عندئذ تحرك الرجل الذي في الزاوية، ولم يكن قد نطق ببنت شفة، ولعله كان من الأذكياء الخبثاء، فأراد تغيير مجرى الحديث فقال: نرجو ألا يكون حادث الشابين قد أزعج مولانا، ولم يتم كلامه هذا حتى انبرى من كان أمامه، وأظهر استخفافه بذلك الحادث بقوله: ومن هما هذان المأفونان حتى يكترث لهما مولانا الأستاذ؟! إنهما من السوقة، وسينالان جزاءهما بقسوة لا تعرف هوادة، يجب أن ننقذ المملكة من هؤلاء الغوغاء ومن شرورهم، فرد عليه ثالث قائلا: علمت أنهما أرسلا إلى مستشفى المجانين لاعتقاد الناس أنهما مجنونان، إذ لا يقدم على ما أقدما عليه عاقل، فتنحنح الأستاذ وقال: إن في الأمر سرا، فما تعودنا أن نسمع من صبية الغوغاء ولا من غيرهم مثل هذه العبارات، إنها لقضية حرية بالاهتمام والدرس، نعم، إنها ظاهرة جديدة في هذه المملكة، وهي جديرة بالانتباه والدرس والتفكير، بهذا صدق كبير الحاضرين على رأي الأستاذ، وطلب إلى الجالس إلى جانبه أن يوضح لهم الأمر، وكان هذا عينا من عيون وزير الميمنة، والكبير رئيس ديوانه وأمين سره.
فالتفت العين (أي الجاسوس) إلى الأستاذ، ووضح الأمر على الوجه الآتي: بلينا منذ بضع سنوات برجل من السوقة يدعي أنه يعرف العلوم، ويتظاهر بالفلسفة والزهد والتقشف، ومنذ سنتين بدأ الشبان يلتفون حوله ويتأثرون بأقواله، وقد اتصل بي أن بعض الشابات أيضا يجتمعن إليه سرا، ويتلقن منه مع الشبان آراء سخيفة ما سمعنا بها، ولا طرقت على آذان أبنائنا ولا أجدادنا الأولين، منها: أن الناس متساوون في الحقوق، ولا يحق لأحد أن يستعبد أحدا، والشعب في نظره هو السيد، ولا يجوز أن يحكم إلا بإرادته ولمصلحته، وهناك كلمة كثيرا ما يرددها وهي جديدة علينا، آه مالي قد نسيتها؟! إنها ... إنها على رأس لساني، إنها الديمو ... قرا ... طية، ويقول: هي حكم الشعب بإرادة الشعب لمصلحة الشعب، وهو يتوسع في أحاديثه في بيان معانيها وأهميتها وعلاقتها بكرامة الإنسان، لدرجة يدوخ بها سامعيه، فتدور رءوسهم ويفقدون حواسهم، فما قولكم بالشباب حين يسمعون هذه الأفكار المدوخة؟ ألا يكفيهم ما فيهم من دوخة الشباب ودواره؟ سمعته مرة يتكلم فدار بي رأسي، وما عدت أعرف إذا كنت على الأرض أم في السماء أم بينهما، إنه خطيب قوي العارضة، فصيح اللسان، جريء الجنان، صريح لدرجة الجنون، ولا أنكر عليكم أنني كدت أفتتن به، ولكن حبي للمليك ولوزير ميمنته حفظاني، والشكر لله ولحبهما من هذا السخف الذي يؤدي - ولا شك - إلى الجنون، فهذان الشابان هما دون ريب ممن فتنهم رجل السوء وأفسدهم، أما أنا فلم أعد إليه بعدها أبدا، وصرت أستقي أخباره من الناس ولا سيما من الشباب.
وما انتهى الجاسوس من حديثه حتى شهق الجالس أمامه، وكان يستمع إليه بدهشة وجزع، وهو فاغر فاه، واستعاذ بالله من هذا الضلال المبين، وإذا الأستاذ الجليل قد انقبض وجهه، وتربد لونه، وأخذ يتمتم بعبارات وكلمات لم تفهم، ثم أفصح غاضبا حانقا فقال: إنها الشعوذة المضللة والدجل المجرم، أسيادة الشعب يريد هذا الكذاب الجاهل؟ وهل يعني هذا سوى سيادة السوقة والغوغاء؟ وهل بلغ الغرور في الشباب حد الانهيار حتى يسقط في هوة هذه المفاسد وهذا الضلال؟ سيادة الشعب! سيادة الرعاع! وهل من سيادة صحيحة لغير صاحب الجلالة، وهو إنما يحكم بالحق الإلهي، ويستمد القوة من ربه، ولا فضل عليه لأحد، ولا يسود بعده من الناس إلا من يريد هو له هذه الرتبة من الأشراف والحكام، وهو ينزعها عنهم متى شاء، إن للكون إلها يدبره، وهو ملك الملوك ورب الأرباب، ولكل مملكة ملك يدبر شئونها، وهو ربها بإرادة الله لا بإرادة الناس، وهذا هو ولي النعم، ومالك رقاب العباد. الشعب، السوقة، الرعاع، الغوغاء، متى كان لهؤلاء حق الكلام؟ إنهم جميعا عبيد الملك ورعيته، وليس لهم إلا ما يمنحون من قبله من خير وحقوق، والله لولا التقى لقلت بما قال به الأقدمون: إن الملوك من أبناء الآلهة، بل هم آلهة بالفعل، أستغفر الله العظيم.
