(1) نواميس اجتماعية
منذ أكثر من عشرين عاما كنت أتولى تحرير مجلة «القضاء الشرعي»، فنشرت فيها مقالا من رسالة لأحد أبناء المدرسة عن «اجتهاد عمر» خاصا بالتطليق ثلاثا بلفظ واحد، وأغضب هذا المقال من أغضب، حتى استدعيت من الريف سريعا لأدرك المجلة وقد تعرضت لخطر مخيف على حياتها، فكتبت في افتتاحية العدد التالي (صفر سنة 1341ه) كلمة أهدئ بها النفوس، كان مما قلت فيها:
لم تنشر المجلة ذلك رأيا لها أو مذهبا، ولم تعلق عليه باستحسان أو تحبيذ، ولم يجئ في سياق الكتابة نفسها ما يشعر بدعوة إلى جديد، أو حمل عليه، أو تحسين له، ولكنه بحث نظري محض، كتب للخاصة من المتفقهة، يروضون فيه النظر، ويمرنون الفكر، ولهم أن يفندوه وينقضوه، ويردوا عليه بما شاءوا، والمجلة تتقبل ذلك بصدر رحب وقبول حسن، ولا سيما إذا ذكرت أن البحث نظري محوج إلى التمحيص، ويحسن فيه الأخذ والرد ...
إلى كلام آخر في هذا المعنى وما يتصل به. •••
وشاء الله وقضت نواميس الكون الاجتماعية بعد ذلك بأعوام ليست كثيرة في حياة الأمة أن يصبح منع التطليق ثلاثا بلفظ واحد قانونا رسميا معمولا به في المحاكم، ثم قضت بأن يكون الأستاذ كاتب المقال السابق أحد أساطين المختصين بإصلاح تشريع الأحوال الشخصية في مسائل أهم وأبعد مدى من الطلاق الثلاث بلفظ واحد.
وإنها لظاهرة مطردة مكررة في حياة الكائنات المعنوية كلها، وقد عرفتها الدنيا في شواهد جمة ومواطن متعددة، مما له صلة بالتدين والاعتقاد، أو لا صلة له به.
إذ تعد الفكرة حينا ما كافرة تحرم وتحارب، ثم تصبح - مع الزمن - مذهبا، بل عقيدة وإصلاحا، تخطو به الحياة خطوة إلى الأمام.
وعلى أساس من التنبه لهذا الناموس الاجتماعي والثقة به، نعرض لموضوعنا في «هذا النحو». (2) النحو والفقه
ولكن ما دام الناموس الاجتماعي مطردا في حياة الكائنات المعنوية جميعا، ففيم البدء بالإشارة إلى هذا الفقه وما كان من أمره؟! ونحن قوم إنما نشتغل بالشئون اللغوية، وقد قصدنا إلى الحديث في هذا النحو، حين استفاض القول بفساد ما بينه وبين الحياة؛ إذ أقام الصعوبات المحرجة في أوجه الصغار حين يتعلمون الفصحى، فيعكفون على تعلمها مدة لن تقل في حياة واحد منهم عن اثني عشر عاما حتى يحصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية، وقد تزيد ... ثم لا يظفرون منها بطائل، بل يتقدمون إلى الحياة كبارا لا يحسنون استعمال هذه الفصحى والانتفاع بها، وهي أزمة، إن شكاها الأفراد فإن هذه الأمة لتشكو من أنها تعيش بلغة، وتبذل ما تبذل في تعلم لغة تكاد تظل غريبة عنها، فلا تجد فيها ما لا بد منه للأمة، وهو الأداة الطيعة المرنة المواتية للتفاهم والتعامل والتعلم والتفنن، تلك الأداة التي تحقق رغبات الجماعة في ميادين النهضة على اختلافها، وتكون عاملا من أهم العوامل في وحدة الأمة وتماسكها، وإعانتها على مسايرة الحياة والاستجابة لكل تدرج وتطور فيها، والحياة بطبيعتها تدرج ونماء.
ومن أجل ذلك صار الواجب الاجتماعي الأول، على المشتغلين بالشئون اللغوية أن يفكروا تفكيرا نفاذا، في تدبير الوسائل الفعالة لتذليل هذه الصعوبات كلها، وهو ما حاولت بجهدي المتواضع أن أعرض فيه شيئا عن هذا النحو.
Halaman tidak diketahui