ونحن كثيرا ما نسمع تعبيرا كهذا يردده الناس في مناسبات كهذه، ولكننا نأخذه على محمل التأثر الشديد لا غير، ولكن طريقة عم محمد في قوله كانت لا تقبل الشك، وكان واضحا تماما أنه يعني ما يقول.
ومن يومها بدأت أهتم بالرجل، بل بدأت أهتم بكل عم المحمدات من أمثاله، وعرفت السر في كبر السن الذي يبدو شرطا أساسيا من شروط العمل كصبي حانوت، فمعظمهم كانوا فراشين في مدارس، أو سعاة في مصالح، أو عساكر بوليس، أو خدمة سايرة، ثم أحيلوا إلى المعاش والاستيداع بعد أن بلغوا السن، وقضوا السنوات التي أعقبت الإحالة يزاولون أعمالا أخرى، ثم حين تنهد قواهم تماما ويبلغون من العمر أرذله، ولا يعودون يصلحون لأي عمل آخر، لا يصبح أمامهم مجال لكي يأكلوا العيش إلا العمل كصبيان حانوتية، هذا إذا ساعدهم الحظ وكان هناك محل خال؛ إذ هي صنعة لا تتطلب قوة كبيرة، وأجرها ضئيل لا يرضى به أحد، لا يرضى به إلا عجوز على شفا الموت ضعفا وجوعا.
ومع هذا، ومع درجات العمر التي بلغوها، وفي تلك السن التي لا يستطيع العجوز فيها أن يفعل شيئا إلا أن يستلقي فوق فراشه وينتظر الموت، مع هذا فما أكثر ما كانوا يتعبون ويشقون!
وعشرات الرحلات قطعتها مع عم محمد.
وقبل أن تبدأ الرحلة لا بد أن تحدث المسرحية التي تتكرر كل أسبوع، فعم محمد مستعجل ويريد أن ينتهي من أخذ تصريح الدفن بسرعة ليتفرغ لغيره من المشاكل، وليرضي المعلم ويريه، كأي صبي، شطارته، ولهذا فهو لا يريد أن أكشف على المتوفى لأن معنى الكشف أن أذهب إلى بيته، والرحلة تستغرق وقتا طويلا، هو يريدني أن أمضي له التصريح ونحن في المكتب، ولكن الأوامر هي الأوامر، وعلي أن أكشف على المتوفى قبل التصريح، ويتحمس عم محمد جدا وهو يقسم بأغلظ الأيمان أن الوفاة طبيعية، وألا جناية هناك ولا شبهة، وأنه بنفسه قد خلع ملابس المتوفى وفحصه وجذب شعره وحملق في عينيه وتحسس عظامه، وأنه لا يريد سوى راحتي فقط، وأهز له رأسي علامة الرفض، فيهز رأسه علامة اليأس، ويجري أمامي ويقول: «على كيفك يا بيه! اتفضل!» ونمشي قليلا، ثم يتوقف عم محمد ويعود يقول: «والله يا بيه، دا راجل كبير في السن، وما فيه إلا شيخوخة بدون جنون.»
و«شيخوخة بدون جنون» تعبير اصطلح على إطلاقه على سبب الوفاة حين يكون المتوفى كبير السن وليست هناك علامات مرضية أخرى تصلح سببا للوفاة، وتضاف كلمة: «بدون جنون» لأسباب قانونية تتعلق بميراث المتوفى والمشاكل التي تنشب بين الورثة حوله، هذا، إذا كان قد خلف ثروة فعلا وعقارا.
وهذا الاصطلاح قد شاع وانتشر بين أطباء الصحة وموظفي المكاتب والحانوتية لدرجة أنه لم يكن من المستغرب أن يقترحها عم محمد كسبب للوفاة!
يتوقف عم محمد ويحاول محاولته الأخيرة تلك، ولا يجد لها صدى عندي فيعود يجري ويسبقني ليريني الطريق إلى بيت المتوفى، والمنطقة آهلة بالسكان والبيوت والذباب، وكل شيء قد يخطر على البال، الناس أكثر من البيوت، والبيوت أكثر من الفضاء، والذباب بمعدل مليون ذبابة لكل قاطن، والأشياء مكدسة مزدحمة، وكأنما كومها فوق بعضها مستعجل لا وقت لديه.
وعم محمد رجلاه رفيعتان مقوستان، وعرقه يسيل، وحجمه ضئيل أصغر من قرد عجوز، يكافح ليلاحق خطوي، ويكافح ويكافح ليصبح أمامي، ويزيح الناس حتى يدبر لي مكانا محترما أمر فيه، ويصنع من نفسه عسكري مرور ويوقف عربات الكارو، ويأمر باعة الخضار بالكف عن تشويحات الأيدي والزعيق حتى يمر «البيه»، ويلهث، ويحدثني، ويسليني، ويلعن الخلق والزحمة ومن يخالفون أوامره ولا يفسحون الطريق، ويقول: إن الخير زال، وأيام زمان كان الموتى على قفا من يشيل، وكانت الأشيا معدن، ويلهث، وأسأله وقد بدأت أنا الآخر ألهث، عن المتوفى وبيته، وهل لا يزال بعيدا فيقول: «خطوتين بس»، وأخطو عشرات الآلاف من الخطوات، ولا يظهر بيت ولا ميت، وموكبنا الصغير يدلف من شارع إلى زقاق ، ومن زقاق إلى خندق وحارة، أسوأ موكب، ما إن يرانا الناس حتى ترتفع الهمسات: «يا فتاح يا عليم! على الصبح! يا ترى مين مات النهارده؟!»
وعم محمد يجري أمامي ومن خلفي وعلى جانبي، خائف خوف الموت أن أزهد وأزهق فأؤجل الكشف إلى ما بعد الظهر أو الغد، وتكون الكارثة.
Halaman tidak diketahui