وأخبرته، وجزع الفتى ولجأ إلى صديق له في كلية الطب، ولكن صديقه خذله، وذهب إلى طبيب ممن يتقاضون من أجل هذه العملية أجرا فاحشا، ولكن الطبيب ما لبث أن قال لهما: لا، لا يمكن أن تحتمل العملية.
وخرجا وقصدا إلى بيت ماجد. وأطرق ماجد حزينا، ونظرت هي إليه طويلا، ثم قالت له: في أي سنة أنت من سنوات دراستك؟
ونظر إليها مندهشا بعض الحين، ثم قال: ألا تعرفين؟! - قلت لي إنك في السنة النهائية، ولكن الآن أريد أن أعرف الحقيقة. - إذن إنها الحقيقة. - إذن ماذا؟! أراك لا تريد أن تفهم. - وهل تظنين أن ما يمنعني عن الزواج هو دراستي؟ - إذن فماذا؟ - إني فلاح. - وهل لا يتزوج الفلاحون. - يتزوجون ولكن ... - ولكن ماذا؟ - ألا تفهمين؟ - أكاد أفهم. - الفلاحون لا يتزوجون هكذا. - ألست تعرف أنك أول إنسان عرفته؟ - ليس هذا ما أخشاه. - فماذا تخشى؟ - أخشى ألا أكون الأخير.
ونظرت إليه ناهد طويلا. القسوة، كل قسوة في الوجود أرحم من هذا الذي سمعته الآن.
وقامت إلى بيتها كسيرة حزينة، وقصدت إلى البهو وحيدة، تريد أن تبكي فلا تجد الدموع. إنها ليست الأولى في هذا الموقف لا، ولن تكون الأخيرة، ولكن السعيدات الأخريات يجدن فيه من يقف إلى جانبهن، يجدن أمهاتهن، فأين أمها؟ لا يعرف أي إنسان هذه الكارثة التي تشقى بها إلا أمها. فمن لها؟ من؟ لا أحد. لا أحد. لماذا فعلت بنفسها هذا؟
إنها تدري لماذا. تدريه حتى لتحسب أنها تعود إلى ما فعلته مرة أخرى إن عادت الأيام القهقرى، إلا أنها كانت تتمنى أن تجد في ماجد الرجل الذي توهمته، أو تجد من الزمان بعض عطف يعوضها عن عطف الأبوة أو الأمومة، ولكن لا؛ فالزمن المفترس لم يشأ أن يهب لها شيئا مما يهب للأخريات. أي فضل للأخريات إن يكن شريفات؟ لماذا يسقطن؟ وهل كل الرجال مثل ماجد، هذا الذي صرع مستقبلها بما فعل وشرفها بما قال؟
وجلست إلى المكتب وراحت تفتح أدراجه، والتقت مرة أخرى بالمسدس، هذه اللعبة التي تجتث حياة الناس إنها تريدها الآن، تريدها بكل خلجة من خلجات نفسها.
أمسكت بالمسدس وجلست، ولم تطل بها جلستها؛ فسرعان ما دخل إليها زوج أمها، وقبل أن يقول في صوته العنيف الطاغي ماذا تفعلين، كانت هي قد أطلقت الرصاصة الأولى، وترنح الرجل الشامخ، فأتبعت رصاصتها ثانية فثالثة فرابعة، حتى صارت تضغط على الزناد فلا يطلق إلا فراغا، ولم تبال فراغ المسدس من رصاصه، بل راحت تضغط وتضغط.
الظل
تفضل يا سيدي بالجلوس، لا لن تجد منضدة خالية؛ إن المقهى الآن بالذات لا تخلو فيه منضدة. لعلك لا تعرف هذا المقهى يا سيدي، إنه مقهى الموسيقيين وأفراد الكورس، وهم الآن يتناولون غداءهم ليعودوا إلى الإذاعة، وهكذا تجدهم يزحمون المقهى، في هذا الوقت بالذات يزحمون المقهى، ثم هم إذا فرغوا يجلسون هنا أيضا ليجدهم من يريدهم في عمل. لماذا تظل واقفا يا سيدي؟ تفضل يا سيدي بالجلوس. لا، لا تندهش. إن كلمتك دون سابق معرفة فإني كثيرا ما رأيتك، وجهك مألوف بالنسبة لي، ثم إنك ستسدي إلي معروفا كبيرا إذا جلست؛ فإني أريد أن أتكلم، أريد أن أقول، وكل هؤلاء سمعوا ما أريد أن أقوله، ولكني مع ذلك أريد أن أقوله مرة أخرى. تفضل بالجلوس وأعدك أنك لن تشعر بالملل فحكايتي - على كل حال - لا تجلب الملل. شكرا، والآن هل تأمر بقهوة أم بكازوزة؟ أنا الذي سأدفع فإنه يسعدني أن أجد من أحكي له. لا شك أنك تريد عبد المنعم قاصد. أنت شاعر وهو يلحن لك، أليس كذلك؟ نعم أنا متأكد. سيأتي عبد المنعم حالا. كازوزة؟ حسنا. يا كوشة، يا كوشة، زجاجة كازوزة وحسابها عندي، وعجل يا كوشة. أتريد أن تسمع الآن؟ أولا أحب أن أعرفك بنفسي، أنا يا سيدي جزء على عشرة من إنسان، وأحيانا أنا جزء على عشرين من إنسان، وأحيانا ولكن قليلا ما أصبح جزءا على ثلاثين من إنسان، وعلى كل حال أنا لست إنسانا كاملا، لم أكن كذلك في يوم من الأيام. تصور أنني حتى وأنا في بطن أمي كنت نصف إنسان. نعم، إن لي أخا توأما شاركني المكان الوحيد الذي يمكن أن أكون فيه إنسانا كاملا، واحدا صحيحا. وحين نزلنا إلى الحياة ظللت أحس أنني لست إنسانا كاملا. العجب أن هذا الشعور لم يكن يراود أخي أبدا! كنت أسأله: أتحس أنك إنسان كامل؟
Halaman tidak diketahui