ولكن هذا البيت لا تقام فيه الحفلات إلا في أثناء الليل، فيموج بأهله حتى ما يرى العقل إلا أشباحا متفرقة كأنها ما صفح عنه البلى من سطور كتاب قديم.
ومن الذي ينكر أن استبداد الملوك الطغاة وما إليه من استرقاق الشعوب وتعبد الضعفاء وظلم المساكين إنما هي أحلام مزعجة من أحلام الإنسانية المستيقظة.
إنك لتشتري الذهب بالفضة، وتستبدل الفضة من الذهب، ولكن البيضاء ينبغي أن تكثر في حالتيها حتى تساوي في القيمة ما تشتريه بها أو ما تشتريها به من ذلك المعدن النفيس؛ فإذا نقصت شيئا قليلا ولو درهما بقي الذهب سيدا وذهب النقص بالتكافؤ بين الرتبتين.
انظر أترى ثمة شعبا مستعبدا يجتمع كما تتراكم الأنقاض ويتفرق كما تتبدد وليس منه في الاجتماع والتفرق إلا صورتان للخراب كالبومة والبومة في التشاؤم؟ إنك لتنظر الشعب الذي يحلم وهو مستيقظ؛ ألا تراه يعمل على السخرة ويطبع بالإرادة أو بالوهم الذي صار له كالإرادة، ويشك في أنه يخاف من المستبد أو يخاف من أن يشك فيه، ويرجو على قوته ما يرجوه الأجير أن يملك يده ساعة ليتناول بها لقيمات يقمن صلبه، وأن ينتهي عمل يومه ليوقن أنه إنسان كالناس له يد يملكها؟
هذا دأب الاستبداد ودأب الشعب الضعيف الذي ابتلي بالنقص عن مكافأة المستبد به ومساواته؛ وكثيرا ما لا يكون هذا النقص فيه إلا بمقدار درهم واحد من الفضة التي نزلت عن مقدار الذهب.
ولكن أين هذا الدرهم المتمم؟ درهم واحد من الشعب يكون الشعب كله ويجعله مالكا بعد أن كان مملوكا، وحاكما بعد أن كان محكوما، ويخرجه في التاريخ من رتبة إلى رتبة.
هذا الدرهم هو الذي يبقى في يد القدر حتى يجيء يوم الحساب الذي وعدت به الحرية المظلومة للانتصاف من ظالميها فيعطيه الله للشعب، ولا يكون إلا رجلا ولكنه رجل إلهي.
أفتدري من هو هذا الرجل الإلهي؟ هو الذي لا تعرفه الحياة ولا يعرفه الموت فلا يذل لأحدهما؛ تتبرج له الحياة فلا تغره، ويتجهم له الموت فلا يضره؛ ويبتلى بكل ما يسوء ويسر فلا يسوءه ولا يسره ...
هو رجل روحه في كفه - وهي العلامة الإلهية فيه - فما إن يزال يثب بها من كل قبر يحتفر له ولا يسقط أبدا. وكل رجل إلهي لا يخطو إلا فوق القبور؛ حتى إن تاج الملك لينكشف عن رأس صاحب الجلالة إذا رآه وهو يهوي إلى الأرض عساه يكون لتلك الأنفة قبرا ذهبيا: فإن هذا الرجل الحق لا يجيء إلا عندما تقضي السماء على الأرض بحكم من أحكامها، فيخلق الله بين جنبيه قلبا هو المعنى المتجسم من ذلك الحكم.
وتسبق مجيئه أعاصير ومحن تهب على الأرض فتقيم الدنيا قيامة لا لظلم الناس ولكن لتمهد طريق الإعصار الساكن الذي يولد هادئا منطويا على حقيقته انطواء القنبلة.
Halaman tidak diketahui