الفصل الثامن
قال الراوي: لم يخرج المجتمعون من دار الأستاذ الجليل حتى تنفس التلميذ الشاب الصعداء بتنهد عميق، قهقه له الأستاذ قهقهة طويلة داوية، ثم التفت إلى تلميذه قائلا: ما لك تتخذ وضع من ألقى حمله الثقيل عن عاتقه؟ ألهذه الدرجة ثقلت على نفسك هذه الأحاديث؟ فما أشد ما أزعجك مجلس هؤلاء الوجهاء الكبار! قال الأستاذ ذلك، وأثر القهقهة لا يزال مشعا على وجهه بابتسامة عريضة شجعت التلميذ على أن يلقي عليه هذا السؤال: قل لي بربك: أي باب من أبواب السحر ألقيت اليوم على هؤلاء الناس، حتى تبدلت السماء غير السماء والأرض غير الأرض؟! عهدي بك قبل اليوم تبذل الجهود الجبارة، وتستخدم وسائلك السحرية على اختلافها؛ لتتصل بواحد من هؤلاء، وقد تنجح وقد لا تنجح، وإذا نجحت فكنت تتملقه أكثر مما يتملقك حتى تستولي عليه بعد طول زمن، فتستبد به، وتبتز ماله وقلبه وضميره، فماذا حدث في أقل من نهار فارقتني فيه، حتى جاء كل هؤلاء يتسكعون على أعتابك، ويحرقون لك بخور التذلل والإعجاب والإكبار دون حساب؟
هنا أرسل الأستاذ الجليل قهقهة ثانية كانت أشد دويا من الأولى، ثم جلس على مقعده المتواضع مفرشخا رجليه، مسترخيا في وضع جسمه ويديه، شأن من يستريح استراحة الظافرين بعد الجهاد والكفاح والعناء، ثم التفت إلى تلميذه المشدوه وقال له: يا لك من غر جاهل! أنسيت مقدرة أستاذك وخبرته الواسعة في العلوم الروحانية، وما يستخدمه من جنود العالم التحتاني وملوكهم؟ ما لك! ألا تذكر عوالم الأفلاك، وقد حدثتك أنها تساعدني بما أستحضره من أرواحها؟ أتتناسى شمشريخة وشمشروخ، وبخبخانة وبخبخون، والزوبعانة والزوبعون، والزعزعانة والزعزعون، وتلك الداهية الحيزبون، والمارد المأفون وشياطين الجنون؟ ما لك تتباله؟ هل تستعظم ما رأيت على من يسيطر بسحره على ملوك الجان جميعا من أحمر وأصفر وأبيض وأسود وأزرق وأخضر ومن سائر الألوان؟ ألم أسمعك يوما صوت الملك الأصفر وحديثه، واعدا إياك بأن أجمعك يوما بكل هؤلاء؟
ارتبك التلميذ واضطرب، وأكد لأستاذه أنه لم ينس شيئا من كل تلك الدروس التي تلقاها، وأنه على أحر من الجمر، في انتظار اتصاله بعوالم الأفلاك والجان والمردة والشياطين والأرواح، ولكنه مدهوش من تلك السرعة؛ سحر بها هؤلاء الناس، فهو يتساءل عن أبواب السحر التي ألقاها ليستفيد ويتعلم، ولا ينكر على أستاذه قدرته وسلطانه.
ولم يتم التلميذ حديثه هذا حتى ظهرت عليه بوادر الخوف، وأمارات الاضطراب خشية من غضب الأستاذ، وهو لا يريد إغضابه لأمر يخفيه، فليس من مصلحته إذن أن يقوم بما يجافيه، على الرغم من شدة معرفته بسوء مآتيه، وستبدو الحقيقة في سياق هذه الحكاية لمن يلقي سمعه، ويفكر بتأمل وشعور، لذلك كله أخذ التلميذ يعتذر، والأستاذ يزور عنه حينا ويلين حينا آخر، ثم يتجهم ويزبد ليبتسم ابتسامة صفراء يعقبها بتأمل مريب، وهي أحوال تعودها التلميذ، وتبدو من الأستاذ كلما توهم في تلميذه ترددا أو ارتيابا، إنه يريد منه إيمانا صادقا لا شائبة فيه، وهذا ما أكده الشاب مقسما الأيمان على إيمانه بمآتي أستاذه، وأنه إنما يريد الإفادة من علومه بأسرع ما يمكن، فإن الشوق لمعرفة تلك الحقائق يكاد يحرقه ويضنيه.
