مقدمة
المحاضرة الأولى: أحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام
المحاضرة الثانية: أحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام
المحاضرة الثالثة: شرح النتيجة الثانية
المحاضرة الرابعة: انتشار الإسلام والحروب الإسلامية
المحاضرة الخامسة: قاعدة ملك الأمويين
المحاضرة السادسة: تتمة المحاضرة الماضية
المحاضرة السابعة: ثلاثة أجوبة
المحاضرة الثامنة: الكتابة والخط، والحفظ والتدوين
المحاضرة التاسعة: تتمة الكلام على الخط: النقط والإعجام
تتمة المحاضرة التاسعة: الحفظ والتدوين
مقدمة
المحاضرة الأولى: أحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام
المحاضرة الثانية: أحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام
المحاضرة الثالثة: شرح النتيجة الثانية
المحاضرة الرابعة: انتشار الإسلام والحروب الإسلامية
المحاضرة الخامسة: قاعدة ملك الأمويين
المحاضرة السادسة: تتمة المحاضرة الماضية
المحاضرة السابعة: ثلاثة أجوبة
المحاضرة الثامنة: الكتابة والخط، والحفظ والتدوين
المحاضرة التاسعة: تتمة الكلام على الخط: النقط والإعجام
تتمة المحاضرة التاسعة: الحفظ والتدوين
الحضارة الإسلامية
الحضارة الإسلامية
تأليف
أحمد زكي
مقدمة
هذا هو الكتاب الثالث الذي تقدمه إدارة مجلة الجامعة المصرية بين يدي حضرات القراء الكرام، راجية أن تكون قد قامت ببعض الواجب عليها لأبناء هذا الوطن العزيز.
وقد سبق هذا الكتاب كتابان جليلان في موضوعين جديدين لم ينسج على منوالهما أحد من قبل، ولم يسبق أن وضع لهما في العربية سفر يرجع إليه ويعول عليه؛ أولهما كتاب «محاضرات أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب» للعلامة السنيور جويدي، وثانيهما كتاب «الحضارة القديمة» للأثري القديم عزلتو أحمد كمال بك وكيل الآثار، وكلاهما يتضمن المحاضرات التي ألقاها هذان الأستاذان الجليلان في دار الجامعة، ونشرت تلك المحاضرات تباعا في مجلة الجامعة المصرية.
أما هذا الكتاب فهو من إملاء العلامة عزلتو أحمد زكي بك سكرتير ثاني مجلس النظار وأستاذ الحضارة الإسلامية في الجامعة المصرية، وهو يتفق مع سابقيه من حيث افتقار الناس وشدة حاجتهم إليه، ولكنه يمتاز بكثرة تطلع القوم إليه وتشوفهم له وترقبهم إياه؛ ذلك لأن موضوع الحضارة الإسلامية من أعظم المواضيع شأنا وأكبرها أهمية. وأي حاجة أشد من كتاب يجمع بين دفتيه حضارة الأمة الإسلامية قديما وحديثا، ويضم في تضاعيفه مدنية دول الإسلام وما كان عليه المسلمون من المجد والسؤدد ومنعة الجانب ووفرة الحضارة وكثرة العمران!
وهذا الموضوع على نفاسته لم يخض فيه إلا نفر قليل نظرا لما يلاقيه المشتغل به من المصاعب، وما يتجشمه من المتاعب؛ إذ كان لا يتسنى لأحد أن يلم بأطرافه إلا إذا جمع شتات الكتب بين مطبوعة ومخطوطة، وتصفحها تصفحا تاما ليستخلص منها زبدة الموضوع ولباب الكلام.
كل من عرف ذلك وعانى هذه المشاق يدرك لأول وهلة قيمة الكتاب ويقدره قدره، ويأسف معنا أشد الأسف على أنه لم يجمع سائر المحاضرات، بل اقتصر على بعضها دون البعض لعذر طرأ على الأستاذ فأخره عن إتمام ذلك العمل الكبير.
ونحن لا نتعزى كغيرنا بقول من قال: «ما لا يدرك كله، لا يترك جله.» وإنما تعزيتنا أن يقوم من بيننا نفر فيأخذوا على عاتقهم أن يعاونوا الأستاذ على إخراج باقي المحاضرات للناس ليكون الكتاب تاما كاملا.
وها نحن أولاء نتطوع فيمن يتطوعون لأداء هذا الواجب، ولسنا نعدم نصراء للأدب يسدون النقص ويملئون هذا الفراغ، ولنا من حرص سعادة زكي بك على فائدة الأمة الإسلامية ما يكفل لهم النجاح ويسهل عليهم كل أمر عسير.
أصحاب مجلة الجامعة المصرية
محمود شاهين، محمد كامل فيضي، عبد الله أمين
المحاضرة الأولى: أحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام
أيها السادة، أحييكم بتحية الإسلام فأقول: «السلام عليكم»، ثم أقفي على آثارها بأن أقول لكم إن محاضراتنا، التي نبدؤها اليوم، هي من أشق الأعمال وأمنعها إلا عن الجماعات الباحثين المدققين؛ فمقدرة عاجز مثلي تضمحل دون استيفاء هذه المحاضرات، ودون وقوفي موقف معلم يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، لا سيما أن فيكم من هو أولى مني بهذا الموقف الخطير الجليل، فجل ما يصيبكم مما أحمله إليكم من العلم بهذه المحاضرات، هو ضوء مصباح يضيء لكم مواضع أقدامكم؛ فتبصرون الطريق التي تسلكونها للوصول إلى الغاية المطلوبة من اجتماعنا هذا، وما المعلمون إلا مرشدون وهادون، فعليكم بالبحث والتنقيب والدرس، ومسألة أهل الذكر؛ فإن النبوغ في الفنون لا يكون إلا بهذا، فالمدارس مهما علا شأنها وسمت منزلتها، لا يمكنها أن تعلم الناس النبوغ في الفنون، وإنما منتهى ما تصل إليه الجامعات التي هي أرقى مدارس الهيئة الاجتماعية؛ إنما هو هداية الطلاب إلى طرق النبوغ وأساليبها، فلا تتواكلوا ولا تفتر عزائمكم؛ ليكون لنا منكم في المستقبل رجال يفضلوننا، ويفضلون من هم أفضل منا من حاضري مجلسنا هذا الذين أشرت إليهم بادئ الأمر.
ما زال العرب يعيشون منذ برأهم الله عاكفين حول الشعاب والجبال، قانعين في خمولهم وضلالهم بنعمة الحرية والاستقلال، حتى كان القرن السابع للميلاد، وحينئذ جاء دورهم الطبيعي، فظهروا في مظهرهم الحقيقي، وبهروا العالم بما كان كامنا في نفوسهم من المواهب وأسباب الاستعداد؛ فإن الحرية والاستقلال أكمنتا في نفوسهم العزيمة الصادقة وقوة الإرادة، وهاتان الخلتان هما نبعتا الفضائل ومصدرا النجاح والرقي في معترك الحياة، والأمم المغلوبة على أمرها لا تحيا فيها خلة من هاتين الخلتين الجليلتين.
بعث الله فيهم ومنهم «محمدا» - عليه الصلاة والسلام - بدين جديد: هو دين التوحيد، وبملة سمحة: هي الحنيفية البيضاء، فجعل لهم بذلك نظاما جميلا، ومقاما جليلا، بعد أن عاشوا همجا زمانا طويلا، وعاثوا في الأرض مفسدين.
بزغت أنوار الإسلام وانتشرت تعاليمه في ربى الحجاز وفي ربوع اليمن، فأدخلت هذه الأمة في طور جديد، كان فاتحة لعصر من عصور الحضارة التي أبهرت العالم أجمعه في تلك الأيام، ولا تزال موضع الإعجاب إلى هذا الزمان، تلك الحضارة التي وضعت للناس أول أساس للحرية والإخاء والمساواة، وكانت مقدمة لما نشاهده من آثار العمران، وارتقاء المدارك وتقرير حقوق الإنسان.
إن المبادئ التي جاء بها الإسلام هي التي جمعت كلمة العرب وألفت بين قلوبهم؛ فتكونت منهم أمة واحدة متجانسة متماسكة، كانت قبل ذلك أشتاتا بعضها لبعض عدو، وهي في مجموعها بمعزل عن سائر الأمم والشعوب، كأنها في غير هذا الوجود تنبهت الأمة العربية من غفلتها، وأفاقت من غفوتها، وقامت من رقدتها، حينما أخذت بأوامر دينها الجديد، ودخلت في معترك الحياة، عملا بأوامر ربها ونبيها والنابغين من رجالاتها؛ فسادت العالم القديم في أقل من القليل؛ لأنها بلغت في مدة ثمانين سنة من عزة الملك، وضخامة السلطان، ورجحان الكلمة، واتساع دائرة النفوذ ما لم تبلغه أكبر الأمم القديمة حتى الرومان في عشرة أمثال هذه المدة من الزمان.
وبيان ذلك أن الخلفاء
1
الراشدين بعثوا سراياهم وكتائبهم فغزوا البلاد ودوخوا الأمم، ودانت لهم الممالك في قلب آسيا وشمال أفريقيا وغرب أوروبا، وبثوا أنوار دينهم، ووضعوا أساس المدنية العربية والعمران الإسلامي؛ فكان لهم في التاريخ العام مظهر جليل، دهشت له الأبصار وحارت فيه الأفكار، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وبعد الخلفاء الراشدين انتقلت الخلافة إلى الأمويين، فكان لهم الفضل الأكبر في تأثيل الملك، وتوطيد دعائم الخلافة، ونشر الآداب واللغة العربية، وتمهيد الوسائل لإقامة معالم الحضارة الإسلامية على أساس متين، وأكبر مميز لعصرهم هو احترام الحرية التي جاء بها الإسلام؛ فأمتعوا الناس باستقلال الفكر، فكانت ديار الأمراء ومعاهد العلم ملأى بالعلماء والشعراء، والكتاب الكتابيين وغيرهم، وكانوا أحرارا في عقائدهم وأعمالهم، وأمر الأخطل الشاعر النصراني ومجاهرته بعقيدته في الإسلام أشهر من أن يذكر، وكانت المرأة الكتابية زوج المسلم متمتعة بعقيدتها وذهابها إلى كنيستها أو بيعتها.
