ثم اتفق في تلك الغضون ان ورد أمر شريف للكشف على بلد في أوقاف الدشيشة من قضاء فوة المذكور، بالخطاب لقاضي فوة وقاضي اسكندرية وقاضي رشيد وقاضي دمنهور. فصار بيننا وبينهم مباحثة عظيمة عجيبة، وامور غريبة، ومذاكرة علمية، وشاهدنا من بعضهم قضايا بالقافية، عن للعبد أن يعرضها على مولاه لابرح مرفوع الجناب، ليقضي منها العجب العجاب، أما قاضي رشيد فلاستعماله الكيف بلا متى ولا أين، لا يرى دائمًا إلا وهو مفتوح الفم مضموم العين. فكان ابتداء مصاحبته معنا ان قال: لأي شيء عزلتم النائبين المذكورين فقلت له: هما أولا ليسا بنائبين شرعًا، وثانيًا إنهما مؤذيان طبعًا، وثالثا أن بلغ أرباب الدولة أننا نستخدم اربعة نواب، ربما ينسبوننا إلى السفه وعدم الصواب. على أن محكمة مصر المحمية ليس فيها أربعة نواب شافعية. ثم طال الكلام بيننا إلى أن اقتضى الحال في ذلك الوقت كتابة هذه الرسالة، المعروض بعضها على جناب مولانا مدّ الله تعالى ظلاله، صورتها، بعد البسملة: حمدًا لك يا من نصب القضاة للعدالة، ورفع مناصبهم حيث خفض أرباب الجهالة، والصلاة على سيدنا محمد المسدد في أقواله والمؤيد، وعلى اصحابه والآل، والتابعين لهم بأحسن منوال، ما سطع نور الحق وظهر برهانه، واضمحلت شبه الباطل وخمدت نيرانه. وبعد، فهذه مباحثة صدرت بين الفقير وبين قاضي رشيد - وفقه الله تعالى لكل أمر سديد - وذلك أن القاضي بفوة لما ذهب لأهلها مغاضبًا، ولوظيفة القضاء مجانبًا، وقيل بل تولى هربًا، أو ليبلغ في الارض سببًا، وقلد حضرة الوزير الاكرم، والمشير الأفخم حضرة سنان باشا - أعز الله تعالى انصاره - إذ هو وكيل الخليفة - أيد الله تعالى سلطنته وضاعف اقتداره - قضاء البلدة المذكورة لهذا العبد الفقير، الراجي رحمة ربه القدير. واذن له شفاهًا بالنظر في الأحكام الشرعية، وأحكام الامور الدينية، وجد فيها نائبين تكررت شكاية الرعية من أحوالهما، وعدم استقالتهما في اقوالهما وأفعالهما، وكان نصبهما القاضي في غير محل قضائه، ومكان توليته وامضائه، عرض الفقير أمرهما لحضرة الوزير، فبرز الأمر بعزلهما من جنابه الخطير، لاشتمالهما على ظلامات صريحة، ولكون تولية القاضي وهو في غير محل ولايته نائبًا غير صحيحة، لما قاله في بعض كتب الفتاوي: المولى لا يكون قاضيًا قبل الوصول إلى محل ولايته، فمقتضاه جواز قبول الهدية قبل الوصول وعدم جواز استنابته. فقال قاضي رشيد - أرشده الله تعالى للصواب -: بل توليته صحيحة لان عادتنا معاشر القضاة ارسال المكاتيب بنصب النواب. فقلت له: قد أخطات يا مولانا في الحكم والعلة، ولم تصب في التفضيل ولا في الجملة، وكلامك هذا في معرض الرد والغندفاع، وأن ما استدللت به استدلال بمحل النزاع. ثم بحث قاضي رشيد - ألهمه الله تعالى رشده - وزعم ان تولية الفقير من حضرة الباشا غير صحيحة. فغلطه في كلامه ورده وقال له: ليس الأمر كما تزعم وتقول، وقد نطقت بخلاف قولك النقول، وليس هذا الكلام منك غلا محض الغلط، ولو وفقت على ما ذكره في الملتقط حيث قال: يجوز قضاء الأمير الذي يولي القضاة، وكذا كتابه إلى القاضي إلا ان يكون القاضي من جهة الخليفة، لاحجمت عن مثل هذا الزعم والأقوال السخيفة. وقد افتى بعض المحققين من المتاخرين بان تولية باشا مصر قاضياص ليحكم في قضية بمصر مع وجود ثاضيها المولى من السلطان باطلة، لأنه لم يفوض له ذلك. ومفهوم هذا لا يخفى على من له أدنى عرفان، فلا يشك حينئذ من له في الفضل نوع قوة، في صحة تولية الباشا لهذا الفقير قضاء فوه، لعدم قاضيها كما يؤخذ من عبارة ما أفتاه هذا المفتي بطريق المفهوم، وكون الوزير وكيل الخليفة في مثل هذا الخصوص أمر معلوم. بل نقول على سبيل الترقي لو نصب العبد قاضيًا نيابة عن السلطان، جاز قضاء القاضي كما صرح به ائمة الاتقان فما بالك بوزيره، ومعتمد وظهيره؟! هذا ما نقله أكابر العلماء المدققين، ولا ينكر ذلك ألا جاهل او معاند، نعوذ بالله تعالى أن نكون من الجاهلين، والحمد لله وحده. ثم ارسلتها إليه وقلت له: لابد من إرسال هذه الرسالة مع عرض إلى حضرة الوزير ليطلع على ما ابديته من الجهل الشهير. ثم إنه في ثاني يوم أفاق بعض إفاقه، وأتى إلى منزل الفقير وأبدى الاعتذار بحسب الطاقة. وسألنا في عدم العرض فطوينا عنه صفحًا، وطلب الصلح فتلونا " فلا
1 / 20