فلا مندوحة له إذن من أن يختار موظفيه من أبناء الحلال! فلا يقبل بتعيين من لا يكون من ظهر أبيه زوج أمه! ولما كان يأخذ الفكرة على معناها الحقيقي الحسي، شرع يفكر بالحصول على الأدلة الحسية في ولادة الأبناء، وهل لتحري ولادة الأبناء من وسيلة غير التجسس على خفايا الحياة الداخلية في البيوت وفي خارجها؛ أي في كل ما يتصل بالحياة العائلية الصميمة بسبب؟!
وهكذا فقد ضاق الناس ذرعا بنوع من التجسس، اعتمد عليه ذلك الملك في اختيار الأكفاء العادلين من القضاة والحكام والموظفين، فعيونه التي كان يبثها في جميع أنحاء المملكة لتتجسس أمور العائلات في صميم حياتها الداخلية، ولا سيما في تصرفات الزوجات ليتحقق ولادة أبناء الحلال، فيدون أسماءهم في سجل خاص يرجع إليه عند الاختيار، أقلق الناس وأزعجهم، وشوش عليهم راحتهم واطمئنانهم، وقد أدرك الملك أنه يزعج رعيته من حيث يريد راحتها، فارتبك واضطرب، وأخذ باستشارة المقربين إليه .
وما أن انتشرت أخبار الملك وأحواله في تشوشه واضطرابه بين خاصة الناس، حتى وصلت إلى دجال مشعوذ من السحرة كان يسكن في أطراف المملكة، وكانت له شهرته في جميع الأرجاء. وجد الدجال في هذه الجهة من ضعف الملك فرصة مؤاتية لإشباع شهواته، وبلوغ أغراضه من مال وجاه وتحكم؛ فشد الرحال وقصد العاصمة، معتمدا على ما كان للسحرة من مكانة عظيمة وشأن كبير في تلك العصور، ولا سيما إذا كانوا ممن يتقنون فنون التغطية والتدليس، ويحسنون القيام بأنواع المهارات في الدعاية والتمويه والتلبيس.
لم يصل الساحر إلى العاصمة حتى أثار حول اسمه ضجة مفتعلة، استعان على إثارتها بالمال وبأتباع موعودين، إنه ذكي فطن، يعلم أن كل معروض مهان، فأراد أن يكون مطلوبا، يطلبه الملك فيصطفيه، لا طالبا يعرض نفسه فيتهم ولا يثق به أحد، وقد حصل له ما أراد، فما وصل اسمه إلى الملك مقرونا بضجة الدعاية والتمجيد، حتى استدعاه إليه يستنير بعلمه، ويستعين بقدرة اطلاعه على الغيب، والتكهن بما يخبئ المستقبل له ولرعيته من حوادث وتقلبات؛ عله يجد لديه وسيلة تنقذه وتنقذ الشعب من ذلك المأزق، وقد أوقعته فيه عقيدته المستقرة في أعماق فؤاده.
دهش الملك مما وجد عند ذلك الساحر من علوم وفنون ومهارات تحير الأذهان والعقول، ومن بيان يزخر كالبحر، وطلاقة لسان تسابق الرياح في أعصارها، ولا غرو، فالسحرة لا يكونون من البلداء المغفلين، ولا تجد المشعوذ بين الجهلة الأغبياء الأعياء، وطلاقة اللسان عند المشعوذ وسهولة البيان عند الساحر مضرب مثل عند الناس.
فلم يكن من الغريب إذن، وقد أدهش الملك الطيب أن يؤخذ بسحر الشعوذة، وأن يثق بمن يمثل هذا السحر بين يديه، فيفضي إليه بذات نفسه وبما يجد من حرج وضيق.
الفصل الثاني
قال الراوي: لم يكد الملك الطيب القلب يفضي بما في نفسه، حتى بدت على وجه ذلك الدجال المشعوذ أمارات الارتياح والاهتمام، ارتاح ارتياح الظافر الداهية، بعد أن استسلم إليه الملك وأطلعه على كثير من أسراره الخاصة ومن أسرار الدولة، فأصبح بين يديه كالطفل يطلب العون من والده، أو كالتلميذ يلتجئ إلى أستاذه؛ ليساعده على إزالة ما في نفسه من قلق، وليرشده لما يصلح شئون الدولة لتنقذ مما هي فيه من اضطراب، وكثيرا ما كان ضعف العظماء أمام بيان مثل هذا المشعوذ من السحرة الدجالين سببا لمصائب ونكبات منيت بها الأمم في مجموع كياناتها وفي أفرادها.
نجح الدجال المشعوذ وقد بلغ ما أمل، فأصبح مطلوبا، وزاد في أهمية نجاحه استسلام الملك إليه، استسلاما كان فوق ما أمل وانتظر، فلا غرو إذا أظهر التواضع والخضوع والتذلل، وأبدى كثيرا من اهتمام من يفاجأ بالمشكلة، فلا يستطيع أن يرتجل طريقة حلها؛ فيطرق متأملا مفكرا، يثبت نظره في الأرض حينا، ويغمض عينيه إغماضة تامة، أو نصفها حينا آخر؛ حتى تتقد القريحة فترسل شعاعا من نور نورها يضيء له الطريق ليجد الحل الملائم.
أتقن مشعوذنا تمثيل دوره هذا، وقد سبق وهيأ في نفسه كل شيء قبل أن اجتمع بالملك، وقبل أن فاز باستسلامه، فلا حاجة به للتفكير ولا للإطراق، ولكن الشعوذة فن كله تغطية، وكله تدليس وتلبيس، وكله تصنع وافتعال. أطرق الساحر طويلا وإنه ليطيل زمن إطراقه مسترقا النظر إلى وجه الملك؛ حتى إذا ما ظهرت على هذا الوجه أمارات نفاد الصبر تشوقا إلى استماع درر الحكم، وإلى التأمل فيما ينبثق عن ذلك العقل العبقري في صفاء تفكيره من نصائح وتعاليم وإرشاد، تحرك برأسه وبأعلى جزعه حركات خفيفة، رفع على إثرها رأسه، وعيناه ذابلتان كمن يستفيق من نوم عميق أرهقه بأحلامه، فتنهد ثم التفت إلى الملك وقال: يا صاحب الجلالة، أتسمح لعبدك الذليل الحقير أن يكون صريحا في حديثه وعليه الأمان؟ فاضطرب الملك وقدر لهذا الحديث أهمية عظيمة، وقال له: أنت أمين مهما كان في قولك من تجاوز. - أنحن في نجوة من آذان الناس وأعينهم حتى من أقرب المقربين؟
Halaman tidak diketahui