كلمتان هما تعريف السعادة التي ضل فيها ضلال الفلاسفة والعلماء، وهما من لغة السعادة نفسها؛ لأن لغتها سلسة قليلة المقاطع كلغة الأطفال التي ينطوي الحرف الواحد منها على شعور النفس كلها. أتدري ما هما؟ أفتدري ما السعادة طفولة القلب!
ذاك أيها القمر وإني لأحس كذلك أن قلبي يطرح على ساحل أشعتك بقايا ما فيه من الآمال المحطمة التي طال مثواها في لجج الهم، كبقايا الغرقى في أعماق اليم؛ وليت شعري ما عسى أن تجدي هذه البقايا؟ إنها أثر من رجاء ماض في زمن وقع وانقطع، أو كلمة طيبة قد مات أهلها، أو شعاع ابتسامة أخلدها الحب في قلبي؛ لأنها روح شبابي والأرواح خالدة، أو معنى حزين تعشقه الدموع فلا تزال تنازع إليه، أو قطعة مثلمة من الذكرى تمر الأحزان من صدوعها أو آمال في المستقبل البعيد كأنها أحلام يعد بها النائم نفسه قبل أن ينام ... ويكسوها الهم البليغ ثوب الاستعارة فيتخيلها ابتسامات من السعادة كما يرى المدمن في عناقيد الكرم سحابة من الخمر، أو بقية من حياة معذبة، يقول فلاسفة البؤس: إن القدر أبقى عليها؛ لأنها من حصة القضاء، ويقول حكماء الإيمان: إنها بقية معلومة لغاية مجهولة متى انتهينا في طريق العذاب إليها «أي الغاية» رأينا ثمة عناية الله!
فدعني أيها القمر أحمل بقايا عمري: إني كلما قطعت مرحلة في سبيل الحياة وضعت عندها أحمالي وعدت أدراجي لأجمع ما يكون قد تناثر مني، فأقطع كل مرحلة ثلاث مرات؛ أما إحداها فأكون فيها كالشيخ الفاني يدلف مثقلا بأيامه، وأما الثانية فأمضي فيها خفيفا لا أحمل إلا النوم في أجفاني، وأما الأخرى فأعود منها بأثارة من الأحلام تخف على نفسي لولا ما يخالطها من ثقل الفكر في قطع مرحلة النهار الجديد.
ولو كنت من السعداء لسخر لي القدر من يحمل عني، بل لكان ظلي نفسه حمالا ... وإذا أردت أن ترى قوما يرثون من لم يلدهم ولم يكن من ذوي قرباهم ولم يمت إليهم بسبب واصل فانظر إلى البائسين؛ فإن كل منهم يحمل أثقاله وأثقالا مع أثقاله. وليس أخف من أحمال البؤس وحده؛ إذ هي لا تعدو الجوع الذي تكسر شرته بكسرة من الخبز، والتعب الذي يذوب في غمضة العين ساعة النوم، وما عدا ذلك؛ مما يحمله البائسون فإنما هو من أثقال السعداء؛ لأنه لا بد من ظهور للحمل ... فمن يحمل الأمراض التي لا قوام للعالم إلا بها مدة صحة السعداء؟ ومن يحمل الهموم مدة نعيمهم واغترارهم ومن يحمل الدموع مدة ضحكهم وافترارهم؟ ومن ومن ومن إلا هذا البائس الذي تصيبه دائما واقفا في طريق الأقدار لأنه برقة قلبه وسذاجة روحه يكون دائما أقرب الناس إلى السماء!
أما أولئك الذين يغيبون في ظلمات العالم كما يبتهج السمك كلما غاص في ظلمات الماء، فكثيرا ما تتعاون الأقدار وتتظاهر لجر واحد منهم حتى تكون عليه كخيوط الشبكة وهو مع ذلك يجاهدها ليفلت، فترى شبكة هذا الحوت الذهبي وقد علقت بها الأيدي يقرض فيها الأصدقاء من جهة والأطباء من جهة، وغيرهم من جهة، وبالجملة فإن ماله يستحيل إلى مقاريض تأخذ شبكة الأقدار من كل جهاته.
