وانت سواء الحالتين على المدى ... على سنن التقوى هما السر والجهر
فذا شأن من لم يخش إلا الهه وذا ... ك هو الجود المؤسس والفخر
وما هي غلا فكرة حموية ... إذا اتصلت بالمعتنى رحل الفكر
ومن ذا يضاهي ذا المحب فأنه ... سليل المعالي وصفه النصر والصبر
إذا ما قضى أمضى فيرضى بحكمه ... جميع برايا الخلق والخالق البرُّ
وانّ الرعايا حيثما قد أتاهمُ ... بشيرك بعد الحزن عن قدم سُرُّوا
بعيشك حالي هل أقايس بالذي ... له ظاهر الدعوى وانتَ ليَ الظهر
فما انا ممّن يرتضي علَّ أو عسى ... لحظ عدوٍ حظه عندك البتر
شهيداي في حبيّك عَدْلانِ عندكمْ ... قبولهما حتمٌ هما القلبُ والفكر
سلوا عن مودَاتِ الرجالِ قلوبَكُمْ ... وتلك شهودٌ مثلما قد حكى الشعر
ثم قدمت إلى المحية القاهرة في أواخر شعبان، وأنا بفرط الاشواق إلى مشاهدة ذات مولانا قاضي القضاة لا برحتْ عاليةَ الشان، وعرضت عليه المحضر فسرَّ به - أدام الله تعالى سروره واستبشاره - العليّة، وأكد ذلك بموكدات ومحسّنات بديعية، فانتجت تلك المؤكدات والمحسّنات، أن عاد عليّ من حضرته الكريمة بعض الصلات. وكم لهذا المولى علي عبده مثل هذه الصلات عوائد، وطالما أهدى إليه من نعمه ما يعجز عن بعض شكره الزائد:
ولو أنني أوتيتُ كلَّ بلاغةٍ ... وأفنيتُ بحرَ النطقِ في النظم والنثرِ
لما كنتُ بعدَ الكلِّ إلا مقصّرًا ... ومعترفًا بالعجز عن واجبِ الشكرِ
هذا وكان العبد في تلك الأثناء يتشوق إلى أفاضل إخوانه بدمشق المحروسة، ويتشوّف إلى أخبارٍ تَرِدُ عليه من حضراتهم المأنوسة، وينشد من شدة أشواقه التي أورثته الفِكَر:
يا جيرةَ الشام هل من نحوكم خبر
فبينما هو من الاشواق على شفا، إذ وردت عليه منهم رسائل ولا رسائل أخوان الصفا، فقبّلتها وفضضت منها الختام، فألفيتها مشتملة من عرائس المعاني على حورٍ مقصورات في الخيام:
وقبلتها ألفًا وألفًا فقال لي ... غراميَ زدها واضربِ الالفَ في الالفِ
فمن ذلك مكاتبة من صاحبنا فخر الافاضل المتبحرين، وزبدة الأماثل المدققين، مولانا الشيخ عماد الدين أدام الله تعالى أفاضله، وبلّغه أمانيه وآماله، صدرها:
سلامٌ كَعَرْفِ المسكِ بل هو أعطرُ ... وأزكى تحياتٍ تضوعُ وتُنْشَرُ
على الحضرةِ العلياءِ والساحةِ التي ... بها الفضلُ ثاوٍ والأفاضلُ تفخر
على ساحةٍ فيها السماحةُ والندى ... وساكنها ما زال بالخيرِ يذكر
سلامَ محبٍ لم يَحُلْ عن ودادِهِ ... وأنّ صحيحَ الودِّ لا يتغير
أمولاي إن الشوق مُرّ مذاقُهُ ... وأنَّ فراقَ الإلف لاشكَّ يعسر
وأني لمشتاقٌ بديعَ جمالكم ... ولستُ على حَرِّ القطيعةِ أصبر
لأنكمُ إنسان عيني ونورها ... وكيف بغير الضوءِ عينيَ تبصر
فجودوا ورقَوا واعطفوا وتفضّلوا ... وَمَنوا بقربٍ وارحموا الصبَّ واعذروا
بقيتمْ وُقيتمْ لا عْدِ مْتُمُوا ... ولا زال راجيكم مدى الدهرِ يجير
فكتبت له عن ذلك جوابًا، صورته:
غبَّ تقبيلنا لتلك الأيادي ... وولاءٍ من مخلصٍ في الوداد
وثناءس يفوقُ نَشْرَ خزامي ... وعلى المسك إذ ذَكَا والزّباد
وسلامٍ مؤكدٍ من محبٍ ... سالكٍ في الورى طريق الرشاد
أن عيني لمَّا تباعد عنها ... شخصكم مسَّها أليمث السّهادِ
قد جفاها المنامُ مذ فارقتكُمْ ... وقلاها من بعدُ طيبُ الرقاد
يا أهيلَ الودادِ إني محبٌّ ... أنتمُ مقصدي وانتمْ عمادي
كيف أسلو وحبكم حلَّ من قل ... بي ومن مهجتي سوادَ السواد
ما قصدتُ القِلى وأن كنتُ في نا ... رِ اشتياقٍ قد احرقتْ اكبادي
ولئن غبتُ عنكم فودادي ... مثل ما تعهدون بل في ازدياد
صحَّ من علةٍ وحاشاه من شو ... ب اختلال يشينه أو فساد
لستُ ممن تكلّف الودّ حاشا ... لمحبٍّ تكلُّفٌ في وداد
وعلى كل حالة حيث ما كن ... ت من الارض قُرْبِها والبعاد
أنني من أقل اعبادكم إذ ... أنتمُ من بين ذا الورى أسيادي
1 / 24