ومن العجيب أنك لا تقرأ صدى للكروان فيما ينظم الشعراء المصريون، على كثرة ما يسمع الكروان في أجوائنا المصرية من شمال وجنوب!
وأعجب منه أنك لا تقرأ فيما ينظمون إلا مناجاة البلابل وأشباهها على قلة ما تسمع في هذه الأجواء!
فكأنما العامة عندنا أصدق شعورا من الشعراء؛ لأنهم يلقبون المغني بالكروان ولا يلقبونه بالبلبل، فيصدرون عن شعور صادق ويتحدثون بما يعرفون.
وليس عن تعصب منا للوطن نؤثر الكروان على البلبل وما إليه؛ لأن التعصب الوطني على هذه الصورة حماقة لا معنى لها في الشعر والشعور، ولكننا نؤثره لأن الإعجاب به صحيح يصدر من الطبع الصادق. أما الإعجاب بالطير الذي لا نسمعه، فذاك محاكاة منقولة تصدر من الورق البالي وتؤذي النفس كما يؤذيها كل تصنع لا حقيقة فيه، وأخف موقع له في نفوسنا أن يضحكها ويغريها بالسخرية، كذلك الأصم الذي أراد أن يخفي صممه في مجلس الغناء، فأوصى صاحبه أن يغمزه كلما وجب الصياح والاستحسان، فلما نام وراحوا يوقظونه آخر الليل قام يصيح ويستحسن ولا سماع هناك ولا سامعين!
وإذا لم يشعر الشاعر بتغريد الطير على اختلافه، فبماذا عساه يشعر؟! إن الطير المغرد هو الشعر كله؛ لأنه هو الطلاقة والربيع والطرب والعلو والتعبير والموسيقية. فمن لم يأنس به لم يأنس بما في هذه الدنيا من طبيعة شاعرة، ولم يختلج له ضمير بما في الحياة من فرح وجيشان وتعبير.
والطير بعد هو حجة الطبيعة لشعر الإنسان وغناء الإنسان، فهو عند الشاعر وثيقة لا يعرض عنها ولا يفلتها من يديه، فإذا قال الجفاة الجامدون: إن الشعر لغو في الحياة، قال الشاعر: إن التعبير الموسيقي عنصر من عناصر الطبيعة، وإن الطير يغني ويهتف، وإن الطير يفرغ للغناء وحده إذا شبع وأمن، كأن الغناء والتعبير عن الشعور هما غاية الحياة القصوى، لا ينساها الحي إلا لعائق يشغله ويغض من حياته.
والجفاة الجامدون يقولون كثيرا عن الشعر في الزمن الأخير، يقولونه على الرغم من هذا الشعر الذي تفيض به الطبائع الحية، ولا سيما الأحياء المغردة الطائرة، ويقولونه على الرغم من ملازمة الشعر لكل أمة ولكل قبيلة ولكل لغة، فلو كان شيئا عارضا في الحياة الإنسانية لما وجد حيث توجد الحياة الإنسانية، ولو كانت الموسيقية نافلة في الدنيا لما وجدت في أمة الطير، وإذا وجدت في لسان الطائر فلماذا تحرم على لسان الإنسان؟ ولماذا يكون الكلام الإنساني وحده بمعزل عن الأوزان والأشجان؟
فبين الطائر المغرد والشاعر الشادي محالفة طبيعية لا تحنث فيها الطير، ولا تقصر في إسداء حصتها الخالدة، والشعر مهما أسلف من ثناء على الطير وتمجيد للتغريد لن يوفي كل دينه، ولن يستنفد كل حصته، فلتكن «هدية الكروان» بعض الهدايا التي يتصل بها السبب بين عالم الطير وعالم الشعراء.
عباس محمود العقاد
الكروانيات
Halaman tidak diketahui