ما صنعتك؟
أجاب البدوي: أنا راعي جمال. - ومن هو شيخ القبيلة؟ - درداح الغمدوش. - ولماذا هو شيخ القبيلة وأنت راعي جمالها؟ - هذه إرادة الله، واحد يرأس القبيلة، وآخر يرعى جمالها.
قال طعبروس: ما أنا ممن يخالفون مشيئة الله، صدقت، إنه تعالى قسم المهن والأرزاق، وجعل للقبيلة شيخا يدير أمورها، وراعيا يتعهد جمالها، ولكنك يا بدوي أشجع من درداح الغمدوش، فلماذا لا تحاول أن تكون شيخ القبيلة وتترك هذه الإبل لدرداح؟
فلمعت عينا البدوي وعض على شفتيه، وشع وجهه بحلم جميل، الخيمة الكبرى هو يملكها، و... وتطلع بطعبروس من جديد وأجهم وجهه، وقال: اسمع يا مخلوق، إن كلامك معقول، غير أننا هنا في البادية نصغي إلى من يقول، لا إلى ما يقال، نحن هنا لا نخاف الإعصار، والجوع، والعطش، والأمراض، ورصاص العدو، ولكننا نخشى اللسان الذرب ... إخال كلامك شبيها ببرميلك، تنظر إليه فتحسب فيه ماء يروي، فما إن تنهل منه حتى تعرف طعمه الكريه، وكلامك تسمعه، فإذا هو مقنع، وفي يقيني أن من أراد السير على ما أنت به تبشر، سيعثر، لقد أمنتك على روحك، ولكني أخشى ثورة غضبي فأكفر بتقاليد قومي، هيا انصرف عني، رح إلى هناك إلى بلاد الحضر الملاعين في القرى والمدن؛ حيث الرجال ذوو أيد ناعمة ووجوه حليقة معطرة، هناك يحبون اللسان الذرب، وأحسب أن ستكون بينهم ذا شأن.
وكان طعبروس من أولئك القلائل الذين يفهمون الحكمة من أي سمعوها، ويعرفون أن يلتقطوها حيث كانت؛ لذلك أعجب بقول البدوي، فودعه وراح يقطع البادية ميمما قرى الحضر ومدنها، فأدى به التسيار قبيل الغروب إلى ضاحية قرية ، فرافق بعض فلاحيها، وكانوا منصرفين من حراثة أراضيهم وعائدين إلى قريتهم، وسمع الفلاحين يتحادثون فرحين، وأدى بهم الحديث إلى الدعابة، والدعابة إلى قول «القرادي» فزج طعبروس نفسه بينهم وسألهم: ما هذا الذي تنشدون؟
أجابوا بشيء من الخجل: نحن أناس أميون ننظم القرادي - في بعض الأحيان - للمباسطة وللغناء في الأفراح والمآتم.
أجاب طعبروس: إنكم لا تعرفون أي شيء قيم تملكون، ما هذا «قرادي»، هذا شعر، أنتم شعراء، أنتم الشعراء.
فراحت قلوب أولئك الفلاحين تدق جذلة كأنها أجراس الكاتدرائية في يوم العيد، ونفخوا صدورهم ورموا بمعاولهم وآلات الحراثة وطفقوا يصيحون في القرية: نحن شعراء، نحن شعراء.
وسرت الصيحة في القرى المجاورة ومدن البلاد، وصار كل من نظم في حياته، أو هم بنظم «قرادي» أو أي كلام عامي مقفى، يقف على سطح بيته أو شرفة منزله، ويصرخ «أنا شاعر»، واجتمع الشعراء فانتخبوا لهم أميرا وشيخا، وفرقوا الألقاب والأوسمة فرحين.
أما طعبروس فقد هزه فوزه السريع، فلم ينم تلك الليلة، شأن كل من ينعم ببكر انتصاراته، وفي فجر اليوم الثاني طفق يطوف في طول البلاد وعرضها، ولقي من الصحافيين أعوانا له، فإذا لاعبت فرقة من بيروت بالفوتبول فرقة من حلب سموها «مباراة دولية»، وإذا فاز تلميذ بدروسه سموه «النابغة العبقري»، وأشار على الناس، فأسسوا الجمعيات والمنظمات التي هي في حقيقة مراميها أبواق لطعبروس، وتحالف مع رأسمالي، فبنى مصنعا للمرايا المقعرة متى تطلع فيها الرائي وجد نفسه عظيما، فراجت تلك المرايا، وأغنت صانعها، ومن أرباح ذلك المصنع بنى الرأسمالي مصانع للأبواق والطبول، وأخذ طعبروس يدور على البيوت فيبيعها بدون ربح، حتى أصبح كل من السكان يحمل مرآة مقعرة في جيبه، وبوقا في يساره، ويعلق طبلا في رقبته، تضرب لحنا واحدا: «ما أعظمني!» وكان طعبروس شديد المراقبة، فلمح في تطوافه أن الأسلحة كثيرة في البيوت؛ فخشي على نفسه أن يؤلف الشعب جيشا، والجندي - جنرالا كان أم نفرا - هو مثال الطاعة والنظام والدعة والتواضع، وهذه صفات إن فشت قتلت نفوذ طعبروس، فحمل تلك الأسلحة أصحابها، وصاح بهم : «هيا أطلقوها في الجو!» ففعلوا وطربوا لدويها، إذ ذاك قام طعبروس فيهم خطيبا، وقال: أنتم الأبطال الصناديد، من غيركم يقوى أن يطلق الأسلحة في الهواء؟
Halaman tidak diketahui