بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ أعنْ
قال الشيخ الأجل محمد بن هلال بن المحسن بن إبراهيم المعروف بالصابئ: الحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد النبي خاتم المرسلين، الذي انتخبه ربه تعالى للرسالة يؤديها، يوضحها ويبديها، صلاة يزكو لديه عرفها وطيب، ويورق في دوحته عودها الرطيب، كما صدق فيما حكى، وحقق فيما أدى، واحتمل الأذى وأغمض على القذى طاعة منه لمولاه، وصبرًا على ما ابتلاه، وحرصًا على صلاح الأمة، ورضى بما لاقى في ذلك من المذلة، حتى أظهر الدين منشورة بنوده، منصورة جنوده، طالعة سعوده، ساطعة جدوده، ولم يزل معه ربه إلى أنت طبقت الأرض شرقًا وغربًا دعوته، وعمت الخلق عجمًا وعربًا بركته، ضاعف الله تعالى في تلك الدار الخيرات، وأسبغ عليه السعادات، وأجزل قسمه من الزلفات، وحظه من رفيع الدرجات، بمنه ومجده.
وكنتَ جاريتني من الهفوات الجارية على ألسن المتحفظين المتحررين، والسقطات الآتية من الغارين الغافلين وما أشبه ذلك من المقالات وطرف الاتفاقات طرفًا استطرفناه وحديثًا استغربناه، واتفق أن لحقني منه ما صدق العجب والاستطراف، ونالني فيه من الخجل والحياء ما بلغ الإفراط والإسراف، فعلمت على جمع ما ندر من ذلك وإن كان قليلًا معلومًا، وضم ما تفرق منه إن كان علمًا مأمومًا، وأضفت إليه قطعة من أخبار المغفلين المحظوظين والجهال المرزوقين، فإنها جارية في أسلوبه، وشبيهة بمقصوده، إحماضًا لقاريه، وتنبيهًا له على قدر نعمة، اله تعالى عنده وفيه، والله تعالى ولي التوفيق والتسديد.
١ - فأول ما أبدأ به ما خصني منه، وهو أنني كنت جالسًا وإلى جانبي أبو سعد القادسي أحد المتفقهين المتشدقين، وجرى ذكر بعض ثقلاء الزمان المتعسفين فقلت مسرعًا متبرعًا: إنه يشبه ابن القادسي فيما يتعاطاه مما يتجاوز فيه الصواب ويتخطاه! ثم استيقظت من رقدة زلتي، وانتبهت لهفوتي، فالتفت إليه عجلًا وقلت له مسرعًا وكان له أخ بالحمق مشهور وبالهذيان معروف، وهو بذاك عالم، وله دائمًا عليه لائم: اعلم أيها السيد أن أخاك يسمع من الألفاظ الأديبة، ذات المعاني الغريبة ما لا يفهمه، ويجب أن يستعمله، وعنده أن ذلك ورد يرده الواردون من غير تعب، ويورده الموردون من غير أدب، فيصدر عنه الكلام المستعجم، وتصير أغراضه ومعانيه لا تفهم، فنحن نضرب به الأمثال، هذاء يورده بوجه وقاح غير حيي، وخاطر لفاح غير وني فقال لي: والله العظيم إنني لألومه على فعله دائمًا، وأمنعه منه دائبًا، وأعلم أن الأقوال تكثر فيه، وتزري عليه، وهو على ما عمت من الجهل الذي يورده ولا يصدره، ويحسن له ما يقوله ويذكره! فحين شاهدته قد تحقق قولي ورضيه، ولم يخطر بقلبه ما يغضبه ويؤذيه، أتتني فرجة اقتحمتها، ولحقتني فرحة ما احتبستها.
٢ - وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير قال: حضر رسل نصير الدولة أبي نصر بن مروان الكردي أمير آمد وميافارقين وأعمالها عند معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلد أمير بني عقيل، يستحلفونه على معاهدة بينت، ومعاقدة قررت، وفيهم المنازي الشاعر فلما حلف معتمد الدولة أنشد المنازي:
كلفوني اليمينَ فارتعتُ منها ... كي غروا بذلك الارتياعِ
ثم أرسلتها كمنحدرِ السَّي ... لِ تهادى من المكانِ اليفاعِ
قال له قرواش: يا ويلك قبحك الله وقبح ابن مروان، ما هذا الكلام! وبدا الشر في وجهه، وكاد يكون ذلك اليوم آخر أيام المنازي من عمره، فبدأ المنازي باليمين الغموس أنه أنشد ما أنشد عن سهوٍ لا عن روية، وباتفاق سوء لا عن قصد ونية، فتحقق ذلك قرواش وصدق قوله، لأنه ممات لا يقدم عليه مثله، فأغضى وعفا، عما غلط فسه وهفا.
٣ - وحدثت عن بعض المغنين قال: حضرت عند شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش أمير بني عقيل يومًا أغنية، وجرى حديث عميد الملك أبي نصر الكندري ﵀ وزير طغرل بك، فذكرت من محاسنه وما كان يستعمله معي ومع أمثالي من العطاء الذي مولنا، والإنعام الذي خولنا، طرفًا قويًا أسرفت فيه وزدت قصدًا لتحريك مسلم لمثله، ثم انتهت نوبة الغناء إلى حيث انتهى ذكري لعميد الملك وترحمي عليه، فضربت وغنيت:
قواصد كافورٍ توارك غيره ... ومن قصدَ البحرَ استقلَّ السواقيا
1 / 1