فإن كانت القاضية فكثيرا ما يموت هذا السعيد وهو يجذب الأقدار أو هي تجذبه، كأنه يريد أن يكون موتا للموت، ويصدف وجهه مرة ويشيح به مرة كأن الأرض ذابت أو تخلخلت فأصبحت لا تقوى أن تحمله فضلا عن أن تمسكه، وكأن الجهات الأربع انزوت عنه فلا يرى إلا جهة السماء، ثم يحتضر والحياة أمر ما وجدها، وكل نفس في فمه كأنه قبلة مرة تقطر من فم الرذيلة الشوهاء، ويكشف عنه غطاؤه فيرى ماضيه بعين صافية تكاد نظراتها تكون عقولا مفكرة، فلا تنفذ إحداها إلى أمر من أموره أو فعله من فعلاته إلا أبانت عن نفسها وكانت كأنها تشهد عليه، فمن حيثما التفت لا يرى إلا وجوه الأدلة، ومن حيثما أصغى لا يسمع إلا إقرارها، ويدركه الموت فيقول إني تبت الآن ... كلا إنها كلمة هو قائلها، وإنها لا تغني عنه من الله من شيء، وإنه ليقبل بها على الله وهي في فمه كالفضيحة أو أشد خزيا، ثم يموت وقد جهد بالموت وجهد الموت به، فيصعدان وكلاهما متباطئ والموت ما يكاد يحمله ويحمل نفسه، لا كما يموت الفقير خفيفا هادئا كأنه طائر بسط جناحه وطار، ولا كما يصعد خفيفا هادئا كأنه معنى جميل تذهب به رسالة معطرة.
وأكبر ظني أن بعض الأغنياء يموت في الأرض وينتهي إلى السماء ميتا ولا يحيا هناك إلا بعلاج ... يدفع ثمنه ببدنه الذي لا يملك في الآخرة غيره، كما يدفع السجين المفلس للحكومة أجر ما يأكله في سجنها من أعماله.
وما كتب الملائكة قط صحيفة هي أشام طائرا في السماء من صحيفة غني حين يحتضر، وهذه الصحيفة التي تطير بمعانيها هي التي تنطبع فيها ظنون النفس الراحلة سطورا كأنها «فنغراف» الموت، وأحسب أن السطر الأول من «الظنون الغنية» يكون جبنا شديدا، ويكون السطر الثاني خلاء لأنه موضع رعدة فلا تثبت فيه يد الملك، ويكون الثالث ندما، والرابع مجازفة، والخامس رجاء مستحيلا، والسادس أملا مضحكا، والسابع كلمات ركيكة من الإيمان الضئيل، والثامن حروف خيالات من الماضي الأثيم كأنها مقبلة بمخازيها؛ أما ما بقي مما يوفى على التتمة فإلى الله أمره وفي الثمانية ما إن قليله أهل لأن يستعظم فيستعاذ بالله منه: وما كل الأغنياء يلقون ربهم بمثل هذه الصحيفة السوداء، إن أريد إلا الغنى الذي يعيش فقيرا ليموت غنيا، فترى أمواله أرقاما لا عداد لها تملأ السفاتج «الحوالات» والدفاتر والدواوين وليس فيها رقم مؤمن تثبته الملائكة في صحيفة الحسنات ليخرج من حساب الناس إلى حساب الله!
وليت شعري ماذا يريد هذا الغني الاصطلاحي؟ أيريد أن يشتري الأرض أم أهلها؟ وهل يظن أنه يوم يشتري الأرض لا يشتري فيها قبره، ويوم يسترق الناس لا يشتري بماله من يلعنه؟ وإذا دفن تاريخ امرئ فإنما تفتح له لعنة بغيضة من لعنات الناس، ويهال عليه ألفاظ بغيضة من الاحتقار فيثوى من ذلك في قبر أبدي.
المال الكثير حاجات كثيرة، وحاجات هذا الإنسان الضعيف معدودة محدودة، ومهما حاول وزاول فإنه لن يعدو حده الطبيعي؛ إذ قد عرفت الطبيعة غروره وطماحه فجعلت له من المعدة قيدا في باطنه ووضعت عليه من القلب قفلا صغيرا، بيد أنه متين لا يقتحمه إلا الموت، فليفعل الأغنياء ما شاءوا فإنهم لا يزالون من الطبيعة حيث هم بجانب الفقراء والمساكين ههنا وههنا. والحقيقة محدودة دائما بذاتها، ولكن الوهم قبحه الله؛ هل رأيت رجلا ينظر بعيني رأسه إلى شرف مرتفع فيلمح فيه رأس رجل قد أطل ثم يحسب ضلة أن هذا الرأس قد انخلع من مغرز العنق فارتفع حيث يلوح وترك جثته متخلفة على الأرض؟
Halaman tidak diketahui