فتطير المعتصم، وتغامر الناسُ على إسحق، وتعجبوا كيف ذهب مثل هذا عليه مع فهمه وعلمه وطول خدمته للملوك! قال: فأقمنا يومنا وانصرفنا، وما عاد منا اثنان إلى ذلك المجلس، وخرج المعتصم إلى سر من رأى، وخرب القصر.
١٤ - وحدث حمدون بن إسماعيل قال: ما كان الخلفاء أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى وخلاف، وكان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري، فوجد المعروف بالمسدود المغني من ذلك حسدًا، وهجا الواثق بيتين، وكانا معه في رقعة، واتفق يومًا أن كتب رقعة إلى الواثق في حاجة له، وأراد تسليمها إليه، فغلط منها إلى الرقعة التي تتضمن الهجاء، فسلمها إلى الواثق فقرأها، وفيها:
من المسدودِ في الأنفِ ... إلى المسدودِ في العينِ
أنا طيلٌ له شقٌّ ... فيا طبلًا بشقينِ
وكان الواثق على إحدى عينيه فص وإلى ذاك نحا المسدود، فلما قرأها علم أنها فيه، فقال له للمسدود: قد غلطت من رقعة الحاجة التي سألتها إلى هذه الرقعة، فاحترس من مثل هذا! وردها إليه، فو الله العظيم ما زاده على هذا القول شيئًا، ولا تغير له عما كان عليه، وكان يحب أن يتشبه بالمأمون في أفعاله.
١٥ - وذكر أحمد بن يحيى البلاذري قال: أقبل المتوكل يومًا فقام الناس إليه من بعيد، ولم يقم المنتصر ابنه حتى قرب منه، فاغتاظ المتوكل وجرى على لسانه:
همُ سمنوا كلبًا ليأكلَ بعضهمْ ... ولو علموا بالحزمِ ما سمَّنوا الكلبا
فلم يبعد أن قتله المنتصر بعد ذلك.
١٦ - وانحدر المستعين من سر من رأى إلى بغداد أيام الفتنة مع الأتراك التي آلت إلى إمامة المعتز وخلع المستعين وقتله، واستصحب معه محمد بن الواثق، وأغفل أن يأخذ المعتز والمؤيد معه، فلما نزل المستعين ببغداد على محمد بن عبد الله بن طاهر قال له محمد: يا أمير المؤمنين أين المعتز والمؤيد؟ فقال له: بسر من رأى، قال محمد فجرى على لساني أن قلت شعر زهير:
أضاعت فلم تغفر لها غفلاتُها ... فلاقتْ بيانًا عند آخر معهدِ
دمًا حول شلوٍ تحجل لطَّير حولهُ ... ويضعٍ لحامٍ في إهابٍ مقدَّد
فعلمت أن أمر الرجل مدبرٌ بتركه هذين الرجلين بسر من رأى، وبما جرى على لساني من التمثيل.
١٧ - وكان بالبصرة مغنية تسمى فضلة، وتقلب خيط البرادة، وجذرها خمسة دنانير في كل ليلة، وكانت مفرطة في الجمال وطيب الغناء، وتقلب القاف كافًا في كلامها، فحكت أنه دعيت لأمير من أمراء البصرة، فلما حصلت عنده ابتدأت فغنت:
وما لي لا أبكي وأندبُ ناقتي ...
فجاء بكلامها: "أبكي وأندب ناكتي"، فتطير الأمير من قولها وقال: قدر وزنًا لك خمسة دنانير وأحضرناك لما يحضر مثلك له، فإذا كنت تبكين، وتندبين ناكتك فما نريد مقامك عندنا، وصرفها! قالت: فخجلت أتمَّ خجل واستحييت أعظم حياء، وانصرفت خزيانة.
١٨ - وحكت أنها ابتيعت للمتوكل، وحملت من البصرة إلى سر من رأى، قالت: فكنت أعلم آداب خدمة الخلفاء طول طريق، لأجل جهلي ونشوئي في خدمة العوام والسفهاء، فلما عدت إلى دار المتوكل وقع علي من التهيب والخوف ما أنساني جميع ما علمت ولقنت، وخلعت مداسي في بعض الحجر، وحملت إلى طرز عظيم، في صدره دست مضروب، فحين رأيت الدست صعدت على ما جرت العادة لي به في الختانات والأعراس، فقعدت إلى جانب الدست ساعة، ثم خرج غلام أسمر مليح الوجه، عليه قميص قصب مذهب وعمامة خفيفة مذهبة، وبين يديه خادم، فلما قرب قمت ولا أعفه، لكنني أظنه بعض أصحاب المتوكل، فقال: اقعدي، وجلس في عتبة الطرز، وجيء بمخدة، فجعلها خلفه، ثم دخل غلام شاب أملح منه، فقبل الأرض وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، ورحمه الله وبركاته، فعلمت حينئذٍ أنه المتوكل، فقمت هاربة من مكاني، فردني وأمرني بالجلوس حيث كنت أولًا جالسة ففعلت، وأجلس ذلك الرجل وهو الفتح بن خاقان مقابلي من الطرز، ثم قال: ما اسمك؟ قلت: فضلة، قال: ما لقبك، وقلت: خيط البرادة، فضحك ثم قال: بم تغنين؟ قلت: بالعود، فأمر بإحضار عود، فأحضر الخادم خريطة ديباج فيها عود، من عود فسلمه إلي فأصلحته وغنيت:
ما نقموا منْ بني أميَّةَ إل ... لا أنهم يحلمون إنْ غضبوا
وأنهم سادةُ الملوكِ فما ... تصلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ
فتغير لونه وقال: غني غير هذا، لعنك لله؟ وأنا لا أعلم ما في ذاك، فاندفعت فغنيت:
1 / 4