيب يعود الطفل بعد ذلك كل أسبوع، وجعلت أنا أزداد بهذا الأخ الصغير الجميل عناية، وله حبا، أفكانت عاطفة الأخوة وحدها مبعث هذه العناية؟ أم كان مبعثها فطرة الأمومة التي تتحرك في أحشاء كل شابة لمرأى طفل جميل ولاجتلاء ابتسامته ولاتصال جسمه بجسمها؟ أم ترى كان لهذا الطبيب وزياراته المتعاقبة أثر في هذه العناية؟ يصعب علي أن أبدي حتى اليوم رأيا في الأمر، ولعل هذه الدوافع جميعا كانت ذات أثر فيه، ولكن الذي أذكره أدق الذكر أنني برغم ما شعرت به نحو هذا الطبيب من جاذبية، وما كنت أجد في حديثه من متعة، كنت شديدة الحرص على ألا تبدر مني بادرة تكشف عما في نفسي، بل كنت أبدو أشد حرصا على أن أثير إعجابه وتقديره لعنايتي بأخي مني على أن أكشف له عن عواطفي.
فقد سمعت أن إحدى زميلاتي في المدرسة أحبت شابا نابها، وعرضت نفسها عليه ليتزوجها، فرغب عنها وخطب غيرها، فلما تمت الخطبة حاولت هذه الزميلة الانتحار، وإن كبريائي لتسمو بي عن أن أعرض نفسي على كائن من كان، بل إني لأشعر بأن الحب إذا انحدر بصاحبه - رجلا كان أو امرأة - إلى هذه المنزلة كان ضعفا يجب أن تتنزه عنه كل نفس مهذبة.
وقد استأثر أخي الطفل بقلب أمه وبعقلها وبكل وجودها، فلم تكن ترى في محيطها غيره، ولم تكن تسمع غير صوته، لقد كنت أراها جالسة إلى أبي يتحدث إليها وتستمع هي إليه، ثم أراها تندفع قائمة نحو غرفة الطفل تقول: إنه يبكي!
هذا ولم يكن أينا سمع بكاءه، وتجيء به وقد حملته إلى صدرها وقلبها، فإذا الدموع بالفعل في عينيه، وإذا هو حقا كان يبكي في صمت لا يسمعه إلا قلب الأم، ولم يكن أبي يسمع هذا البكاء الصامت، ولكنه لم يكن لذلك أقل إقبالا على الطفل وإعزازا له من أمه، كنت أرى هذا الرجل الرزين الحصيف يدخل إلى البيت وفي يده غير مرة في الأسبوع لعبة من لعب الأطفال ممن هم في مثل سن أخي، وكان يجد متاعا بل سعادة كلما رأى الطفل يبتسم، أو سمعه يضحك، وكان الوالدان يزدادان للطفل حبا كلما تقدم نموه، فلما استطاع أن يقف على قدميه ليمشي كانت حركاتهما لتشجيعه تثير الضحك، لكنني لم أضحك لأنني كنت أحب أخي كما كانا يحبانه، وكنت سعيدة كسعادتهما به.
وشغل «ولي العهد» خدم البيت كما شغل سادته، فلم تكن مربيته وحدها تلحظ حركاته وسكناته بعطف وعناية، بل كانت كل واحدة من الخدم تود لو استطاعت أن تخدم سيدها «البيه الصغير» لتسعد بهذه الخدمة، ولتنال بها حظوة عند أمه وأبيه وأخته، ولست أبالغ حين أذكر أن الكل كانوا يسعدون لعنايتهم بهذا الطفل البريء الذكي الجميل، وكانت أمه مع ذلك تخاف عليه من خياله، فإذا سقط على الأرض وهو يمشي أقامت الدنيا وأقعدتها، وإذا صاح لأن أحدا أخذ منه شيئا مخافة تلفه صاحت لصياحه، وأثارت في البيت ضجة كأن حادثا خطيرا حدث، ولم يكن أبي يلومها على شيء من ذلك أو يسدي إليها النصيحة لخير الطفل، بل كان يجاريها في غضبها ورضاها؛ لأنه كان لا يرى إلا بعينيها، ولا يسمع إلا بأذنيها، ولا يعرف في الحياة منطقا غير منطقها.
بدأت برغم حبي لأخي أضيق ذرعا بهذه المبالغات، وأشعر أنني أصبحت من رعاية أبي في المحل الثالث لا في المحل الثاني، وأن أخي وأمه مفضلان علي عنده، فازداد برمي بزوج أبي، وأحسست أن البيت على سعته يضيق بي، وكنت قد تجاوزت إذ ذاك السابعة عشرة من سني حياتي، وكانت صديقتي التي تعيش مع أبويها على مقربة من بيتنا قد خطبت إلى شاب موظف في الحكومة أثنى عليه أبي غير مرة أمامي.
قلت في نفسي: أولا يكتب لي الحظ ما كتب لها فأنتقل إلى بيتي أنا بدل أن أبقى حبيسة مع امرأة أبي؟! وتصورت يوما قريبا يكون لي فيه طفل كأخي أسبغ عليه من حبي ومن قلبي ومن عنايتي ورعايتي كل ما يحتويه قلب الأم من بر وحنان.
ساورتني هذه الأحلام واشتد أخذها بخناقي حين اشتدت لهفة زوج أبي على ابنها الطفل حتى جعلت تلومني على ما سمته عدم عنايتي به، وهي قد زادت في التثريب علي منذ رأتني عدت أستذكر دروسي على البيانو، وأقضي وقتا غير قليل أمامه، فقد كنت أهملت هذه المذاكرة شهورا عدة لفرط اشتغالي بأخي، فلما رأيت مخاوف أمه ولهفتها عليه، وتعلق أبيه به أخذت أعود إلى دروسي أتسلى بها عن هذا الشعور الذي استبد بي، وجعلني أشعر أنني صرت من رعاية أبي في المحل الثالث، ولئن حز هذا الشعور في نفسي لقد دعاني من بعد إلى أن أتساءل: ترى لو أن أمي لم تمت وأنجبت غلاما كما أنجبت زوج أبي، أكانت الرعاية الأبوية تنصرف إليه عني كما انصرفت إلى أخي من غير أمي؟ أم كنا نعيش أسرة واحدة يجري في عروقها دم واحد هو ماء الحياة الذي يمتصه جذع الشجرة ليبعث منه إلى فروعها البهاء والنماء والحيوية المترعرعة بمعاني النعمة والسعادة؟ فأين نحن الآن من هذا الوضع؟ إن الفرنسيين يعبرون عن الأخ أو الأخت لأب، وعن الأخ والأخت لأم أنه نصف أخ، أو أنها نصف أخت، وقد يكون لهذا التصنيف المادي ما يسوغه، ولكني أحسب أن للتعبير الفرنسي معنى أعمق من ذلك بكثير، معنى يتناول الجانب العاطفي في صلات الأسرة وأفرادها بعضهم ببعض، فصلة الأم بأبنائها صلة مباشرة، هم من دمها ولحمها، ومن قلبها وروحها، ومن أعماق وجودها، أما صلة الأب بالأبناء فصلة بالواسطة، والأم هي هذه الواسطة، فإذا كان له أبناء لأكثر من أم تأثرت عواطفه لأبناء كل أم بمبلغ ما بينه وبين الأم من مودة، وإن اختلف هذا الأثر في نفس أب عنه في نفس أب آخر، هذا إذا كانت الأمهات جميعا أحياء.
Halaman tidak diketahui