فقد تمتع الناس في عصر الأمويين بتمام الحرية في أشخاصهم وفي مجموعهم وأفكارهم، وفي عقائدهم لدرجة لا يتصورها إنسان في مثل ذلك الزمان، غير أنهم شطوا في هذا الميدان حتى انقلبت الحرية إباحة، والناس على دين ملوكهم، فإن الخلفاء في أواخر الأمر بالغوا في السكر والكفر لدرجة استباح معها أحدهم - وهو الوليد - ألا يبرح مجلس السكر إلى عرش الملك (حينما جاءته البشرى بالخلافة، وأتاه القضيب والخاتم مع البردة، وقدم له ندمانه فروض الإجلال والاحترام، ووقفوا في حضرته خاشعين خاضعين) حتى يغنوه بأبيات ارتجلها يهنئ بها نفسه، وهي:
طاب يومي ولذ شرب السلافه
وأتانا نعي من بالرصافه
وأتانا البريد ينعى هشاما
وأتانا بخاتم للخلافه
فاصطبحنا بخمر عانة صرفا
ولهونا بقينة عزافه
والوليد هو الذي فتح المصحف ذات يوم، فكانت أول آية فتحت عليها عينه قوله تعالى:
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، فبلغ منه الحنق منتهاه، فنصب المصحف ناحية هدفا له، وجعل يرشقه بالسهام وهو يقول:
أتوعد كل جبار عنيد
فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر
فقل يا رب مزقني الوليد
واستمر الخلفاء على قبح السيرة والانهماك في الملاهي، حتى ذهب ملكهم على أسوأ حال، وضربت به الأمثال، فقيل ذهب ملك بني أمية ببولة، وانتقلت الدولة عنهم إلى بني العباس في خطب يطول، وكانت دمشق دارا لملك بني أمية، وشعارهم البياض في راياتهم ولباسهم.
فلما جاء بنو العباس، اتخذوا بغداد مقرا لكرسيهم، والسواد شعارا لهم، وكانت جنودهم تسمى المسودة؛ لأن راياتهم سود، والأصل في اتخاذ العباسيين الأسود شعارا لهم مخالفة الأمويين، وتلك سنة إخلاف الملوك لأسلافهم، وأمثال ذلك كثيرة معروفة، منها: أن المأمون الخليفة العباسي لبس الأخضر؛ لأنه من العلويين، فكاد يختل أمر الملك؛ فرجع بعد أسبوع إلى الأسود.
وصارت بغداد في عهد الرشيد وابنه المأمون منبعا للحضارة، ومشرقا للمعارف، ولا نزيد عصر العباسيين وصفا، ولا حضارتهم تعريفا، بغير قولنا إن أوروبا كانت على عهدهم تتخبط كلها في غيابة الغواية والضلالة، وتهيم في فيافي التوحش والجهالة، ثم غير القوم ما بأنفسهم؛ فغير الله ما بهم، وتمزق هذا الملك الإسلامي الفخيم، وتشتت شمل هذه الدولة الهائلة، وأصبحت الخلافة الإسلامية مثلثة، على حين أن دين التوحيد يدعو إلى توحيدها، فكانت أولاهن في العراق في آسيا، وهي «العباسية»، ومركزها بغداد، والثانية في مصر في أفريقيا، وهي «الفاطمية»، ومقرها القاهرة، والثالثة في الأندلس في أوروبا، وهي «الأموية» وعاصمتها قرطبة، من أعمال إسبانيا الآن.
أما الخلافة العراقية، وهي «العباسية»؛ فقد أسرعت إليها عوامل الانحطاط والانحلال لسببين: أحدهما ديني، والآخر سياسي، فأما الديني فلأنها تشبثت بالخلافيات والجدليات، وفتحت الباب لظهور النحل المتعددة، والمحن السيئة، وأكبر محنة في الإسلام القول بخلق القرآن، الذي نصره وأيده بعض خلفاء بني العباس، ومنهم المأمون بن هارون الرشيد، ومناظرات العلماء في تلك المسألة وفي حضرة المأمون سودت بها صحف كثيرة. وأما الثاني فلأن الأتراك والغلمان قد استحوذوا منذ زمان طويل - أي من أيام المعتصم - على مقاليد التدبير فيها، وانتهى إليهم الحل والعقد في كل أمر، حتى في اختيار الخليفة ومبايعته، ولم يتركوا لصاحب التاج سوى اسم الخلافة، حتى كان أبو القاسم أحمد المعتمد على الله بن المتوكل يطلب الشيء الحقير فلا يناله، وضاق به الحال واشتد عليه الأمر يوما، فقال في ذلك متوجعا:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما هان ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا
وما من ذاك شيء في يديه
واستمروا في هذا التدلي والانحطاط حتى انتقلت الدولة والملك في آخر أيام المتقي وأول أيام المستكفي إلى آل بويه، والذي بقي في أيدي العباسيين إنما هو أثر ديني اعتقادي، لا ملك دنيوي سياسي، وأصبح القائم من ولد العباس إنما هو رئيس الإسلام، لا ملك الإسلام.
وما زالت دولتهم تتأخر وأمرهم يتقهقر، حتى دهمتهم جنود التتر، فلم يكن لهم من أمر الله مفر، وحينئذ تصدعت أركان هذه الدولة المجيدة، وتقوضت دعائمها، وطمست معالمها، وذهبت مع أمس الدابر، ودخلت في خبر كان.
هذا ولا عبرة بالظل الذي ظهر لها فيما بعد بديار مصر، فإن تلك الخلافة العباسية الثانية كان القائم بها إنما يؤدي وظيفة دينية، كأنه شيخ طريقة من طرق الصوفية، بل لم يكن لصاحبها سوى تثبيت السلطان في المركز الذي يرشحه له عصبته من المماليك، على أن هذا الظل لم يبق له أدنى أثر في الوجود عندما ظهر آل عثمان على مصر، ولا غرابة؛ فكل ظل معرض للزوال.
وأما الخلافة الأندلسية، وهي «الأموية»، فقد تجلت على أوروبا بمظهر رائع، ونشرت رايات الحضارة، وساعدت على ترقية المعارف، وأخذ عنها الفرنج مبادئ العلوم وأساليب الفنون والفلسفة، التي كانت السبب الحقيقي لما هم فيه الآن من حضارة أذلت لإرادتهم العناصر، وأخضعت لهم الطبيعة، وسخرت لهم كل ما في هذا الكون، وحسبها ذلك فخرا، ولا تزال آثارها بديار الأندلس ناطقة بما بلغته من علو الكعب في كل مضمار، غير أنها قد انتهى أمرها مثل غيرها من الدول الفخيمة، التي وصلت إلى نهاية الغايات ؛ فأدركها الهرم قبل الأوان، وأفل نجمها؛ إذ تسللت إليها جراثيم الفساد، وتداخلت فيها الأطماع الشخصية، حتى انقسمت على نفسها، بينما كان أهل إسبانيا وملوك الفرنجة لها بالمرصاد، يتحينون لها الفرص للإيقاع بها والقضاء عليها، فانفرط عقد الخلافة وانتثرت، واستقل الولاة والعمال بهذه الأجزاء المتفرقة، ثم لم يكتفوا بتسمية أنفسهم بملوك الطوائف، بل تنافسوا في التشبه بالخلفاء في أبهة الملك وفخامة الألقاب، حتى قال شاعرهم:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد
فما عتموا أن تطرقت إليهم أسباب الضعف والسقوط بعد هذا التفرق، فكان بعضهم يحارب بعضا، ويتناصرون على أنفسهم بعدوهم، ويتقربون إليه بالقلاع والحصون لتشفي بعضهم من بعض، وتمادوا في ذلك الضلال إلى أن آل الأمر بهم إلى خروج الأمر من أيديهم، ودخلوا جميعا في قبضة عدوهم؛ فانزوت بقية الأمة الأندلسية المجيدة في غرناطة، وأفرادها مع ذلك في شقاق مستديم، فكانوا لعدوهم خير معاون على انتزاع ملك الصمامة الباقية لهم، ولكنهم، والحق يقال، قد دافعوا بما بقي فيهم من بأس قديم، وما تولاهم من يأس مقيم إلى أن أبى القدر المحتوم، فوقعت هذه الأمة في مخالب عدوها فريسة كريمة، بعد أن أخذت عليه العهود التي رأتها ضامنة لبقائها، ولكنه نكث بالعهد، ولم يف بالشرط، فصبر الباقون على الخسف والهوان تعلقا بأذيال الوطن العزيز، بيد أن السيف والنار أفنيا معظمهم، وطرد الإسبانيون القليل الباقي منهم إلى الخارج، فذهب بعضهم إلى جنوب فرنسا وإلى سويسرا، وبعض آخر إلى إيتاليا، ودخل في غمار أهلها على طول الزمان، وتناسى أصله العربي ودينه الإسلامي، ولكنه حفظ رغم أنفه عادات وأخلاقا شرقية، وبقيت فيه بقية من الملامح العربية التي تتجلى فيه للناظرين، وذهب آخرون إلى مراكش، والجزائر، وتونس، وكان لهم فيها شأن مذكور، وأثر في الحضارة محمود، وجاء فريق منهم إلى مصر في دولة المماليك، فغمروهم بالإحسان، وجعلوا لهم الرواتب، وأرصدوا عليهم بعض الأوقاف، وذهب نزر يسير ومعهم جمهور من اليهود إلى القسطنطينية، وسلانيك ، وأزمير، وغيرها من مدائن الدولة العلية، التي كانت قد ظهرت في ذلك الزمان، فنشر الأندلسيون بانتشارهم هذه الحضارة في ربوع أوروبا، وشمال أفريقيا.
وبهذا أصبحت إسبانيا ليس فيها منهم إلا من تنصر، وأبناؤهم فيها إلى اليوم، ولا تزال أسماء بعضهم عربية شابتها العجمة أو تطرق إليها التحريف، ومنهم من يفتخر بانتسابه إلى العنصر العربي الكريم، ولم يبق في الأندلس من هذه الخلافة التي كانت صاحبة القول الفصل في الشئون العمومية السياسية، وفي الأمور الداخلية لبعض الممالك الإفرنجية، سوى آثارها الفخيمة ومآثرها الخالدة التي تدل على ما كان لها من التأثير الكبير في ارتقاء الحضارة ونشر العلوم، والله وارث الأرض ومن عليها.
