تركت بيتي وعشت وحدي لاحقتني من زوجتي القضايا، ومن أولادي المطالب، ولم أستطع في غمرة القضايا والمطالب أن أتخلص من الملالة؛ فحياتي وحدي مملة كحياتي مع زوجتي وأولادي؛ فعدت إلى بيتي والملالة تلاحق مواكبي أنى سرت.
خضعت ورضيت من بيتي أن أكون المصنع الذي يخرج لهم ما تحتاجه حياتهم من مال.
وأنا في وظيفتي ملول، الديوان هو الديوان، والجدران هي الجدران، وإن تبدل الزملاء بزملاء، إلا أن الأحاديث هي هي، لا تتغير؛ تعليق على أخبار الجرائد وليس في الجرائد شيء جديد. من قرأ من التاريخ ما قرأت استطاع أن يعرف عن ثقة مؤكدة أن ليس في الجرائد جديد. ما كان في التاريخ البعيد هو أخبار الساعة؛ قوي يقهر وضعيف يشكو، ودول تتطاول وتستكبر، ودول تتطامن وتستذل. هكذا التاريخ، ولكن صحبي لا يقرءون التاريخ وأنا قرأته؛ فهم يعلقون على الأخبار وكأنها جديدة، ولو عرفوا الذي عرفت من الماضي ما أحسوا من حاضر أيامهم حلاوة، بل إنني أستطيع بما قرأت أن أقول لهم ما تخبئه الأيام من أخبار؛ فالتاريخ أيضا ممل يتكرر ولا يتجدد، يعيد نفسه في كسل وتراخ، وكأنما أدركه الكبر أن يأتي بجديد.
وقد يعلق بعضهم على الكرة، وتلك عجيبة من العجائب بلا جدة فيها أيضا، ولست أدري كيف يمكن الحديث عن الكرة؟ إنما هي فريقان يتلاعبان ويغلب فريق فريقا. كل ما أفهمه في هذا الأمر أن أشاهد ثم لا أعلق، وإنما إخواننا من الزملاء يعلقون ويتمادون في الحديث فيطول ويطول، وأنا أكاد أموت غيظا وملالة، فلا جديد في هذا الحديث أيضا؛ فقديما عرف الناس التفاهة في اختيار موضوع النقاش، وما تنازلوا عن تفاهتهم حتى اليوم.
وقد يحدث - ولكن قليلا ما يحدث - أن يتناقش اثنان في الأدب، وفيما تكتبه الجرائد من قصص، هذا الوباء الذي أصبح متفشيا في أيامنا هذه، ولا أجد فيما يقدمونه جديدا؛ فقديما قال عنترة بن شداد: «هل غادر الشعراء من متردم؟» فإذا كان هذا الشاعر الجاهلي قد يئس أن يقع على جديد منذ هو في الجاهلية، وقد عدوناها اليوم بألف وأربعمائة عام وتزيد، فأي جديد يمكن أن يأتي به الأدب؟ أجل لقد قرأت الأدب القديم حتى أفنيته، ثم قرأت في الأدب الحديث حتى مللته، وأصبحت لا أجد فيما أقرؤه طرافة، ومن أين وقد قطع عنترة عليهم الطريق منذ عشرات القرون والأجيال؟
قرأت المسرحيات، فأما ما كان منها على نمط قديم، فهو يزيدني ملالة، وأما ما كان منها على النمط الجديد، فقد طوح بي إلى مجاهل القدم، أكثر مما فعل المسرح القديم ذاته. متى كانت الخرافة شيئا جديدا؟ إنها قديمة قدم الأوثان، بل إنها أعظم منها قدما، وأشد منها إيغالا في غياهب الأزمان الغابرة.
لا شيء جديد في هذه الدنيا، لا شيء جديد. أم ترى أنا وحدي الذي أحس بهذه الملالة لكثرة ما قرأت؟ لست أدري. إنما ما أدريه أنني كنت أحسد كل من يبتسم، وتقتلني الغيرة من كل ضاحك، فإذا رأيت اثنين يتحادثان منهمكين في الحديث، رحت أصوب إليهما عينين نهمتين، وكأنما يتقاسمان أموالا مكدسة لا تخصني. إنهما يتبادلان الحديث، ومعنى هذا أن هناك موضوعا بينهما يشغلهما، فهما يتحادثان فيه، ويهتمان به، وينسيان الملالة ولو لمدة لحظات.
سافرت، سافرت إلى جميع مدن القطر المصري. ماذا؟ أي جديد في هذا؟ ما رأيته في الوجه القبلي هو ما رأيته في الوجه البحري. ولا تسلني عن القرية. ويلي من الريف والقرى. ما أكذب هؤلاء الكتاب الذين يتحدثون عن هدوء ومتعة الريف! أجل ما أكذبهم!
وعدت إلى القاهرة وقد ازدادت ملالتي ملالة. لم أجد شيئا أفعله آخر الأمر إلا أن أنظر إلى وجوه الناس، إنها الشيء الوحيد الذي لا يتكرر. لا تصدق أنه يخلق من الشبه أربعين، لا أربعين ولا حتى اثنين، لكل وجه ملامحه الخاصة، وهي تعبر عن أخلاق خاصة، ولن يشترك اثنان في الملامح أبدا، ومهما يكن التشابه فلا بد أن تجد فارقا، وفارقا مميزا واضحا.
حذار أن تظن أن نظري إلى وجوه الناس أبعد عني الملالة أو قللها، إنما كان هذا مظهرا من مظاهرها، ولم أجد ما أنفق فيه ملالتي إلا الوجوه، ولا أخفي عنكم لقد كنت أحب وجوه الناس. واسخر معي ما شئت من هؤلاء الذين يحبون الجمال الطبيعي بغير أحمر أو أبيض. إن هذا الأحمر والأبيض شيء جميل. وكم صعقت يوم تفتق ذهن أساتذة المودة عن الدهان الذي يضعونه على شفتي المرأة بلون الطبيعة! أغبياء. من قال لهم إننا نريد أن نرى اللون الطبيعي؟ فلماذا تضعنه إذن ما دام المطلوب هو اللون الطبيعي؟ صدقني، كلما رأيت واحدة منهن يخيل إلي أنها أكلت زبدة ثم تجمدت الزبدة على شفتيها.
Halaman tidak diketahui