تحويد العروسة
كون الشراقوة - بلدياتي - كرماء، مسألة لا نقض فيها ولا إبرام، أما أن يبلغ هذا الكرم حد التهور، وحد «تحويد» العروسة، فتلك مسألة أخرى كما يقولون، بل هي في الواقع عادة غريبة لم يبطل استعمالها في مديرية الشرقية إلا من سنتين تقريبا.
فمن المعروف أن البنت الريفية حين تتزوج في بلد غير بلدها، يخرج أهلها في يوم الدخلة عن بكرة أبيهم لإيصالها إلى بلد العريس ، ونظرا لأن الأمن - أيام زمان طبعا - لم يكن مستتبا في تلك المناطق الواسعة الشاسعة، فقد جرت العادة أن يخرج مع العروسة عدد كبير من أهل بلدها أثناء الطريق، مكونين بموكبهم قافلة طويلة جدا، على رأسها جمل العروسة الذي يقوده العريس في العادة، أو من ينوب عن العريس.
إلى هنا والأمر عادي يحدث مثله في كل مديريات القطر، أما الذي كان لا يحدث إلا في الشرقية وحدها، فهو أن موكب العروسة كان حين يمر ببلد من البلاد أو بعزبة من العزب، يخرج أهل البلدة أو العزبة بأعيانها وشيوخها وشبابها ليعزموا العروسة وبلدياتها، ولكي يثبتوا جدية العزومة كانوا يذبحون الذبيحة فعلا، ويعلقون رأسها فوق نبوت أحدهم، وينتظرون حتى يقترب الموكب وحينئذ يتقدمون منه، ويضعونه أمام الأمر الواقع قائلين، تفضلوا، عشاكم جاهز، والذبيحة ذبحت، ومبيتكم الليلة عندنا!
وطبعا كان أهل العروسة يرفضون بشدة، فالليلة ليلة الدخلة ولا وقت للعزائم أو مزاولة الكرم الشديد، ولكن العازمين لا يرضيهم هذا، معتبرين أن الرفض إهانة خطيرة موجهة إلى قدرتهم على استضافة العروسة وأهلها، ويشدد أهل البلدة في دعوتهم، ويشدد أهل العروسة في رفضهم، ويزداد كل طرف إصرارا، ويصل الأمر في النهاية إلى حد التشاتم والتماسك بالأيدي، ثم لا تلبث النبابيت أن ترتفع وتقوم خناقة كبيرة، قد تسفر عن قتلى وجرحى، ولكنها لا بد أن تنتهي إلى أحد أمرين: إما انتصار أهل العروسة ومواصلة طريقهم إلى بلد العريس، وإما انتصار أهل البلدة واقتياد الموكب المهزوم واستضافته بالقوة!
وفي أغلب الأحيان كان أهل العروسة ينتصرون؛ إذ الحمية كانت تأخذهم والمسألة بالنسبة إليهم مسألة كرامة وشرف ممكن الدفاع عنهما إلى حد الموت، أما بالنسبة إلى أهل البلدة فنادرا ما كانوا ينتصرون؛ إذ المسألة بالنسبة إليهم مجرد إظهار لشدة كرمهم، وتلك قضية قد لا تدفع الإنسان إلى التفريط في نفسه وإزهاق روحه.
ظلت هذه العادة جارية قرونا طويلة وقرونا، حتى قضي عليها من وقت قريب، وسبب زوالها أن إحدى بنات قرية كفر عزب كتب كتابها على واحد من بلدة أخرى بعيدة، وفي يوم الدخلة خرج أهل القرية عن بكرة أبيهم ليوصلوا العروس كالعادة.
وفي الطريق فوجئوا بعملاق أسود يخرج عليهم ومعه ثلة من أتباعه وقد رفع نبوتا أطول من النخلة فوق رأسه ووقف في وسط الطريق دون أن ينبس ببنت شفة، وما كاد أفراد الموكب يلمحون الرجل حتى بدأ اضطراب شديد يجتاح صفهم الطويل؛ ذلك لأن أهالي كفر العزب كان بينهم وبين الشجاعة عدم استلطاف قديم، كانت البلدة مكونة من عائلات كبيرة ثم تفتتت، فتتها الفقر وقلة الأرض، وتحولت إلى كفر مزدحم بآلاف الأنفس المتناحرة التي يأكل بعضها البعض، ولا يبالي، كان أهل الكفر كلهم صغارا في صغار، الملاك لا يمتلك الواحد فيهم أكثر من بضعة قراريط، كل أمله في الحياة أن يجعلها فدانا بأكمله، والتجار - إذا صحت التسمية - مجرد باعة سريحة يلفون البقج والأخراج على أكتافهم يوم السوق، وفي البلد أكثر من خمسين دكان بقالة لا يزيد ثمن البضاعة في أي منها على الخمسة جنيهات.
وهناك عشرات يحترفون صناعة القهوة والشاي، ورأس مال الواحد فيهم ليس أكثر من براد شاي وعشة آيلة للسقوط يسكنها القهوجي، والفقهاء ومقرئ القرآن ومن يصنعون الطعمية ويقفون بها على أبواب الجوامع بعد الصلاة والقفاصون، والقصاصون وصغار اللصوص والحرامية، كل هؤلاء متوفرون بالمئات والعشرات، والحمد لله، إذا خلا منصب خفير تقدم له أكثر من مائة وبذلوا الوساطات والشفاعات، والذي يعمل منهم خولي دودة في موسم نقاوة القطن لا بد أن أمه دعت له، ومع هذا الضيق الشديد في الرزق، بل ممكن أن يكون من أجل هذا الضيق الشديد في الرزق فشكاوى بعضهم من بعض لا تنتهي، والبلاغات التي تدعي الشروع في القتل والسرقة بالإكراه وهتك العرض تنهال على المركز من كفر العزب باستمرار، والجدع هناك طبعا هو من يكسب القرش الأزيد بلا أي اعتبار للطريقة التي جاء بها القرش، الرجل إذا نخنخ ووفر المليم شاطر، وشيخ الحصة إذا أخذ شلنا أو نص فرنك ليمضي على العرضحال شاطر، حتى العمدة أشطر شاطر لأنه من التجارة في القطن «ثاني جمعة» اسما، والمسروق من الحقول فعلا، قد حاز نصاب العمودية.
وعلى هذا لم يكن غريبا إذا ذكرت لأحد من أهل كفر العزب شيئا عن الجدعنة أو الشجاعة أن يلوي رقبته ويقول لك: «ودي تسوى كام دي يوم السوق يا حبيبي؟!»
Halaman tidak diketahui