وحينما اضمحلت أركان الخلافة، كانت بالمغرب الأقصى
2 (مراكش) دول بلغت درجة عظيمة من القوة والبأس، فتسمى أصحابها في أول الأمر بأمراء المسلمين احتراما لمقام الخلافة بالمشرق،
3
ثم انتزعوا لأنفسهم لقب الخلافة، حينما علموا بما حاق بالعباسيين من الوهن والضعف، ولا تزال أهل مراكش (المغرب الأقصى) إلى الآن لا يعترفون بالخلافة إلا لسلاطينهم دون آل عثمان.
وأما الخلافة المصرية، وهي «الفاطمية»، فقد كانت مصر في أيامها محط العز والسعادة، ومستقر المعارف والفضائل، وكان اللون الأخضر شعارها،
4
ولا يزال شعارا للأشراف من عهدها إلى الآن. أصبحت مصر في حكم الفواطم غرة في جبين الأمصار، وارتفع للحضارة فيها أعلى منار، ووصل العلم في عهدها إلى أقصى الغايات، واستبحر العمران لدرجة تتضاءل دونها أكبر دولة في العالم، ولكنها ما لبثت أن تولاها الضعف وأسرع إليها الفناء؛ لأنها غلت في الترف والفجور والملاهي، فأشبهت دولة الرومان أو دولة الروم؛ فأصابها ما حل بها من الزوال.
5
بله ما امتازت به في أخريات حياتها من أساليب الختل والخداع، وتهالكها أكثر من غيرها على استباحة الحرمات، فقد كانت تصادر الرعية وأرباب الدولة بغير حق ولأوهى سبب حتى أصبح الخليفة «النهاب الوهاب»، هذا عدا إفحاشهم في سفك الدماء، فقد بلغ القتل درجة لا يتصورها عقل، ومن ذلك أن ولي العهد حسن بن الحافظ لدين الله ذبح في ليلة واحدة أربعين رجلا من أمراء مصر، إلى غير ذلك مما ارتكبه من الموبقات التي أشار إليها المعتمد بن الأنصاري، صاحب الترسل، بقوله:
لم تأت يا حسن بين الورى حسنا
ولم تر الحق في دنيا ولا دين
قتل النفوس بلا جرم ولا سبب
والجور في أخذ أموال المساكين
لقد جمعت بلا علم ولا أدب
تيه الملوك وأخلاق المجانين
فلذا حقت عليها كلمة الله فدمرها تدميرا، وقامت على أثرها الدولة «الأيوبية»، ولها على الإسلام اليد البيضاء؛ لأنها حفظت كيانه، وصانت بيضته، وردت غارات الصليبيين عن دياره، وقد كانت أوروبا تألبت وتمالأت عليه، بينما كان أهلوه متقطعين متدابرين متخاذلين. ثم دال أمر الأيوبيين وأعقبتهم دولة المماليك، فجاء مصر رجلان أحدهما تلو الآخر، وقد أثبت الثاني كما أثبت الأول أنه البقية الباقية من سلالة بني العباس، فقلد المماليك أولهما الخلافة اسما؛ أي كما كانت لأجداده في بغداد، وأرسلوه في جيش جرار لاستردادها فهلك.
وأما الثاني فتقلد بمصر هذه الخلافة الاسمية الوهمية، وبقيت الأحكام كلها في أيدي السلاطين من المماليك، حتى كان الفتح العثماني في أيام السلطان سليم الأول، فبايعه الخليفة العباسي المصري الذي كان في ذلك الوقت، وتنازل له عن الخلافة طوعا أو كرها.
ثم مات أو قتل بعد ذلك بقليل؛ فانحصرت الخلافة في آل عثمان، وهم عمدها وعقادو ألويتها إلى الآن، أدام الله دولتهم، وخلد شوكتهم، ورفع كلمتهم، وأيد خلافتهم، إنه سميع مجيب.
نرجع الآن إلى الأمة العربية الأصلية، ونقول إن شبه جزيرة العرب التي صدرت عنها هذه الحركة العجيبة قد رجعت منذ أجيال إلى حالتها السابقة من البداوة والخمول، حتى ظهر فيها «محمد» بن عبد الوهاب، فحاول إرجاعها إلى نشأتها الأولى ومجدها الداثر، وبث تعاليمه التي ذهب إلى أنها تعيد إلى الإسلام شبابه وفخاره، فاتبعه خلق كثير، ولكنهم دفعوا إلى ارتكاب كثير من المحارم؛ فتجرد لهم محمد علي والي مصر، وجرد عليهم «سيف الله في الأعصار المتأخرة»، وهو ابنه البطل المغوار، والفارس الكرار إبراهيم باشا، فأباد سطوتهم، وقضى على آمالهم، ولكنهم لا يزالون كثيري العدد في تلك الأقطار.
هذه الأمة العربية التي نشرت لغتها الواسعة، وفنونها الرائعة، وآدابها الجليلة، ومعارفها الغزيرة، في قسم عظيم من آسيا وأفريقيا وبعض أوروبا، وابتكرت علوم «الجبر والمقابلة»، والكيمياء «الكاذبة والصادقة»، واخترعت أرقام الحساب والصفر، وكانت لها اليد الطولى في علم «التنجيم والنجوم»، وغير ذلك من المعارف التي أخذتها عنها أوروبا.
هذه الأمة قد أصبحت اليوم بحيث تكاد ألا يكون لها شان في الوجود، بل ولا يأتي ذكرها إلا بما ترتكبه من السلب والنهب فيما بينها، والسطو على القوافل والتجار التي تسير في أرضها، فسبحان محول الأحوال!
أحمد زكي
المحاضرة الثانية: أحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام
أيها السادة، لا بد لمن يعنى بمحاضرات على الحضارة الإسلامية من أن يشدو بذكر الإسلام، وإذ قد نيطت بي تلك المحاضرات، اضطررت إلى أن أشدو بذكره، ولو كلفت بمحاضرات على الحضارة الوثنية، لكنت مضطرا إلى أن أشدو بذكرها كذلك، وأنا إن ذكرت الإسلام فإنما أذكره من حيث هو نظام عمراني لا ديني؛ ولذلك في المحاضرة الفائتة اجتزت عصر النبوة، وبدأت بعصر الخلفاء الراشدين؛ لأن عصر النبوة كان دينيا محضا. وإذ كانت محاضرة اليوم في معرفة أحوال بلاد العرب قبيل ظهور الإسلام، وجب أن نعرف تلك البلاد، ثم نعرف أحوالها.
بلاد العرب هي تلك الأرض الواسعة التي في جنوب آسيا، يحدها شمالا الشام والجزيرة والعراق، وغربا قناة السويس والبحر الأحمر، وجنوبا خليج عدن وبحر عمان، وشرقا بحر عمان والخليج الفارسي والعراق؛ فهي شبه جزيرة عظيم، وقد تسمى جزيرة تسامحا، أما تسميتها «بحيث جزيرة» فمن الخطأ الفاضح، وهي ثمانية أجزاء كبيرة: الحجاز واليمن في الغرب، وحضرموت ومهرة وعمان في الجنوب، والبحرين والحسا في الشرق، ونجد والأحقاف أو الدهناء
1 - على قول - في الوسط.
فأما بلاد عمان والبحرين في الشرق فكانت مفصولة عن سائر بلاد الجزيرة بأمرين: أحدهما طبيعي، والآخر سياسي، فأما الطبيعي فتلك المفاوز والبراري الواسعة والصحاري الجدبة القفرة التي حالت بينها وبين سائر البلاد، وأما السياسي فإذعانها لسيادة الأكاسرة.
وأما بلاد اليمن وحضرموت في الجنوب فكانت ميدانا للحروب الداخلية والفتن الأهلية؛ فهوت من قمة مجدها الباذخ، وفنيت منها سلالة التبابعة الذين بنوا مأربا وقصور غمدان وظفار، وأقاموا سد مأرب الذي يشبه خزان أسوان في مصرنا الآن. وكان هدم ذلك السد في أوائل القرن الأول للميلاد سببا لخراب هذه البلاد، التي سماها اليونان والفرنج على أثرهم البلاد العربية السعيدة، واسمها دليل على ذلك؛ فإن اليمن واليمن واليمين من مادة واحدة، فهي من أخصب بلاد العرب، ولخصبها وحسن موقعها كانت الدول القديمة تحاول امتلاكها، وتتحين الفرص لذلك، وكان في بلاد اليمن أمم من أضخم الأمم، بلغت أعلى منازل العظمة والأبهة وضخامة الملك، فكان فيها مملكة الحميريين، ومنهم الملوك التبابعة - واحدهم تبع - وكان التبع بمنزلة إمبراطور ألمانيا الآن، وشاهنشاه الفرس؛ أي ملك الملوك لسيادته على عدة ملوك مستقلة استقلالا داخليا، يسمون الأذواء أو الأقيال. وكانت عدن من المدن المستقلة، فكانت كمدينة همبرج في ألمانيا الآن، وهي التي تسمى المدينة الحرة لمجلسها النيابي (السناتو) الذي يدير شأنها، وكلا البلدين - عدن وهمبرج - فرصة كبيرة لمملكتها.
خريطة إجمالية عن شبه جزيرة العرب.
