ولكن هذا لم يدم طويلا، فلم تبق فاطمة حبيسة البيت إلى الأبد، ولم تطل صلاة غريب، ولا استغنى فرج عن برطعته وضحكه؛ إذ بعد أسواق كثيرة وأسواق، كان كل ما حدث قد وضعه أهل العزبة في خزينة النسيان وأغلقوا عليه بالضبة والمفتاح، وكان أولاد الحلال قد تكفلوا بمصالحة عبدون وابنه على فرج، فأصبحوا يتحادثون ويتبادلون العمل ويتزاملون كالعادة، وربى غريب قصته وعاد يحدث أصحابه عن النساء فوق تبن الوسية، ولم يكن حديثه يخلو من مرارة، إذ كانت فاطمة قد عادت إلى الخروج، جميلة كما كانت، معووجة المنديل رافعة ذيل الثوب، تخطر إذا مشت، وتدوخ إذا تلفتت، وتعافي كل من يلقاها، إلا هو، لا عن عمد، ولكن كأنها لا تراه، وكأنما قد محي من الوجود.
عادت فاطمة تنظر وتتحدث وتبتسم وتطير العقول وكل شيء فيها لم يتغير، ولكن الناس كانوا يعجبون، فلا بد أن فاطمة قد اكتسبت شيئا جديدا لم يكن لها، أو أنها لا بد فقدت شيئا أصيلا كان لها، الشيء الذي كان يلون وقفتها ومشيتها وضحكتها، الشيء الذي يجعلها تبدو ملكا للجميع تحب الجميع ويحبها الجميع، الشيء الذي يكسبها شفافية ونقاء والذي كان يجعلك تحس إذا ابتسمت أنها حقيقة تبتسم وإذا غضبت أنها حقيقة غاضبة، كانت قد فقدت براءتها، وأصبحت تستطيع أن تنظر دون أن تنظر، وتضحك دون أن تريد، وتريد الشيء وتخفي رغبتها فيه.
بل أصبحت تستطيع إذا ما لمحها فرج خارجة ذات يوم من دار صابحة الماشطة وأخذها إلى بيته وأغلق عليها باب القاعة، وأمسكها من ضفائرها، وشدد عليها، وسألها عم كانت تفعله عند صابحة؟
أصبحت تستطيع إذا ما حدث أن تقول: «كنت بقيس التوب، أوع كده!»
وتجذب نفسها وضفائرها من قبضته بعنف غريب، وتقف في الركن تعيد النظام إلى شعرها وتواجهه، بعيون مشرعة، حلوة، لا تنخفض، ولا تخجل.
سره الباتع
1
لم تكن علاقتي بالسلطان تتعدى مجرد نظرة غير محبة للاستطلاع ألقيها عليه كلما مررت به في ذهابي وإيابي، نظرة سريعة كأنما لأطمئن بها فقط على وجوده هناك، فقد كان علامة رئيسية من علامات البلد، مثله مثل محطة السكة الحديد، وسراية آل ناصف، والبقعة المسكونة التي قتل فيها سيد إبراهيم.
ولكني ذات يوم اضطررت أن أشغل نفسي بالسلطان، فقد فزت يومها بأول نجاح في حياتي ونقلت من السنة الأولى الابتدائية، وفرحتي بالنجاح يومها كانت أكبر من كل فرحة أحسست بها لأي نجاح حدث لي بعد هذا، فرحة تمنيت معها أن أعود من المدرسة إلى بيتنا على جناح طائر، لأزف الخبر إلى جدي الأكبر، والد جدي، وكان عجوزا جدا، له ظهر شديد الانحناء، وتجاعيد كثيرة لطيفة تغطي وجهه ورقبته وصدره وكل جسمه، تجاعيد تبدو من كثرتها وتناسقها وكأنه ولد بها.
وما كاد جدي يسمع الخبر حتى قال لي في صوته الجاد: «أوف النذر حالا.»
Halaman tidak diketahui