وحانت منه التفاتة إلى باب الفسطاط، فرأى بلالا قادما من بعيد وقد علاه الغبار. فخفق قلبه، والتفت إلى الحجاج وقال: «أرجو أن يأذن مولاي في إدخال هذا القادم، فهو رسولي إلى ابن الحنفية، وعسى أن يكون قد عاد من عنده بكتاب يثبت صحة دعواي.»
فقال الحجاج: «وأي رسول؟»
قال: «رسول كنت أنفذته إلى ابن الحنفية في شعب علي ليستكتبه شهادة بما دار بينه وبين عرفجة من حديث الكرسي. وهذا الرسول كان معي يوم حريق الكرسي، فليأمر مولاي بإدخاله لنرى ما جاء به.»
فنادى الحجاج: «يا غلام.» فدخل أحد غلمانه فقال له: «ترى رجلا قادما برسالة فأدخله إلينا.»
فعاد الغلام ومعه بلال. وأخرج هذا عقدة من القصب الغليظ سلمها إلى الحجاج مختومة، فقرأ الختم من الخارج فإذا هو ختم ابن الحنفية، ثم أخرج من العقدة لفافة من الرق فتحها وقرأها وعرفجة جالس وقد بانت البغتة في وجهه ورقصت لحيته على صدره، ولكنه عمد إلى الاستخفاف والمغالطة فصار ينظر إلى الحجاج ويبتسم كأنه واثق بأن الكتاب يتضمن براءته. فلما فرغ الحجاج من قراءة الكتاب التفت إلى عرفجة وقال له: «لقد صح الصحيح ولم يبق مجال للمكر والخديعة؛ وهذا خط محمد بن الحنفية وختمه يثبتان صحة ما اتهمك به هذا الشاب.»
فهم عرفجة بأن يتكلم، ولكن الحجاج انتهره وقال: «لا تتكلم ولا تدافع فقد كفانا ما سمعناه من خلطك.» ثم صفق فجاءه الغلام فقال له: «إلي بالجلاد.» فخرج وعاد برجل عليه قميص من جلد وعلى رأسه عمامة مستطيلة وبيده سيف حاد. فأشار الحجاج بسبابته إلى عرفجة وحسن وقال للجلاد: «ائتني برأسيهما.» فصاح عرفجة: «كيف تأمر بقتلي ولم تتحقق تهمتي؟! إن هذه الرسالة مزورة.» وأخذ في الصياح حتى سمع صوته كل من في المعسكر، فغضب الحجاج وصاح في الجلاد: «هات رأس هذا أولا.» وأشار إلى عرفجة.
فجره الجلاد حتى أركعه في الفناء ونزع عمامته عن رأسه، فأخذ يلتفت إلى الحجاج وهذا معرض عنه، ولم يكن إلا كلمح البصر حتى طار رأسه من بين كتفيه والناس ينظرون.
ووقف الجلاد بين يدي الحجاج وسيفه يقطر من دماء عرفجة، فأشار الحجاج إلى حسن وقال للجلاد: «وهذا أيضا.»
فأمسك الجلاد بطوق حسن وأراد جره إلى الخارج. فقال حسن للحجاج: «أتقتلني بعد أن رأيت صدقي وإخلاصي؟»
فصاح فيه الحجاج صيحة الغضب وقد احمرت عيناه وتجلى الغدر فيهما وقال: «أتسألني لم أقتلك وأنت مستحق الصلب منذ أيام؟! إنما صبرت عليك حتى تحققت خيانة ذلك الغادر.»
Halaman tidak diketahui