فافتر ثغر الأستاذ الجليل عن ابتسامة اطمئنان ورضى. وربت على كتف تلميذه مشجعا، وأنبأه عن تلك الأبواب التي سأل عنها بما يأتي: قلت لك: إن أبواب السحر كثيرة، نستعمل منها ما يقتضيه الحال، وقد ألقيت اليوم على الناس وعلى مليكهم أبواب الدهشة والغفلة والانجذاب، فأصبحوا على ما سمعت ورأيت يصفقون ويهتفون، ولا يعلمون شيئا عما تنطلق له حناجرهم، ويجهلون كل شيء عما يستخدم في العوالم الخفية لتحريك أيديهم وتوجيه عيونهم وقلوبهم، إنها الغفلة، وهم تائهون لا يستطيعون لحماستهم هذه دفعا، وهم بذلك كله وبأبواب غيرها من السحر أستعملها بعد حين، يهيئون للباب الأعظم في سحرنا وهو باب الصرعة،
1
باب يغيبهم عن ذاتهم، فيستسلمون به لإرادة الساحر استسلاما كليا، فلا يخالفون له أمرا، ولو أدى بهم ذلك إلى الهلاك، وسأرسل للملك في هذه الليلة شياطين الوهم؛ فيصبح في خلوة الغد أطوع من بناني برفق وحكمة، إذ يتعذر صرع الملوك لهيبة السلطان، ولكن الوهم أشد فعلا في نفوسهم، وأقوى تأثيرا في قلوبهم من باب الصرع في السوقة، إلا أنه يتطلب كثيرا من الحنكة والذكاء، وسترى إذا صبرت وتريثت العجب العجاب.
قريبا وقريبا جدا ستتبدل هذه المقاعد الخشبية القاسية المتواضعة، فتصبح وثيرة من الأبنوس والذهب، وسترى عليها وعلى أرض الدار والغرف مساند الديباج وطنافس الحرير الموشاة بالفضة والذهب، شأن الملوك العظام، نعم، سأصبح الملك غير المتوج في هذه البلاد، وهنا تحرك صدره بتنهد الجشع الطماع، ينتظر لمآربه الفوز والنجاح، وغرق في تأمل عميق تهيبه التلميذ، ثم رفع رأسه بتؤدة ووقار، وثبت عينيه في عيني تلميذه وقال: نعم، سأكون ملكا غير متوج، وستكون إذا صبرت وصدقت من وارثي مغانم هذا الملك، وستنتقل أمجاده فيك وفي أولادي وسائر تلاميذي إلى الأحفاد إلى الأبد، إنني لا أرغب في التاج، فسأتركه للملوك وأبنائهم، سأتركه على رءوسهم وسيلة أتلاعب بها بعقولهم، وأسيطر بها على قلوبهم، إنهم يتعشقون التيجان، فليهنئوا بها، ولتظل قلوبهم متعلقة بها؛ لتشعل نفوسهم بها، فنتمتع نحن بالخيرات، وننعم نحن باللذات والمسرات، نجمع الثروات والأعوان، ونخضع الناس، ونسخرهم لمتاعنا على حساب خوف الملوك على تيجانهم، إنهم يحبون التيجان حبا جما، فليحتكروها، فإنها من أشد القوى التي تستخدمها شياطين الوهم، وبها تهيئ الملوك لسائر أبواب السحر، ولباب الصرعة في كثير من الملابسات، إنني لن أزاحم الملك على تاجه، ولعلي أقدم له تاجا آخر أرسله مع الوهم، لم تكن التيجان تتعلق بها قلوب الملوك سوى وسيلة قوية من وسائل نجاح أمثالنا، ممن يعرفون كيف يغتصبون متع الحياة اغتصابا على رفاة المغفلين من الناس والمغرورين المخدوعين من الملوك، اصبر وآمن، واصدقني الخدمة تكن أسعد الناس، فكن مطمئنا. قامت في نفس التلميذ هواجس وهواجس، ولكنه التفت إلى أستاذه، وقال: آمنت وصدقت بجميع ما تقول، ولكن لم تنبئني عن شأنك مع شداد، ذلك الملك الجبار الواقف على الأبواب، والمتربص شرا بالملك، وبما في مملكته من رعية وعبيد؟ فقهقه الساحر قهقهات متقطعة قوية، قه، قه، قه، قه، ثم قال لتلميذه: إنك لغبي مغفل، وهل لمن له طموحي ومآربي أن يفكر في من يملك على البلد؟
ما الفرق عندي بين ملكنا وبين شداد؟! ليحكم البلد من شاء وكيف شاء، فالمهم أن أتسلط على قلوب الناس، ومتى أصبحت قائدا لعقولهم موجها لقلوبهم، يحتاج إلي صاحب التاج سواء أكان ملكنا هذا أم شداد أو غيره، لا تخش من الملوك من يتعلق بالتاج، ما دمت ذكيا تعرف كيف تتلاعب بالألفاظ، وكيف تلقي في السحر أبوابه، وتخضع السوقة من الناس بصرعهم، إنما يخشى أمثالنا الملوك الزاهدين ببريق جواهر التيجان المحبين لرعيتهم العاملين على مصالحهم بالعدل والإنصاف، فإذا ما ارتبطت الرعية بملكها بروابط تبادل الحب واحترام المصلحة العامة، وتحقيق الحرية والعدل بطل السحر والساحر، ولم يعد لأرباب المطامع والمآرب منا أي ميدان للجولان.
Halaman tidak diketahui