وكان في تلك البلاد السعيدة أديان شتى، ولكل دين أنصار يحملون لواءه، ويحمون ذماره، فكانت فيهم اليهودية، وكانت فيهم النصرانية، انتشرت في نجران كلها، وكانت فيهم الوثنية، وكان آل كل دين يطمعون في الغلب والرياسة، ويحاولون إعلاء دينهم بخفض سائر الأديان، فإذا عجزت فئة دون بلوغ مأمولها، استنجدت الأمم الأجنبية من الحبشة والروم والفرس؛ فساعد ذلك العداء وهذا الخلاف وتلك المنافسة وتعدد الملوك في هذه البلاد، ساعد كل ذلك الأمم الأجنبية الطموحة إلى امتلاكها؛ لخصبها وحسن موقعها على الامتلاك، فهجمت الحبشة عليها ثلاث مرات، وقد سعى سيف بن ذي يزن في دفعهم، فاستغاث بالروم (الأغارقة) فلم يغث، كما أخفق امرؤ القيس في استنجاده قيصر - وأمره معروف - فالتجأ إلى فارس فأغاثه كسرى بمرزبان (وهو يشبه البطريق،
2
والمرزبان اسمه
Satrape
بالفرنسوية) وجيش معه من المسجونين جيشا، فأعادوا اسم الملك إلى سيف بن ذي يزن، فهنأته العرب وأوفدت إليه قريش وفد عبد المطلب المعروف أمره، وبقيت السيادة العملية للفرس (وكانوا يسمون الأذواء بالأبناء) حتى ظهر الإسلام فأجهز عليهم وأدال دولتهم.
ولم يزل اختلاف أهل اليمن الديني والسياسي الذي لا يدخل بلدا حتى يجعل أعزة أهله أذلة ينخر عظامهم إلى أن اضمحلوا وبادوا، ولكن السبب الأقوى في إبادتهم وزوال ملكهم هدم سد مأرب - كما تقدم - فتفرق أهله أيدي سبا، فنزلوا الحيرة وغسان ويثرب وغيرها، هؤلاء هم عرب الجنوب والشرق، وتلك حالهم.
أما عرب الشمال فإن لهم مملكتين صغيرتين: مملكة الحيرة في العراق العربي، وملوكها يسمون المناذرة أو النعامنة، وكانوا يذعنون لسيادة الفرس؛ ومملكة غسان في الشام، وملوكها يسمون الغساسنة نسبة إلى عين ماء نزلوا بها، وكانوا يذعنون لسيادة الروم. وأنشئت هاتان المملكتان في القرن الأول للمسيح، وكان ملوكهما في خصام دائم، لا تضع الحرب أوزارها بينهم إلا إذا نشب القتال بين تينك الدولتين الضخمتين: الفرس والروم، فتنضم مملكة الحيرة إلى الفرس، ومملكة غسان إلى الروم، لا لنصر إحدى الدولتين على الأخرى، ولكن لانتقام بعضهم من بعض، وهم في مثل هذه الحروب لا فضل لهم في النصر؛ لأنهم ذيول وأذناب لغيرهم، هذا أمر الشرق والجنوب والشمال.
أما الغرب والوسط - وهما الحجاز ونجد - فلم يشبهما نقص، وقد أتم الله عليهما نعمته فلم يسلبهما نعمة الحرية والاستقلال، فكانوا كافة أعزاء أباة للضيم، يأبى كلهم إلا أن يكون رئيسا، فهم رؤساء جميعا؛ لذلك لما نشط علماء الصدر الأول لتدوين اللغة العربية لم يأخذوها إلا من كلام قبائل معدودة من نجد والحجاز وما اكتنفهما لسلامة ألسنتهم مما انتاب ألسنة آل سائر البلاد العربية، وتلك القبائل المعدودة هي قيس، وأسد، وتميم في نجد، وهذيل بغزوان - جبل فوقه مدينة الطائف - وبعض كنانة بدومة الجندل بين الشام والمدينة، قرب جبلي طيئ، وبعض بني طيئ بجبلي أجأ وسلمى في شمال نجد.
ومكة وهي قصبة الحجاز لم ينبه لها ذكر قبل الإسلام إلا بالكعبة؛ لذلك حاولت ثقيف في الطائف أن تلفت وجوه الناس عنها، فأنشأت لها بيتا وأقامت فيه صنما اسمه ذو الخلصة، وجعلت فيه مزايا بيت الله الحرام؛ فكان مشبع الجائع، ومروى الظمآن، ومأمن الخائف، ومقضى ذوي الحاجات، ومجار المستجير، ومأوى أبناء السبيل، وكانت العرب تسميه الكعبة اليمانية، وكان يزاحم الكعبة الحجازية. كذلك صنع عبد المسيح بن داوس بن عدي، أحد أمراء اليمن السالفين، فأنشأ في نجران في أول انتشار النصرانية في تلك الجهات قبة سماها كعبة نجران، وجعل لها تلك المزايا نفسها، وكان يؤمها كثير من العرب، فكانت تلك الأمكنة وغيرها ممن حذا حذوها تنازع مكة قديما الرياسة وتنافسها في العظمة.
ومنافسة الطائف لمكة حملت ثقيفا على إرشاد أبرهة الحبشي على الطريق لما أراد هدم الكعبة ليخلو لهم الجو، بل إن الروم كادوا يملكون الكعبة في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
بإغراء وقيادة عثمان بن حويث النصراني.
فلم يكن في بلاد العرب مملكة أو شبه مملكة لها من العز ما يكفي لإعلاء كلمتها ورفع رايتها على سائر بلاد العرب؛ لأن القوم جميعا كانوا في نزاع دائم وشقاق مستمر عاقهم عن تفوق بعضهم على بعض، ولم تبلغ مكة قبل الإسلام يوما ما في بلاد العرب مبلغ أتينا في دولة اليونان، ولا رومية في دولة الرومان، ولا بوزنطية - أي القسطنطينية - في دولة القياصرة من بني الروم، بل كانت ممالك الحيرة وغسان وقبائل نجد وتهامة ذات شأن حقير وأثر ضئيل في تلك الملاحم التي نشأت بين رومية ثم القسطنطينية وبين الفرس، في تلك الملاحم التي كان أبطالها سابور (سابور ذو الأكتاف) ويوليان المرتد، وبليسا، وكسرى أنوشروان، وكسرى أبرويز، وهرقل.
هذه كانت أحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام، ولنرجع الآن إلى حال العالم كله قبل الإسلام، فنقول: جاء الإسلام بدين التوحيد وفي الأرض دولتان: دولة الروم،
3
وهي نصرانية تقول بالتثليث، ودولة الفرس، وهي مجوسية تقول بالتثنية.
فأما الروم فقد كانوا منقسمين على أنفسهم بسبب اختلافهم في الأقاويل الدينية وفي العقائد المذهبية، فكانت بين رجالاتهم وبيوتاتهم خطوب وأهوال أنستهم تدابير الملك وسياسة البلاد؛ حتى فسدت الأحوال، واختلت الأعمال، واضطربت شئون الولايات، وعمت الفوضى جميع أطراف الإمبراطورية.
هذا المرض الطبيعي الذي أصاب دولة الروم عند أول بداية الإسلام في عهد محمد عليه الصلاة والسلام؛ تجددت أعراضه بعينها فيما بينهم أيضا حينما أشرف محمد الثاني على فتح القسطنطينية، فكان انقسام الروم على أنفسهم واختلافهم في شئون بسيطة سببا في ظهور الإسلام وانتزاع تسعة أعشار أملاكهم منهم، كما كان سببا لاستيلائه على دار مملكتهم ومحو أثرهم.
ومما تجب الإشارة إليه في هذا المقام أنه قد حدثت أمور سياسية دعت قياصرة الروم للمساعدة على مزج المسيحية بالوثنية، فتيسر لهم بهذه الوسيلة تعميم هذه العقيدة الجديدة على جميع الأهالي الوثنيين الخاضعين لصولجانهم؛ فنتج عن ذلك اختلاف كبير في المشيئة والطبيعة والناسوت واللاهوت، أوجب زيادة الارتباك بين رجال الكهنوت.
هذا فضلا عن اشتداد النزاع والخصام بين أساقفة القسطنطينية والإسكندرية ورومية؛ إذ كان كل منهم يريد لنفسه الزعامة على الملة النصرانية، فالأول يؤيد دعواه بأن مدينته هي كرسي الملك، فلا بد أن تكون مقرا للدين؛ لأن الملك هو الحارس للدين. وأما أسقف الإسكندرية فكان يقول إن السيادة الدينية لا تصح لغيره؛ نظرا لموقع مدينته التجاري ومركزها العلمي، وإن الدين إنما يستند على المال ولا قوام له بغير العرفان. بقي صاحب رومية وقد طبق الآفاق بقوله إن رومية هي المدينة الخالدة ذات المآثر الباقية، وقد كانت لها السيادة الدائمة من حيث الديانة والسياسة، فصاحب الكرسي فيها هو الأحق بالرياسة.
فكان هذا التخاصم مثيرا لثورة دينية اضطربت لها الدنيا بأسرها، ولا تزال آثارها باقية بين المسيحيين إلى الآن.
وقد ترتب على هذه الثورة نتيجتان: (1)
تداخل الفرس وهدمهم لكيان النصرانية في آسيا. (2)
تمهيد السبيل للإصلاح النهائي الذي قام به العرب وأعقبه تولد الحضارة الإسلامية.
شرح النتيجة الأولى
إن الفرس وثبوا على هرمز (أو هرمزد) ملكهم ففقئوا عينيه وخلعوه، ولم يقتلوه بحرجا، وولوا عليهم مرزبانا - من غير بيت الملك - اسمه بهرام، وكان ذلك في السنة الثامنة لموريق
Maurice
قيصر الروم، وهي سنة 590 للمسيح، وكان لهرمز ابن حدث اسمه كسرى، وهو الثاني المعروف بأبرويز، وعند الفرنج
، فخرج من أرض الفرس متنكرا في زي سائل حتى وصل إلى أرض الروم، وكتب من أنطاكية
4
كتابا إلى موريق قيصر الروم يستنجده، فرد عليه بكتاب،
5
وكلاهما من أبلغ ما كتب ملك إلى ملك، وأرسل إليه ابنه وجيش معه جيشا وأمده بمال، فاسترد ملكه وبايعه الناس كلهم، وتولى وزارته برمك جد البرامكة الذين ازدانت بهم الدنيا في دولة الرشيد، فلما رأى ذلك قيصر الروم أراد أن يغتنم الفرصة لرغبته في بلاد فارس فزوجه من ابنته مريم، ثم أهداه حلة عليها صليب فلبسها واستعرض بها جنده. فأما الفرس فوجدوا على ملكهم للبسه حلة عليها الصليب، وأما الروم فلم ينظروا إلى شهامة قيصرهم مع عدوهم بعين الرضا لا سيما تزويجه إياه من ابنته، فشغبوا عليه وقلبوا تماثيله، وكان القائم بهذه الحركة بطريقا ليس من بيت الملك، اسمه فوقاس
phocas ، كما كان القائم بالثورة على هرمز الفارسي مرزبانا من غير آل ساسان.
