177

Tamadun Arab

حضارة العرب

Genre-genre

وكان جيش شارل مارتل مؤلفا من البوغورن والألمان والغول، وكان جيش عبد الرحمن الغافقي مؤلفا من العرب والبربر، وظلت المعركة غير حاسمة بعض اليوم، فلما كان المساء انفصلت فرقة من جيش الفرنج لتغير على معسكر المسلمين، فترك المسلمون ميدان القتال ليحافظوا على غنائمهم، فأسفرت هذه الحركة الخرقاء إلى خسرانهم، فاضطروا إلى القتال متقهقرين إلى الجنوب، وقد تتبعهم شارل مارتل من بعيد، وحاصر أربونة غير موفق، وأخذ ينهب البلاد المجاورة على حسب عادات ذلك الزمن، وحالف أمراء النصارى العرب؛ ليتخلصوا منه، وحملوه على القتال مرتدا.

ولم يلبث المسلمون، بعد أن أفاقوا من تلك الضربة التي أصابهم بها شارل مارتل، أن أخذوا يستردون مراكزهم السابقة، وقد أقاموا بفرنسة قرنين بعد ذلك، وقد سلم حاكم مرسيلية مقاطعة الپروڨنس إليهم في سنة 737م، واستولوا على الآرل، ودخلوا مقاطعة سان ترويز في سنة 889م، ودامت إقامتهم بمقاطعة الپروڨنس إلى نهاية القرن العاشر من الميلاد، وأوغلوا في مقاطعة الڨالة وسويسرة سنة 935م، وروى بعض المؤرخين أنهم بلغوا مدينة ميس.

شكل 7-6: أسلحة عربية صنعت في مختلف الأزمنة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وتثبت إقامة العرب بفرنسة مدة تزيد على قرنين بعد شارل مارتل أن النصر الذي أحرزه في پواتية لم يكن مهما كما زعم المؤرخون، ولم يقم إجماع هؤلاء المؤرخين الذين قصوا علينا أن شارل مارتل أنقذ أوربة والنصرانية من العرب على أساس متين كما يبدو لنا، فلم تكن غزوة عبد الرحمن الغافقي سوى حملة قام بها؛ ليمون جنوده، ويمكنهم من أخذ مغانم كثيرة، وما كان العرب ليفعلوا أكثر من نهب مدينة تور وبضع مدن أخرى، سواء انتصر شارل مارتل أو لم ينتصر، وما كان همهم مصروفا إلى غير العودة بما غنموه على أن يعيدوا الكرة في سنة أخرى إلى أن يجدوا أمامهم من التحالف ما يدحرهم.

ولم يستطع شارل مارتل أن يطرد العرب من أية مدينة احتلوها عسكريا، واضطر شارل مارتل إلى التقهقر أمامهم تاركا لهم ما استولوا عليه من البلدان، والنتيجة المهمة الوحيدة التي أسفر عنها انتصاره هي أنه جعل العرب أقل جرأة على غزو شمال فرنسة، ونتيجة مثل هذه، وإن كانت مفيدة، لم تكف لتكبير أهمية انتصار هذا القائد الفرنجي.

ويرى المؤرخون الذين يجسمون قيمة انتصار شارل مارتل على العرب بالقرب من پواتية أنه لولا هذا الانتصار؛ لاستمر العرب على غزواتهم، واستولوا على أوربة، ثم يسألون مذعورين عن مصير الشعوب النصرانية لو خفقت فوقها راية النبي، قال مسيو هنري مارتن في كتابه عن تاريخ فرنسة الشعبي: «لقد تقرر مصير العالم في تلك المعركة، ولو غلب الفرنج فيها لكانت الأرض قبضة محمد ... ولخسرت أوربة والدنيا مستقبلهما، فليس النشاط الذي يحفز الناس إلى التقدم مما تجده في عبقرية المسلمين التي تتلخص في فكرتهم عن الله، وإله المسلمين قد جنح إلى العزلة والسكون بعد أن خلق العالم، وهو لا يحث الناس على العمل في سبيل الرقي.»

والجواب عن ذلك هو أن النصر لو تم للعرب ما طرأ تبديل على مقادير البلاد، فإذا ما كان العرب غالبين انتهبوا بضع مدن، على ما يحتمل، زيادة على المدن التي انتهبوها كما قلنا آنفا، ثم ارتدوا حاملين غنائمهم إلى ملجأ أمين، ثم عادوا في السنين القادمة إلى سيرتهم الأولى ريثما يلقاهم عدو قوي يدحرهم كما وفق له شارل مارتل.

ولكن لنفرض جدلا أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جو شمال فرنسة غير بارد ولا ماطر كجو إسپانية فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربة؟ كان يصيب أوربة النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسپانية من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربة التي تكون قد هذبت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتلمي، ومظالم محاكم التفتيش ... وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضرجت أوربة بالدماء عدة قرون.

ويجب أن يكون المرء جاهلا تاريخ حضارة العرب جهلا مطبقا؛ ليوافق على ما زعمه ذلك المؤرخ العالم من «أن النشاط الذي يحفز الناس إلى التقدم ليس مما تجده في عبقرية المسلمين»، ومن «أن أوربة والدنيا كانتا تخسران مستقبلهما»، فمزاعم مثل هذه ليست مما يقف أمام سلطان النقد عندما يعلم أن التمدن اللامع حل بالبلاد التي خضعت لأتباع الرسول محل الهمجية، وأن النشاط الذي يحفز الإنسان إلى التقدم لم يكن قويا في أمة مثل قوته في العرب.

ولم يكن احتلال العرب لجنوب فرنسة عدة قرون غير ذي أثر ضعيف، فبما أن المدن التي استولوا عليها في جنوب فرنسة من القواعد الحربية التي كانوا يستندون إليها في غاراتهم لم يبالوا بتمدينها، ولم يكن لهم في جنوب فرنسة مراكز مهمة للحضارة كما اتفق لهم في إسپانية وبلاد المشرق.

Halaman tidak diketahui