وهنا وقف الأستاذ الجليل، والغيظ آخذ منه مأخذه، والتفت إلى الحاضرين متكلفا الابتسام والهدوء وقال: اطمئنوا، فلن يطول أمر هذا الدجل، وسيكون لهذه الشعوذة الضالة نتائجها المخزية، نعم، يجب أن نتعاون جميعا للقضاء على الدجالين المشعوذين، حفظا لنظام الدولة، وصونا لهيبة السلطة والحكم، فانفرجت الأسارير، وكان وقوف الأستاذ إشارة إلى انتهاء المجلس، فودعوه على الشكل الذي به استقبلوه، وأخذوا يسيرون القهقرى، إذ لا يليق أن يديروا ظهورهم لهذا الجليل، إلى أن بلغوا باب القاعة، ومنه انصرفوا مأخوذين وفي نفوسهم أشياء وأشياء، بعد أن انقلبت الشعوذة حقا والحق شعوذة، وتبدل الكفر إيمانا والإيمان كفرا، فسبحان محير العقول!
الفصل السادس
قال الراوي: خرج الناس سكارى من لدن ذلك الأستاذ الجليل وما هم بسكارى، ولكن تضارب المتناقضات واصطدام الحق بالباطل والحقيقة بالشعوذة، ثم انتصار الباطل على الحق وفوز الشعوذة، كل هذا بالحقيقة في تلك الجلسة، جلسة الإفك والرياء والنفاق، أضاع صوابهم، فشعروا بخلل توازن التفكير في نفوسهم، وضاقت بهم بؤرة الشعور.
فالإنسان مهما بلغ به السخف والحمق والجهل، ومهما بعدت في منازعه الغايات والمآرب والأهواء، يظل أمينا على نزعة الخير في إنسانيته ولو في سر فؤاده، وإلا كان استمراره على السير بغرائزه الحيوانية أقرب لواقعه من سير إنساني يدفعه لبناء الحضارات والمدنيات، ولولا هذه الخميرة في فطرة الإنسان لما اختمر في ثورة الحق على الباطل أي عجين.
والإنسان كائن عجيب، إنه غامض في نموه وفي تكوناته، وحياته في تعقد يستمر تزايد العقد به، وفيه باستمرار تقدم الحضارة في مناحيه، فإن لم تتداركه الثقافة في أدق معانيها رجع القهقرى، وانحرف في كل أموره وفي توازنه، فقد يتوازن في ذاته مع مجتمعه، وهذا هو التوازن المستقيم المنقذ، وقد يتوازن في ذاته لذاته فيكون توازنه منحرفا، وهذا ما وقع للخارجين سكارى مضطربين من دار الأستاذ الجليل، فإنهم في حين شعروا بخلل التوازن في تفكيرهم، لم يحاولوا بلوغ التوازن المستقيم مع المجتمع الذي يحيون به وفيه، بل استقروا على توازن منحرف، وهم لو حاولوا الاستقامة في توازنهم لاجتمعوا إخوانا يتعاونون على نصرة الحق والحقيقة وخذلان الباطل والشعوذة، ولكنهم توازنوا مع فردية أنانيتهم، فتفرقوا زمرا متباعدة الأهداف ومختلفة المنازع والغايات، فكان رئيس ديوان وزير الميمنة وجاسوسه زمرة انفصلت عن سائر الصحب، بعد أن أجريت مراسم التوديع حسب الأصول، وكون المشدوه الذي شهق واستعاذ بالله زمرة ثانية مع بعض الرفاق سارت في زقاق يتفرع عن تلك الطريق، ولم يكن رجل الزاوية وحيدا عندما انصرف ورفاق له من زقاق آخر، وهكذا تعددت الزمر، وافترق الأصحاب وفي نفوسهم أشياء وأشياء، عبروا عن بعضها في سيرهم، وهاك مقتطفات من تلك الأحاديث: لم يعلق أي منهم بكلمة على ذلك المجلس عندما خرجوا مجتمعين، بل اكتفوا بابتسامات لها معانيها، وبتحيات تنم أوضاعها عن الحذر، فلم يكونوا يثقون بعضهم ببعض لاختلاف المآرب والغايات، ولكن لم ينفرد الرفاق المتحدة أهدافهم نوعا، حتى ظهر كثير مما تكنه هذه النفوس.
التفت رئيس الديوان عندما أحس بخلو الطريق، وسأل رفيقه عن رأيه بالأستاذ الجليل. - إنه ذكي ولا شك، ولكني لا أستطيع تقدير درجة علمه، لأنني لست من العلماء، ولست من الأتقياء الورعين ليتيسر لي الحكم على تقاه وورعه، فمثلنا ينخدع بهذه المظاهر، وبها قد تؤخذ الشعوب، ولا سيما عامة الناس فيها. - ليس هذا ما أردت يا غافل، أنسيت المهمة التي جئنا من أجلها؟ - عفوا، إنك تقصد ما أوصانا به مولانا الوزير، إن الرجل ولا شك مشعوذ ذكي ودجال خطر، يمكن استخدامه لمصلحة الوزير ولكن على حذر، ويجب أن نتصل حالا بمولانا الوزير لنعلمه بكل شيء حتى يهيئ نفسه للاجتماع به صباح الغد، ولعلك أبلغته عن نية الوزير بزيارته؟ - نعم، همست في أذنه بما أمر به مولاي الوزير.
وقد استمر حديثهما التحليلي الناقد حتى بلغا قصر وزير الميمنة، وسيكون له شأنه.
Halaman tidak diketahui