وكان بطريرك القسطنطينية قد غضب على القيصر لهذا السبب ولأسباب أخرى؛ فكرس فوقاس وبارك له، وجعله إمبراطورا، ولكن بعد أن تحقق من أرثوذكسيته، ثم قتل الروم موريقا وأبناءه وزوجته وبناتها، ومال القوم على أشياعه وأوليائه، ففقئوا عيون بعضهم، وسلوا ألسنة بعض آخر، ووثبوا على جماعة منهم فقطعوا أيديهم وأرجلهم، وانهالوا على جماعة آخرين جلدا فقتلا.
وصلت أخبار هذه الحوادث إلى رومية وإلى فارس، فكان لها فيهما صدى متخالف متعاكس، فأما رومية فقد ابتهج فيها البابا غريغوريوس، وطلب من الله أن يأخذ بنصر فوقاس، وأن يشد أزره على عدوه، فكانت مكافأته على ذلك أن اعترف له قيصر الروم باللقب الذي طالما منى به نفسه، وهو «الأسقف العام».
وأما فارس فلم يكد يبلغها خبر هذا الانقلاب، حتى امتعض له أبرويز، وأخذته الحفيظة لصداقته مع موريق الذي كانت له عليه اليد البيضاء في إعادة ملك أجداده إليه، وقد التجأ إليه ابن موريق فآواه وأكرم مثواه ووعده برد الأمر إليه.
كذلك كان الحال في إفريقية، فإن هرقل الإكسرخس
Exarque
6 - أي الوالي أو العامل - بلغ منه الحزن منتهاه لتلويث الأرجوان الإمبراطوري بوضعه على جسم ذلك الدخيل فوقاس، فرفض دفع الجزية إليه وامتنع عن الاعتراف به، ومنع عنه الحبوب والغلال التي كانت ترسلها أفريقية إلى القسطنطينية؛ فسجن الإمبراطور في أحد الأديرة زوجة هرقل، واسمها إبيفانيا
Epiphanie ، وعروس ابنه، واسمها أودسيا
Eudossie ، فأراد هرقل أن يحاربه، ولكنه نظرا لشيخوخته ولعاهاته عهد بذلك إلى ابنه هرقل، فاتفق مع نقيطا
Nicétas
ابن عمه غريغور المستبد بأعمال سبيطلة في الحوز الجنوبي لتونس على غزو الإمبراطور وانتزاع الملك منه، على أن هرقل يذهب إليه بحرا وأن نقيطا يسير إليه برا عن طريق لوبيا
7
ومصر والشام وآسيا الصغرى، واتفقا على أن الملك للسابق إلى القسطنطينية إذا قتل فوقاس، فكان السابق بالطبع هرقل، وذهب موفقا مظفرا منصورا إلى القسطنطينية، فانضمت إليه الأمة ومجلس أعيانها، بل ورجال كهنوتها الذين لم يكن لهم مبدأ ثابت في الأحوال السياسية نظرا لكثرة تزعزعهم في الأصول الدينية؛ فسرت إليهم عدوى الاختلاف في السياسة من جراء الانشقاق في المذاهب والاعتقادات، لا سيما أن القيصر أعطى بطريرك رومية لقب الأسقف العام؛ فأغضب بطريرك القسطنطينية.
تملك هرقل بن هرقل، وقتل فوقاس واستخلص عروسه ولبس رداء الأرجوان، وهو شعار الإمبراطور، على يد البطريرك سرجيوس (سرجس أو سركيس)، غير أن الثورة في القسطنطينية لم يرتضها شاهنشاه الفرس وكسرى أبرويز، فسرح المرزبان المعروف بشهربراز في جيش كثيف إلى الروم للطلب بثأر موريق صاحبه وصهره، وللإيقاع بالملك الجديد، فعبر الفرات وهاجم بلاد الإمبراطورية، وقوبلت جنوده بالترحيب من المنشقين بسبب الدين، واستحوذ على أنطاكية فقيسارية فدمشق ثم أورشليم، وأحرق كنيسة القيامة (أو القمامة) وكنيستي قسطنطين وهيلانة، ثم استولى على مصر، وهرب منه يوحنا الرحوم بطريرك الإسكندرية إلى قبرص ومات بها، وأنفذ جيشا لمحاصرة قسطنطينية وهي سرة الدولة ودار الملك، فخاف القيصر أن تفتح واستعد للهرب، وجمع خزائنه وذخائره وفي جملتها خشبة الصليب المقدس وأرسلها في سفن له إلى أفريقية، فعصفت بها الرياح وسيرتها للإسكندرية، فظفر بها شهربراز، وقبض عليها كلها وبعثها إلى أبرويز، فحمد الله الذي سخر له الريح حتى جاءته بخشبة الصليب ، وأفرد لها خزانة سماها كنز الريح، وهي بالفارسية كنج باذاورد، ثم استحوذ شهربراز على ساحل بحر الروم لغاية طرابلس الغرب، وامتلك آسيا الصغرى، ولبثت جنود الفرس معسكرة مدة عشرة أعوام على أبواب القسطنطينية، وفي أثناء ذلك ماتت زوجة القيصر؛ فتزوج مارتينا بنت أخته، خلافا لما تقضي به أوامر الكنسية؛ فغضبت عليه الأمة كما غضبت عليه الكنسية، وأوقعته بين نارين: نار الثورة الداخلية، ونار العدو الفارسي الواقف له بالمرصاد، فضلا عن هجمات خاقان المغول الوافدين من سواحل بحر قزوين. فلما ضاق الحال على هرقل، وبلغ منه اليأس منتهاه، وأعيته الحيل، راسل كسرى في الصلح فأجابه: «لا أرضى بمصالحة إمبراطور بوزنطية إلا إذا كفر بإلهه المصلوب فتمجس وعبد الشمس.»
فاستبسل الإمبراطور هرقل وجمع كل قواه (لا سيما أن أهل النصرانية غاظهم هذا الجواب من الملك المجوسي؛ فكان سببا في التفافهم حول قيصرهم) حتى تيسر له إرضاء كسرى بعد زمان طويل بالرجوع عن الإمبراطورية في نظير فدية قدرها ألف قنطار من الذهب، وألف قنطار من الفضة، وألف ثوب من الخز، وألف فرس، وألف عذراء.
وكان النبي العربي قد ظهر في أثناء هذه الوقائع، ونزل عليه القرآن وأشار إليها بقوله تعالى:
غلبت الروم * في أدنى الأرض ، ثم تنبأ بقرب فوزهم فقال:
وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، فكانت هذه النبوة المتقدمة على وقتها المحدد معجزة لأحمد. وذلك أن هرقل لم يخضع إلا أمام القوة، ولم تسكن نفسه للاستكانة حيال هذه المذلة، فتربص حتى جمع شمله الرث، وعاد إلى مهاجمة الفرس حينما ساعدته الفرص، فظهر عليهم في كل مكان، وقارنه السعد والظفر في جميع الوقائع، وخدمت جنوده الأيام؛ فكانت انتصاراته أبهى وأجل مما أحرزته رومية في أيام مجدها القديم، حتى شبهوه بالإسكندر وقسطنطين الأكبر، وهذا سر قوله تعالى:
وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، وقد راهن على ذلك أبو بكر الصديق وفاز بكسب الرهان.
فاسترد هرقل من العدو كل ما أخذه من بلاده وأملاكه، ولكنه لم يتمكن من إعادة الدين إلى سابق نصابه؛ لأن المجوسية أنزلت بالنصرانية أمام العالم كله مسبة ليس بعدها مسبة؛ إذ أهانت القبر، وأحرقت الكنائس، وأخذت الخشبة؛ فتحارب الدينان الكبيران وتفانيا في تلك الأيام، ومهدا السبيل لظهور الإسلام.
المحاضرة الثالثة: شرح النتيجة الثانية
إن فوز الفرس كان مقدمة لأمر أكبر خطرا وأعظم شأنا، وأعني به ثورة البلاد الجنوبية على الديانة النصرانية، وهي ثورة أضاعت على الروم تسعة أعشار أملاكهم الجغرافية في آسيا وأفريقيا وجزء من أوروبا كما قلنا.
فقد كان النزاع الديني بلغ منتهاه بين القسطنطينية ورومية من جهة، وبين صفرونيوس بطريرك أورشليم من جهة أخرى، وصفرونيوس هذا هو الذي سلم بيت المقدس إلى عمر بن الخطاب فيما بعد، وفي ذلك الوقت كان قد ظهر النبي الأمي ودعا العرب إلى توحيد الله، وجاءهم بالإسلام والقرآن، فدانوا له واتبعوا ملته، ثم ذهب إلى الرفيق الأعلى بعد أن أكمل الله للمسلمين دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينا، ذلك هو الدين الذي يدين به ثلث أهل الأرض.
ولسنا في مقام شرح الإسلام وأصوله الحكمية وقواعده الفلسفية؛ فإن ذلك مما لا يدخل ضمن دائرة البحث في هذا الدرس، وإنما نقول إن الوسائل قد تمهدت لقيامه للأسباب التي أشرنا إلى بعضها، وهي دينية، ولأسباب تدعونا الحاجة إلى الإلمام بها بطريق الإيجاز.
دولة الروم
إن هذه الدولة قد اضطربت أمورها قبيل ظهور الإسلام، وظهرت فيها أمراض اجتماعية بسبب الاختلاف الذي بلغ منتهاه بين ذوي السلطة فيها، سواء كان من جهة الدين، أو من جهة السياسية والعمران، وقد شاعت عند ظهور الإسلام نبوة غريبة تداولتها الألسن في كل مكان، وهي أن دولة الروم ستسقط على يد الأمم المختونة؛ فاضطهد هرقل اليهود اضطهادا شديدا وأبادهم جميعا، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى، وقد نجا جماعة منهم بالهرب إلى بلاد العرب؛ لأنهم كانوا ساعدوا الفرس على النكاية بالنصارى.
