وليس الأعراب غير فرع من فرعي الأرومة العربية، فيوجد بجانبهم العرب المتحضرون المقيمون بالمدن والماهرون في أمور الزراعة، ويسهل علينا أن نثبت وجود حضارة عظيمة لهؤلاء المتحضرين من العرب وإن كنا لا نعرف تفاصيلها.
ولم يكن التاريخ صامتا إزاء ثقافة العرب القديمة صمته إزاء الحضارات الأخرى التي رفع العلم الحديث عنها التراب، ولو كان التاريخ صامتا إزاء حضارة العرب لقطعنا، مع ذلك، بوجودها قبل ظهور محمد بزمن طويل، ويكفي لتمثلها أن نذكر أنه كان للعرب قبل ظهور محمد آداب ناضجة ولغة راقية، وأنهم كانوا ذوي صلات تجارية بأرقى أمم العالم منذ القديم، فاستطاعوا في أقل من مائة سنة أن يقيموا حضارة من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ.
والحق أن الآداب واللغة من الأمور التي لا تأتي عفوا، وهي تتخذ دليلا على ماض طويل، وينشأ عن اتصال أمة بأرقى الأمم اقتباسها لما عند هذه الأمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلا لذلك.
وقد أثبت العرب أنهم أهل للاقتباس، ولا ريب في أن العرب، الذين استطاعوا في أقل من قرن أن يقيموا دولة عظيمة، ويبدعوا حضارة عالية جديدة، من ذوي القرائح التي لا تتم إلا بتوالي الوراثة، وبثقافة سابقة مستمرة، وبالعرب، لا بأصحاب الجلود الحمر أو الأوستراليين، أنشأ خلفاء محمد تلك المدن الزاهرة التي ظلت ثمانية قرون مراكز للعلوم والآداب والفنون في آسية وأوربة.
أجل، استطاعت أمم كثيرة غير العرب أن تهدم دولا عظيمة، ولكنها لم تقدر مثلهم أن تبدع حضارة؛ لما لم يكن عندها ما عند العرب من ثقافة سابقة كافية، وكل ما قدرت عليه هو أنها استفادت، بعد زمن طويل، من حضارة الأمم التي قهرتها، ومن ذلك أن البرابرة، الذين قوضوا دعائم الإمبراطورية الرومانية، قاموا بجهود عظيمة دامت قرونا كثيرة قبل أن يقيموا حضارة على أنقاض الحضارة اللاتينية، ويخرجوا من ظلمات القرون الوسطى.
ونحن، قبل أن نوضح - بما لدينا من الوثائق والآثار الضئيلة - ما كانت عليه حضارة العرب قبل ظهور محمد، نرى تلخيص ما نعرفه عن تاريخهم القديم بما يأتي. (2) تاريخ العرب قبل ظهور محمد
للعرب ما قبل تاريخهم مثل ما للأمم الأخرى.
أثبت البحث فيما تركه الأجداد في طبقات الأرض من بقايا الأسلحة والأدوات والمساكن أنه وجد قبل الزمن القصير الذي يبحث التاريخ في حوادثه ملايين السنين التي جهل الإنسان فيها أمر المعادن والزراعة وفن ترويض الحيوان، والتي لم يكن له فيها غير الصوان سلاحا، ويسمى ذلك الدور الكبير بالعصر الحجري، وعثر علماء الآثار القديمة في جزيرة العرب وأوربة وأمريكة، وفي كل مكان على آثار لذلك العصر الحجري.
ودلت تلك البقايا التي وجدت في طبقات الأرض على تماثل الأمم في العصر الحجري؛ وبتلك البقايا يسهل تصوير طرق المعايشة والتفكير عند أجدادنا الأقدمين، وقد أفضت في درس هذا الموضوع في كتابي الأخير، فلا أرى الآن فائدة في العودة إليه.
ولا ترجع أقدم روايات جزيرة العرب إلى ما قبل إبراهيم، ولكن علم اللغات يثبت أن أمما ذات لغة واحدة كانت تسكن البقاع الواقعة بين القفقاس وجنوب جزيرة العرب، وإن لم يكن عرق هذه الأمم واحدا، ودل درس اللغات السامية على أن لغات تلك الأمم، وهي العبرية والفنيقية والسريانية الآشورية والكلدانية والعربية، وثيقة القربى متحدة الأصل.
Halaman tidak diketahui