هجم العرب على القدس بشدة كالتي أبديت للذب عنها، وحث البطرك صفرونيوس الحماة النصارى على الدفاع عن قبر الرب فلم يجد ذلك نفعا تجاه القدر الذي قضى بأن تحل راية الإسلام محل الصليب فوق قبر يسوع، ورأى صفرونيوس أن يذعن بعد حصار دام أربعة أشهر، واشترط أن يتسلم الخليفة عمر القدس بنفسه فقبل ذلك، فركب عمر بعيرا، وغادر المدينة وحده تقريبا، ولم يأخذ معه من الزاد سوى قربة ماء وجراب شعير وأرز وتمر، وأغذ عمر في السير ليل نهار؛ ليصل إلى القدس في وقت قصير، فلما دخل القدس أبدى من التسامح العظيم نحو أهلها ما أمنوا به على دينهم وأموالهم وعاداتهم، ولم يفرض سوى جزية زهيدة عليهم.
وأبدى العرب تسامحا مثل هذا تجاه المدن السورية الأخرى كلها، ولم يلبث جميع سكانها أن رضوا بسيادة العرب، واعتنق أكثر أولئك السكان الإسلام بدلا من النصرانية، وأقبلوا على تعلم اللغة العربية، وظلت سورية بلدا عربيا إسلاميا كما كانت في أوائل الفتح العربي مع تداول كثير من الفاتحين لسيادتها بعد ذلك.
ولما توالت هزائم الروم في سورية استحوذ عليهم خوف عظيم من العرب الذين أمعنوا في ازدرائهم.
ومن الأدلة على ذلك الكتاب الآتي الذي أرسله عمر بن الخطاب إلى هرقل يطالبه فيه بإطلاق قائد عربي أسره الروم في إحدى الوقائع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله، من عبد الله عمر بن الخطاب إلى هرقل ملك الروم، أطلقوا الأسير المسلم، عبد الله بن حذافة، حين وصول كتابي هذا إليكم، فإن فعلتم ذلك رجوت من الله أن يهديكم الصراط المستقيم، وإن لم تفعلوا فإنني أبعث إليكم رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن الجهاد في سبيل الله، والسلام على من اتبع الهدى.
ولم يكن القيصر هرقل ليغضب من هذا الكتاب الشديد، فقد أطلق الأسير مصحوبا بهدية ثمينة إلى الخليفة، وهرقل هذا هو وارث عرش القياصرة الجبارين الذين دوخوا العالم، فخلف من بعدهم خلف فقدوا المشاعر التي كان فيها سر عظمتهم.
وعاد عمر إلى المدينة بعد أن تم فتح سورية، ونظم شؤون الدولة الفتية موصيا قواده بتوسيع رقعتها، ووزع عمر الغنائم العظيمة التي أخذها المسلمون من الروم والفرس على أصحابه، وجعل لهم، على حسب قدم خدمهم، رواتب سنوية تترجح بين ألف درهم وخمسة آلاف درهم. (3) حضارة سورية أيام سلطان العرب
استردت سورية أيام الحكم العربي ما أضاعته من الرخاء منذ زمن طويل، وبلغت درجة رفيعة من الرقي في العهد الأموي والصدر الأول من العهد العباسي، وكان العدل بين الرعية دستور العرب السياسي، وترك العرب الناس أحرارا في أمور دينهم، وأظل العرب أساقفة الروم ومطارنة اللاتين بحمايتهم، فنال هؤلاء ما لم يعرفوه سابقا من الدعة والطمأنينة، وبلغت الصناعة والزراعة درجة رفيعة في سورية، وازدهرت بسرعة كبريات المدن السورية كالقدس وصور وصيدا ودمشق.
شكل 1-2: حي الميدان بدمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وكانت سورية من أغنى أقطار العالم دائما ما لم تنلها أيدي التخريب، فهي ذات أرض كانت تنبت البر والقطن والشعير والأرز والتوت والزيتون والليمون والبرتقال من غير عناء، وكانت جبال لبنان مستورة بأعز الأشجار، كشجر البلوط والدلب
Halaman tidak diketahui