ولقد أشرنا في تضاعيف هذا البيان إلى ما وصلت إليه الشامات والعراق وآسيا الصغرى في عهد الدولة الرومية عند ظهور الإسلام من الفوضى بسبب الاختلافات الدينية والاضطرابات السياسية، وأما شمال أفريقيا فقد نازلها القوط
Goths
بعد أن جازوا بحر الزقاق، المعروف الآن ببوغاز جبل طارق، في سنة 620 للميلاد؛ أي قبل الهجرة النبوية بثلاث سنين، وتملك القومس (الكونت) يليان
Julien
بلاد سبتا، وهو الذي مهد للمسلمين فتح الأندلس، وبعد ذلك بقليل استقل بملك سبيطلة من أعمال تونس الآن - واسمها الإفرنكي القديم
Suffetula ، والآن
Sbitla - البطريق غريغوريوس، وهو أخو هرقل صاحب أفريقية الذي تولى ابنه هرقل إمبراطورية الروم، وكاتبه صاحب الشريعة الإسلامية، فلم يبق للإمبراطورية الرومية في أفريقية سوى قرطاجة ومدائن قليلة، وكانت كلها مضمحلة الأركان، بحيث إذا هاجمها عدو من الخارج بشيء من الشدة والعزيمة سقطت في يده، وذهبت معها بقايا الدولة الرومية أدراج الرياح، وذلك هو الذي وقع عندما ظهر الإسلام في ذلك الوقت.
أما مصر فقد كانت بأجمعها مشحونة بالنصارى، وهم على قسمين متباينين في أجناسهم وعقائدهم: أحدهما أهل الدولة، وكلهم روم من جند صاحب القسطنطينية، وهم ملكيون أو ملكائيون، يزيدون على 300000 نفس، والقسم الآخر عامة أهل مصر بأسرها، ويقال لهم القبط، وأنسابهم مختلطة لا يكاد يتميز منهم القبطي من الحبشي من الغربي من الإسرائيلي الأصل من غيره، وكلهم يعاقبة، فمنهم كتاب المملكة، ومنهم التجار والباعة، ومنهم الأساقفة والقسوس ونحوهم، ومنهم أهل الفلاحة والزرع، ومنهم أهل الخدمة والمهنة، وبينهم وبين الملكية - أهل الدولة - من العداوة ما يمنع مناكحتهم ويوجب قتل بعضهم بعضا،
1
وكانت الأمة المصرية حيال سادتها الروم في منتهى الذل والعبودية، قد أثقلتها الضرائب والمظالم، وحاقت بها أسباب الخسف والهوان، وأبناؤها يسومهم الروم سوء العذاب، ويمتصون ينابيع ثروتهم، ويغتصبون ثمرة أتعابهم، وولاة الروم لا هم لهم إلا تطلب المال وجمعه من هنا وهناك، دون أن يعبئوا بشيء من مصالح البلاد الاقتصادية والزراعية أو من أمور الرعية، وكثرت الفتن الدينية بدسائس الروم؛ حتى افتتنت العائلات (الأسر) وحقد الأب على ولده، والزوجة على زوجها، والأخ على أخيه، والابنة على أمها، مع اختلاف المذاهب وتشعب المشارب التي كان القائمون بها يقوم بسببها بعضهم على بعض، فيريقون الدماء هدرا في الشوارع والأزقة، فوصل الخلل والاضطراب إلى نهاية ما تتصوره العقول،
2
حتى صارت مصر تترقب الخلاص من نير الروم بأية وسيلة كانت؛ ولذلك استقبلت العرب بفرح شديد، كما كانت استقبلت الرومان الذين أنقذوها من البطالسة، وكما كانت استقبلت البطالسة الذين خلصوها من ظلم الفرس.
وقد روى ابن العبري أن الشمس انكسف نصف جرمها في السنة السابعة عشرة لهرقل، وثبت كسوفها من تشرين الأول إلى حزيران، ولم يكن يظهر من نورها إلا شيء يسير، فكأني بهذا الكسوف الغريب الذي وقع في سنة 627 واستمر نحو خمسة شهور، كان نذيرا بكسوفين آخرين معنويين، وهما كسوف دولة الروم وكسوف دولة الفرس الذين كانوا يعبدون الشمس.
دولة الفرس
إن اضطراب الدين إذا شاركه اختلال السياسة آذن بضياع السلطان وانقراض الدولة، فلقد رأينا الأمم عندما تأخذ في الانحطاط وتبدو على كيانها علامات الانحلال، يتشبث أبناؤها بالاختلاف في الدين، وتتفرق أهواؤهم في المذاهب؛ فيكون ذلك مدعاة للتنافر بين قادتها والتقاطع بين أهل الرأي فيها، فيهدمون أنفسهم وتصبح الأمة بلا رءوس ولا سراة، وهو مرض اجتماعي يصيب الأمم عندما تبلغ الهرم أو يدانيها العدم؛ فيتفرق الشمل وتذهب الريح ويضيع الملك.
هكذا كان الشأن ولا يزال، وفي التاريخ أكبر عبرة لذوي الألباب، هذه دولة الفرس أيضا كانت تدين بالمجوسية التي أطبق الناس على تعريفها بأنها «الدين الأكبر والملة العظمى»، كان لها من الشأن ما كان، حتى إذا تسللت إليها الاختلافات الدينية تحلل جثمانها، وحل مكانها الإسلام، فلقد قام فيها قبيل ولادة النبي العربي رجل اسمه مزدك (مزدق أو مز دك) فقال بالأصلين؛ أي النور والظلمة، وأدخل عليهما طريقة التثليث التي قال بها الروم، فذهب إلى أن الأصول والأركان ثلاثة: «الماء والنار والأرض»، وأنها اختلطت فحدث عنها إلهان اثنان، وهما مدبر الخير ومدبر الشر، ثم نهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، أحل النساء والأموال وجعل الناس شركة فيها، كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ،
3
وأعقبه ويصان ثم «مرقيون»، فمزجا بالمجوسية شيئا من تثليث النصرانية ؛ فاضطرب الدين الكبير في الشرق، كما اضطرب الدين الكبير الآخر في الشمال وفي الغرب، وكان ذلك ممهدا لظهور دين جديد لصلاح العالم، وأعني به دين التوحيد.
لم يقف الاضطراب في فارس عند حد الدين، بل اضمحل أمرها بالحروب الكثيرة التي اشتبكت فيها قبيل ظهور الإسلام، فإنها ما كانت تفرغ من مغير حتى يهاجمها آخر هو أشد وأقوى، وما زالت تتوالى عليها صدمات خاقان الترك الأعظم، ثم قيصر الروم، ثم ملك الخزر، وذلك كله في أيام هرمز أبي كسرى أبرويز، إلى أن اجترأ الأعادي على فارس وسقطت هيبتها من النفوس، حتى إن خلقا من العرب خرجوا عليها، ونزلوا في شاطئ الفرات، وشنوا الغارة الشعواء على أهل السواد، وقد أشرت إلى شيء مما كان بين فارس والروم، فأما خاقان ملك الترك الأعظم فقد سبق معنا القول إنه كان يهاجم الروم بقومه من شمال القسطنطينية، وقد أراد أن يهاجمهم أيضا من جهة الجنوب حينما رأى اختلال دولة الفرس، فأرسل إلى هرمز وإلى عظماء مملكته وأساورة بلاده يؤذنهم بإقباله ويقول: «رموا لي قناطر أنهار وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كل نهر لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم؛ فإني مجمع على المسير إليها من بلادكم.» فأنكر هرمز ما ورد عليه من ذلك؛ فأرسل رجلا من أنجاده لمحاربته وصده عن بلاده، وهو بهرام (جوبين أو شوبين)، وقد عاد قائده مظفرا منصورا بعد أن قتل خاقان وأسر ابنه، وحمل إليه من الأموال والجواهر والأواني وسائر الأمتعة مما غنمه وقر مائتي وخمسين ألف بعير، ثم دبت عقارب السوء بينه وبين هذا القائد العظيم فتنكر لهرمز وجوه الدولة وأعيان الجيش فخلعوه - كما قلنا - وولوا بهرام، هذا في خطب يطول.
ولكن كسرى أبرويز بن هرمز أسقطه بمساعدة ملك الروم، وجلس على عرش أبيه، وقد أرسل إليه القيصر ثوبين فيهما علامة الصليب فلبسهما، فقال الفرس: «قد تنصر الملك.» وحقدوا عليه بهذا السبب، وفوق ذلك لم يحسن سياسة الجند ؛ فخالفوا عليه وانضم أكابر قواده إلى ملك الروم، ثم فسدت عليه نية ملوك العرب فزاد ذلك في اضطراب الأمر بفارس، وزاد شغب الأمة على كسرى أبرويز، فقتلوه لتجبره واحتقاره العظماء وعتوه، وذاك أنه كان قد جمع من المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله قسطنطينية وأفريقية، وكان له اثنا عشر ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلا فيلا واحدا، وخمسون ألف دابة، ومن الجواهر والآلات والأواني ما يليق بذلك، فعتا واستهان بالناس والأحرار؛ فلذلك اكتسب عداوة أهل مملكته لأمور وقعت منه:
أولا:
أنه أمر بقتل كل مقيد في سجونه، وكان عددهم 36000 رجل، ولكن الموكل بهذا الأمر الفظيع توقف في تنفيذه.
ثانيا:
أنه احتقر الأمة واستخف بعظمائها.
ثالثا:
أنه سلط عليها علجا يقال له فرخان، ضغط على الأمة وشدد في استخراج بقايا الخراج بعنف وعذاب، وكان ضمن من ذلك مالا عظيما.
رابعا:
أن كسرى أجمع أمره على قتل فل الذين انصرفوا إليه من قبل هرقل؛ فتذمر الناس وائتمروا عليه، واجتمعوا على ابنه شيرويه
Siroés
الذي كان مسجونا مع بقية إخوته في بابل، وخلوا عن المسجونين في السجون، واجتمعوا على الجنود العائدة من قتال الروم، ثم أقبل شيرويه في جموعه على كسرى فانحاز إلى باغ له بالقرب من قصره يدعى باغ الهندوان، فحبسه ثم قتله بعد حديث طويل.
