فبهت وقال: «نعم، وكيف عرفت ذلك؟»
قالت: «عرفته منها، وإني أهنئك بسمية فإنها زينة فتيات المدينة، وليس أحد يعرف مكنون قلبها غيري. وقد طالما ذكرت اسمك لي، وأطلعتني على خصالك، وأثنت على مروءتك. فثق بأنها ما زالت على ودك، ولو أنك جئتنا قبل ساعة لوجدتها هنا.»
قال: «وهل من سبيل إلى رؤيتها ولك علي ما يرضيك؟»
فأطرقت عزة هنيهة ثم قالت: «لم يكن أهون من ذلك علي لولا أن أباها ضنين بها، لا يأذن في خروجها من البيت، إلا نادرا، وهي إنما تجيئني خلسة في أكثر الأحيان. ولا شك في أنه إذا عرف أنها جاءتني لمثل ما تريده أنت فإنه يغضب وربما أساءها وأساءني، ولا سيما أنه ذو نفوذ لدى أمير المدينة، ففي استطاعته أن يتهمني عنده بما ينغص علي عيشي.»
فلبث حسن مدة يفكر في أمره، وقد اقتنع بالمشقة التي تحول دون مجيء سمية، لكنه ما لبث لعظم شوقه أن استسهل كل عسير، ورأى أن يصبر إلى صباح الغد ثم يذهب لزيارة أبي سمية. فنهض مودعا عزة بعد أن استدل منها على بيت عرفجة، فدلته عليه وودعته معتذرة من عدم استطاعتها إجابة رغبته في رؤية سمية.
وبات حسن تلك الليلة على مثل الجمر، ثم أفاق قبل الفجر وأخذ يتأهب للذهاب إلى بيت عرفجة وقد اشتد هيامه وخفق قلبه وهو يفكر في لقياها، وشق عليه أنه لا يستطيع مخاطبتها أمام أبيها لكي يبثها شوقه وهيامه، فعلل نفسه بما قد يأتي به القدر من سوانح الفرص، وخرج والشمس قد أطلت من وراء المنازل، والناس يذهبون ويجيئون في الطرق وهو لاه عنهم بما قام في خاطره من أمر اللقاء المنتظر بعد الغياب الطويل.
وكان بيت عرفجة بالقرب من بيت سكينة بنت الحسين، وهو أضيق مساحة وأقل فخامة، فلما وصل إلى بابه رآه مفتوحا فدخل ولم يقرع الباب ولم يتكلم، فأطل على باحة تحيط بها ثلاث غرف، وفي بعض جوانبها نخلة عظيمة رأى بجانبها فتاة عليها رداء أحمر زاه وليس على رأسها نقاب، وقد جلست أمام النخلة وأسندت ظهرها إليها ووجهها إلى جانب الدار بحيث لا يقع بصرها على الداخل. ومع أنه لم ير من وجهها إلا صفحة خدها وجانبا من عينها وفمها فإنه أدرك أنها سمية، فندم على دخوله بغتة واستنكف أن ينظر إليها أو يدخل بلا استئذان، ولكن الشوق أعمى بصيرته فوقف مبهوتا وقلبه يخفق، والشوق يدفعه إلى رؤيتها، والحياء يدعوه إلى الرجوع وقرع الباب.
ثم غلب عليه الحياء، وخاف أن يقع نظرها عليه فتخجل وربما أصابها سوء من تأثير البغتة، فتقهقر حتى وقف بالباب وقرعه بحلقة من الحديد كانت معلقة في خوخته، ولبث ينتظر من يدعوه إلى الدخول أو من يأتي لاستقباله، ثم سمع وقع أقدام في الباحة فعلم أن سمية تمشي إلى إحدى الغرف للاستتار. وظل واقفا مدة فلم يأته أحد فأعاد القرع مثنى وثلاث. وبعد هنيهة سمع وقع أقدام قادمة نحو الباب عرف من شدتها وسرعتها أنها أقدام رجل. ثم جاءه رجل في نحو الخمسين من عمره قصير القامة نحيف البدن يكاد جلده يلصق بعظمه، وهو أشمط شعر اللحية خفيفة، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وعلى كتفيه مطرف التف به، وكأن خديه حفرتان، ووجنتيه أكمتان، وأنفه كتلة بارزة في منتصف وجهه، وله عينان غائرتان. ولو تفرس فيه حسن لتبين من اختلاج أجفانه وعدم استقرار نظره أنه من أهل الرياء والخبث.
فلما وقع نظر حسن على الرجل عرف أنه عرفجة أبو خطيبته، فهش له وهو يتوقع أن يعرفه ويرحب به، أما عرفجة فلبث برهة ينظر إلى وجه حسن وهو يتجاهله. فضحك حسن وتقدم وألقى التحية. فرد عرفجة التحية دون أن يبدو على وجهه ما يدل على أنه عرفه، ثم سعل كأنه ينبه أهل بيته إلى قادم غريب، فقال له حسن: «أظنك لم تعرفني يا عماه؟»
فلما سمع عرفجة كلامه تكلف الابتسام وألقى نفسه عليه وجعل يقبله ويرحب به ويقول: «أهلا يا بني، أنت حسن؟ من أين أتيت؟» وأمسكه بيده ودخل به إلى الدار، وسار توا إلى غرفة هناك يستقبل بها الزائرين. فاستأنس حسن بذلك الترحاب بعد أن كاد يتميز غيظا مخافة أن يعود من سفرته بخفي حنين، وابتدره عرفجة بالسؤال عن حاله وعن سبب غيابه، وسأله إذا كان في حاجة إلى طعام. فاعتذر شاكرا، وأخبره بأنه قدم المدينة للقياه. فجعل عرفجة يتملقه بالكلام اللطيف ليستطلع ما في قلبه، فاطمأن إليه حسن وأطلعه على شدة شوقه إلى سمية، وكان يخاطبه ويراقب ما يبدو منه من استحسان أو استهجان، فلم يجد إلا انعطافا وترحابا. وعلم منه أن سمية في خير، وأنها ما زالت تذكر فضله عليهما، فازداد حسن استئناسا، وتوقع منه أن يدعو سمية لتراه، فلما لم يدعها ظنه أجل ذلك إلى ما بعد الاستراحة. واستغرقا في الحديث في شئون مختلفة حتى ذكر حسن أنه جاء المدينة في مهمة من خالد بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير بمكة. ثم قال: «ألم يئن لي أن أبلغ أمنيتي التي منيت بها منذ أعوام؟»
Halaman tidak diketahui