سارت سمية وهي تقول لحسن: «سر في حراسة الله، وأسأله أن ينصرك على أعدائك.» وظل صوتها يرن في أذنيه حتى توارت عنه، فركب جمله وساقه إلى باب المدينة ولم يكن مقفلا فالتفت يمنة ويسرة فلم ير سليمان.
فخرج وهو يمشي الهوينا ويصيخ بسمعه لعله يسمع صوتا، وجعل يحدق بعينيه لعله يرى أحدا، فسار والجمل دليله بين تلك المستنقعات ولكنه لم يسر طويلا حتى سمع جعجعة جمل عن بعد فاستوقف جمله وأصاخ بسمعه، وحول الزمام إلى جهة الصوت، وساق الجمل سوقا بطيئا، فمشى به بين النخيل والظلام سادل ستاره والسكوت سائد، فلم يكن يسمع غير وقع خفاف الجمل على العشب أو الطين.
وبعد قليل سمع حسن صوت بكاء وأنين، فوقف وأصغى، فسمع صوتا عميقا، وخشي أن يجعجع جمله فيشوش الصوت فترجل عنه وعقله وشده إلى نخلة، ثم مشى على قدميه وهو يتلمس الأرض مخافة أن يخوض في الأوحال حتى تحول عن الطريق الأصلي إلى ساحة لا نخيل فيها ولا عشب، فرأى جملا معقولا وشبحا متوسدا إلى جانبه وفوق رأس الشبح شبح آخر يبكي وينتحب، فاختبأ حسن في منعطف بحيث يرى ويسمع ولا يراه أحد، فسمع صوتا يقول: «يا لتعاستي وشقائي! لقد فتكت بك يا ولدي وفلذة كبدي، إني لأستحق هذا القصاص. ولكن ما ذنبك أنت؟ تبا لي، ما أتعس حظي! ولدي! حبيبي! كلمني يا سليمان. سليمان ... سليمان!»
فلما سمع حسن اسم سليمان علم أنه صديقه، فاقشعر بدنه وخشي أن يكون قد أصابه سوء بسببه، فنهض ومشى ويده على قبضة سيفه حتى أقبل على الشبحين ولم ينتبه له أحد.
ثم سمع الشبح الراقد يقول بصوت ضعيف: «لا تحزن يا أبي فقد ذهبت فداء صديق لي هو أحق بالحياة مني.»
فقال الآخر: «أظنك تعني هذا الشقي لأنه وفى بعهده. إني عاهدت الله على نصر الحسين والقتال في سبيله وجعلت نفسي في عداد التوابين، ثم رجعت لخدمة هؤلاء الطغاة، وكثيرا ما رأيتك غير راض بذلك، فلم أكن أصغي إليك حتى ضربني الله هذه الضربة على قلبي!»
فتحقق حسن أن الراقد سليمان، وأنه في ضيق، فلم يتمالك عن أن صاح قائلا: «سليمان؟!»
فأجفل الرجل الجالس وحسب الجن تخاطبه، فوقف للحال وقال: «إنسي أنت أم جني؟» وكان الرجل كهلا في نحو الستين من عمره والشيب قد جلل رأسه، وهو طويل القامة دقيق العضل قصير اللحية صغير العمامة. ولم يتم الرجل سؤاله حتى كان حسن بين يديه وقد أكب على سليمان وهو راقد على ظهره وفوقه القباء وقد تلطخ بالدم، فتفرس في عينيه فإذا هو يفتحهما فتحا ضعيفا ويتألم، فأمسكه حسن بيده وقال له: «سليمان؟ أخي سليمان! ماذا أصابك؟!»
وكان لذلك الصوت وقع عظيم على أذني الجريح، ففتح عينيه وصاح: «حسن؟! أشكر الله على أن جعلني فداءك.»
ولم يتم سليمان كلامه حتى تقدم الرجل الآخر وقال: «حسن؟ أنت حسن؟! يا لله ما هذه المصيبة التي نزلت بي بسببك، ولكن الذنب ليس ذنبك وإنما هو ذنبي، أنا الشقي التعس!»
Halaman tidak diketahui