وفي أيامه كانت الهجرة النبوية لمضي 32 سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما من ملكه، وقد هلك بعد أن ملك 32 سنة. ولم يكتف شيرويه بقتل أبيه، بل قتل سبعة عشر أخا له ذوي آداب وشجاعة بمشورة وزرائه؛ فابتلي بالأسقام وجزع جزعا شديدا، وكان يبكي إلى أن رمى بالتاج عن رأسه، وعاش مهموما حزينا مدنفا، ومات بعد أن ملك ثمانية أشهر، فملك بعده ابنه أزدشير ولم يبلغ أكثر من سبع سنين؛ فاحتقره القائد المرابط على ثغور الروم، وانكفأ بجنده إلى فارس وملك عليها ولم يكن من بيت الملك؛ فتخالف الناس عليه وقتلوه بعد أربعين يوما وملكوا بوران دخت،
4
وهي بنت كسرى أبرويز، فأحسنت السيرة وبسطت العدل ، وأمرت برم القناطر وإعادة العمارات، ووضعت بقايا الخراج وكتبت إلى الناس عامة تعلمهم ما هي عليه من الإحسان، وأنها ترجو أن يريهم الله الرفاهة والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور ما يعلمون به أنه ليس ببطش الرجال تدوخ البلاد، ولا بيأسهم تستباح العساكر، ولا بمكايدهم ينال الظفر، ولكن ذلك كله يكون بالله عز وجل، وحسن النية واستقامة التدبير. ولكي تستجلب مودة الروم وتذهب حفيظتهم عن بلادها ردت خشبة الصليب على ملك الروم، ومضت لربها بعد سنة وأربعة أشهر، فتولى الملك رجل من بني عم أبرويز، وهلك بعد شهر، فآل الملك إلى أذرمي دخت أخت بوران دخت، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكانت ملكة بحقها وصدقها لو ساعدها الدهر والعمر، ولكنها ملكت والدولة مدبرة بإقبال دولة الإسلام، فكثرت في أيامها الأحداث، وتبسطت الأيدي، ومرضت السياسة، ولقد طمع فيها أحد القواد وأراد أن يتزوجها فأرسلت إليه: «إن التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أن أريك فيما ذهبت إليه قضاء حاجتك منى، فصر إلي في ليلة كذا وكذا.» وتقدمت إلى صاحب حرسها ليرصده، فلما أقبل قتله. وكان للرجل ابن عظيم البأس، قوي النفس، وهو رستم شجاع الفرس، وفارس القادسية المشهور، فأقبل وقتل الملكة بعد أن سمل عينيها. ثم توالت الفتن والاضطرابات على من ولي أمر الفرس ممن تداول الملك بعدها من النسوان والصبيان، حتى جاء يزدجرد، وهو غلام مراهق، فكان ملكه عند ملك آبائه وأجداده كالخيال، وكانت العظماء والوزراء يدبرون ملكه لحداثة سنه، ولم يبق من دولة العجم إلا رمق، والأهواء مختلفة والجماعات متفرقة، والأمور منحلة، والسياسة مختلة، والأحوال مضمحلة؛ فضعف أمر المملكة واجترأ عليها الأعادي من كل وجه، وطرقوا البلاد وخربوها، وغزت العرب مملكته؛ فهرب يزدجرد أمامهم ومعه ألف طباخ، وألف مطرب، وألف فهاد، وألف بازيار، وعنده أنه في خف، وانتهى أمره بسقوط ملك فارس في الشرق على أيدي المسلمين الذين أورثهم الله ملك الروم في الشمال وفي الغرب.
المحاضرة الرابعة: انتشار الإسلام والحروب الإسلامية
جاء محمد بدين الإسلام، فوضع الأصول الأولى لهذه الحضارة التي كان لها شأن كبير في ارتقاء بني الإنسان، ونحن إذا أنعمنا النظر في الصورة التي كان عليها العالم وقتئذ - وقد رسمناها بغاية السرعة - رأينا أن هذا الاختباط كان يؤذن بظهور حادث جديد، وأن الناس كانوا يتوقعون حدوث هذا الأمر الجليل للتخلص مما هم فيه من الارتباك الديني والدنيوي، وقد قيل لنا إنه ظهر قبيل محمد نفر كثير تطالت أعناقهم إلى هذه المرتبة الكبيرة في الهيئة الاجتماعية، وكأنما أحس العرب بأن هذا الأمر مقبل عليهم، وأن الدور آتيهم، فكان الأب يسمي ابنه محمدا استمطارا لهذه الأمنية، حتى بلغ من سموا بهذا الاسم في الجاهلية سبعة على ما قيل، وكثيرا ما اجتهد رجالات العرب في ترشيح أنفسهم لهذه الدرجة، وأخصهم أمية بن أبي الصلت الثقفي، وقس بن ساعدة الإيادي، وغيرهما.
فلما جاء دين التوحيد بعد التثنية والتثليث وجد السبيل ممهدة، والعقبات مذللة، والنفوس مهيأة؛ فغرست بذوره وتأصلت جذوره، فزكا ونمى وأينعت ثماره، وهذه الأسباب كلها كانت سببا في نجاحه.
إن المتأمل في أحوال هذا الكون إذا أعمل الفكر في ماضيه وحاضره لا يجد انقلابا واحدا حدث في حالة الإنسان الواحد، أو الأسرة، أو المجموع، أو الأمة، أو العالم كله، بغير أن تصحبه وتتلوه ضحايا وبلايا تختلف قلة وكثرة بحسب ما تصادفه من الأحوال، والعمدة كل العمدة إنما هي على النتيجة، فإن كانت حسنة في مجموعها مفيدة في جملتها، كان الانقلاب مستحبا والعاقبة مفيدة، ولا عبرة بما أدى إليها مما قد كان يكون اجتنابه أولى، لكن طبيعة العمران تأبى ذلك؛ لأن الكمال محال.
والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
قام الإسلام أولا بالدعوة والإرشاد والحض على مكارم الأخلاق، فلقي في أول أمره من آل الشرك من الترات ما حمله على أن يثأر لنفسه منهم بعدما اشتد أزره وقوي أمره؛ فأباد الوثنية من جزيرة العرب، فلم يبق لغير الإسلام فيها شأن، وخصوصا بعد أن ارتد العرب على أثر وفاة النبي - عليه الصلاة والسلام - فإن أبا بكر بذل همته ووجه قوته لإخضاع العرب كلهم إلى كلمة التوحيد؛ ولذلك لا يسعنا بصفتنا من الناظرين في أحوال العمران إلا أن نقول إن الإسلام اضطر إلى استعمال القوة في جزيرة العرب بعد أن أفرغ وسعه في الهداية بطريق الإقناع حتى لا تتقطع أوصاله ويتهدم كيانه، وبذلك صفا له الأمر وتوحد فيها دون سواه، أما حروب المسلمين (لا حروب الإسلام) بعد ذلك فقد كانت كلها بقصد التوسع في الملك والتبسط في الاستعمار.
لذلك يجوز لنا أن نقول إن انتشار الإسلام في غير جزيرة العرب يرجع معظمه بل كله إلى الهداية والإرشاد والإقناع، وإلى انتشار العرب في البلدان يحملون آداب الإسلام التي وجدت في نفوسهم أهلا ومكانا سهلا لما فطرتهم عليه البداوة من علو النفس والشجاعة والمروءة، فعاملوا الأمم المغلوبة بالعدل والإحسان - بله أن الأسباب العمرانية والدينية كانت قد تهيأت كلها لسيادة أمم الجنوب لمجيء دورها في الظهور - ألا ترى أن المسلمين قد أقروا أهل الشام على أقاويلهم، ولم يحاولوا نقل الفرس عن دينهم؟ بل إن سعد بن أبي وقاص بعد أن فتح بلاد فارس أقام صلاة الجماعة في إيوان كسرى على ما فيه من التماثيل والأنصاب والأوثان، مع أن الرسول - عليه السلام - كان قد أزالها من الكعبة ومن جميع أرض العرب حتى لا تفتنهم بالرجوع إلى خرافات آبائهم. وهذه مصر وفتحها معلوم للخاص والعام، فإن المسلمين حاربوا الروم بقصد الامتلاك والحلول محلهم للثأر منهم، وأما القبط فأبقوهم على ديانتهم وأملاكهم، وهذه الأندلس، وصقلية، والقسطنطينية، واليونان، والمجر، فأهلها بقوا على دينهم ونظامهم السياسي، وإنما تغيرت الحكومة والدولة.
فالمبدأ الذي قام به الإسلام مع من يناصبه العداوة ويقطع عليه الطريق هو الجزية، أو الإسلام، أو الحرب، ولقد دخل أكثر الأمم في حوزة الدولة الجديدة ورضيت بالجزية، حتى إن أكثر أفرادها حينما رأوا قواعد الإسلام وأصوله مالوا إليه، سواء كان ذلك من باب الاستحسان أو لأجل التخلص من دفع الجزية، فقد كان المسلمون يكتفون بالجزية إذا دانت لسلطانهم الأمم بعد الحرب ولم تشأ أن تدخل في دينهم، والدليل على ذلك أن بعض الولاة قد تناسوا أوامر الدين فاستمروا على أخذ الجزية من بعض الذميين مع أنهم دخلوا في دين الإسلام؛ وذلك لأنهم خافوا من اضطراب الإيراد واختلال الموازنة في ميزانية الدولة، فلما بلغ ذلك عمر بن عبد العزيز الأموي استنكره، وأمر برفع الجزية عمن يدخل في الإسلام، سواء كان ذلك لاقتناعه به أو لأجل التخلص من هذه الجزية.
وقد اقتدى به المولى أبو السعود حينما استفتاه السلطان العثماني في إلزام أهل المجر بالإسلام أو إبادتهم، فأنكر عليه ذلك، وقال بوجوب إبقائهم على دينهم ما داموا يؤدون الجزية لخزينة الدولة؛ لأن ما طمحت إليه نفس السلطان مخالف لأحكام الشرع ولروح الإسلام، فأقرهم على دينهم ولغاتهم الوطنية الأهلية، ولم يفعل آل عثمان مثل ما فعلت دولة إسبانيا مع عرب الأندلس، أو مثل ما تفعل بعض الدول الكبيرة في إبادة اللغات الوطنية من البلاد التي أدخلتها تحت حكمها تسهيلا لسبيل ابتلاعها في جسم الأمة الغالبة.
والخلاصة أن العامل الأكبر في انتشار الإسلام إنما هو الإقناع والإرشاد ومكارم الأخلاق، بل هذه آيات القرآن أكبر شاهد على ذلك، أليس يقول:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ؟ أليس هو الذي يقول:
لكم دينكم ولي دين ؟ أليس هو الذي يقول:
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، ويقول:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ؟
أما الحرب فهي من طبيعة الإنسان، أو هي من المصائب الضرورية كما يقول علماء العمران، وأي دولة قامت قديما أو حديثا وتوسعت في العمران وتبسطت في الملك بغير الحرب؟ على أن الإسلام لم يضطر إلى الحروب في زمن مبلغه وأبي بكر وعمر إلا ليثأر لنفسه من واتريه، وليدفع عن نفسه أذاهم، أما الحروب التي كانت من بعد ذلك فإنما أشعل جذوتها المسلمون لا الإسلام، على أن الأمم التي خيم عليها الظلم ونخر جسمها الفساد كانت هي التي تتطلب تداخل الجيوش الإسلامية، وتستنصرها على حكامها الظالمين، كما حصل في إسبانيا، وكذلك الملوك كانوا ينتصرون بخلفاء الإسلام حينما تقوم عليهم رعاياهم، كما حصل لإمبراطور الصين في أيام العباسيين، فإنه استنجد بأحد الخلفاء، فأرسل إليه جيشا بقي أفراده في بلاده وأوجدوا الإسلام، وهم إلى الآن من رجال الفضل والرياسة والجند الذي عليه المعول، خصوصا في إقليم يون نان، وفضلا عن هذا وذاك؛ فإن تجار المسلمين لهم اليد البيضاء في نشره في قارة أفريقيا إلى الآن بحسن سيرهم، وبأخلاقهم الجميلة، وبمعاملتهم الصادقة.
والخلاصة أن كل من يستقري أخبار الفتوح الإسلامية من بعد النبي
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر يجدها كلها راجعة إلى التوسع في الملك والاستعمار، هذا التوسع الذي تطمح إليه الأمم الجديدة عند ظهورها في ميدان العالم، ذلك ناموس عمراني خضع له العرب مثلما خضعت له الأمم القديمة والأمم الحديثة، فإن العرب عندما برزوا من شبه جزيرتهم والتأمت جموعهم بفضل الإسلام، إنما قصدوا توسيع ملكهم؛ لأنهم اكتفوا بالجزية وأقروا الأمم على أديانها، وإنما حاربوا الشرك وعبادة الأوثان كما حاربوهما في بلادهم الأصلية، وأما الأمم التي دانت لسيادة العرب فقد أثبتوا لها ديانتها ونظاماتها، واكتفوا منها بالخضوع السياسي، وهذا هو سر نجاحهم الغريب.
بهذه الأسباب المدنية الدنيوية انتشرت حضارة الإسلام في نصف قرن تقريبا، من سواحل البحر الأطلنطي إلى بلاد الصين، ومن جبال قفقاسيا وما وراءها إلى خط الاستواء وما وراءه.
بهذه الأسباب دخلت في حوزة الإسلام أمم كثيرة من السلالة السامية: «العرب، والسريان، والكلدان»، ومن السلالة الحامية: «المصريون، والنوبيون، والبربر، والسودان»، ومن السلالة الآرية: «الفرس، واليونان، والأسبان، والأهاند؛ أي الهنود»، ومن السلالة المسماة بالتورانية، وهم الترك والتتر.
بهذه الأسباب دخل في الإسلام كثير من أمم الصين وملايو، وانتشر في جزء كبير من جزيرة مدقسي كر، وجزائر الفيليبين، ووصل إلى روسيا وبولونيا، فضلا عن انتشاره في هذه الأيام بإنجلترة وأمريكا بين أهلها الأصليين، لا بواسطة النازحين إليها من المسلمين.
مع هذا الانتشار الغريب العجيب، بقيت أركان الإسلام الخمسة ثابتة لم تتغير وإن كانت الفرق قد تعددت والأهواء تنوعت، ولكن هذه الفرق كانت تظهر ثم تضمحل، أو يقول بها نفر قليل، ولكن الإسلامية بقيت في مشارق الأرض ومغاربها تقول برأي الصدر الأول على وجه العموم، نعم إن الملة حدث فيها انقسام كبير، امتازت به الأقطار الشرقية، وأعني بها التي شرقي بلاد العرب، وهي فارس والهند، فظهرت فيها الشيعة خصوصا في أرض فارس، ففصلت الوحدة الدينية العامة إلى حد محدود؛ وذلك لأن رد الفعل من السنن التي جبل الله عليها هذا الكون، ولولا هذا الاختلاف لقلنا إن الجوهر الديني لا يزال واحدا منذ ظهور الإسلام إلى الآن.
أما الوحدة الأدبية فعلى عكس ذلك؛ بمعنى أنها كادت تبلغ الكمال في أيام الأمويين وفي صدر الدولة العباسية؛ إذ كان لسان العلم والأدب هو اللغة العربية، وكانت اللغات الأخرى مهملة، وأصبحت عقيمة تجاه تيار العربية الغالب؛ فدون المسلمون العلوم والآداب كلها بلسان العرب.
قام النبي العربي بالتوحيد في السياسة، وفي الدين، وفي اللغة، فبذل همته في توحيد بلاد العرب من الوجهة السياسية، وتوصل إلى شيء كثير من تحقيق هذا المطلب قبل أن ينتقل إلى الدار الأخرى، فجعل العرب أمة واحدة بعد أن كانوا أشتاتا بعضهم لبعض عدو، وهي المزية الكبرى التي لم تبلغها هذه البلاد منذ الخليقة، مزية لا يسع المنصف إلا أن يقف أمامها في موقف الإعجاب والإكبار؛ إذ ترتب عليها ظهور العرب ذلك الظهور، وقيامهم بتلك الحركة العجيبة الخصبة التي أعقبتها حضارة الإسلام.
إن كانت هذه المزية مما لا يذكر له مثال سابق في التاريخ، فهنالك مزية أكبر وأفخم، وأعني بها مجيء محمد - عليه الصلاة والسلام - بالقرآن، نترك الكلام على هذا الكتاب المقدس من الوجهة الدينية، وننظر إليها من الحيثية البشرية، فلقد أجمع أهل الرأي من أفاضل الإفرنج - وإن كنا في غنى عن هذه الشهادة - بأن القرآن هو الأساس الأول الذي أقيمت عليه معالم الحضارة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، هذا هو القرآن الذي أصبح بعد انتشار الإسلام إماما للأمم الكثيرة المتنوعة التي سردنا أسماءها، بحيث دعتهم الحاجة إلى حفظه وتفهمه أن يضعوا قواعد النحو وأن يدونوا علم اللغة؛ ولذلك اجتهد السلف من هذه الأمة في جمع أشعار العرب القديمة والمعاصرين له لمعرفة مفرداته وغريبه.
لأجل حفظ القرآن وكتابته طلب النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى من لا يستطيع أن يفدي نفسه بالمال من أسارى بدر أن يفتدي نفسه بتعليم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة.
لأجل فهم قواعد الدين من القرآن وضع المسلمون علم العقائد، ثم علم الكلام.
لأجل استخراج الأحكام من القرآن وضعوا علم الفقه.
لأجل معرفة الحوادث المنصوص عليها في القرآن عنوا بعلم التاريخ.
لأجل معرفة المواقع المذكورة في القرآن اهتموا بعلم الجغرافية.
ثم تسلسلت العلوم والمعارف بينهم حتى دخلت الفلسفة في عصر العباسيين، فترجموا كتبها ثم اشتغلوا بها وبرعوا فيها. نعم إن الإسلام وحد اللغة أيضا ثم نشرها وجعلها بمثابة لغة عمومية يعرفها كل مسلم، والمسلمون هم ثلث أهل الأرض، وهي مزية لم تبلغها لغة من اللغات، ولم يتوصل إلى هذه المزية النادرة في بابها بغير القرآن.
يعلم القراء الكرام أن هذه المحاضرات الثلاث لعزتلو المفضال أحمد زكي بك، أستاذ الحضارة الإسلامية خطب طلبة الجامعة إياها قبل عطلة عيد الأضحى المبارك، التي بدأها بسفره إلى دمشق الشام، قاعدة ملك الأمويين؛ لدرس آثارها وتفهم ما فيها، ولترويض النفس من عناء الأعمال (وما أكثرها لديه)، ولم يحضر حتى يوم طبع القسم العربي من هذا الجزء، وقبل سفره ترك لمجلة الجامعة تلك المحاضرات في أوراق مبعثرة، كتب بعضها بخط يده، قد تصعب قراءته في بعض المواضع، وكتب بعضا آخر بخط ناسخ له حرف كلما عن مواضعه، فتحرينا الصواب فيها جهدنا، ولم نتمكن من عرضها عليه قبل الطبع لتغيبه، فنرجو إن شاء الله أن تكون كما يريد الأستاذ الجليل.
المحاضرة الخامسة: قاعدة ملك الأمويين
أيها السادة، كان سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - على بعد الأمكنة، ووعورة الطرق، وعدم ممهداتها ومذللات عقباتها من المراكب البخارية والكهربائية البرية والبحرية التي هي من أكبر عوامل انتشار المدنية الآن. كان سلفنا الصالح على تلك الحال يطوون الأباطح والجبال والكثبان والآكام لطلب مسألة واحدة من العلم، يطلبها النابغة في علمه من عالم آخر نبغ فيما يسأل فيه، وبذلك أقيمت صروح العلم في القرون الأولى، وخفقت أعلامه، وصعب تصدر العلماء للتعليم إلا من راض نفسه، وملأ رأسه، وأعد لمنزلته السامية ما استطاع لها من قوة.
وإذ إن الجامعة المصرية إنما أنشئت لإحياء ذكرى معاهد العلم والقائمين بها في تلك الأعصر الخالية التي هي من مفاخر الشرق كافة والإسلام خاصة، أردت - وأنا واحد من أساتذتها - أن أحيي أكبر سنة من سنن سلفنا الصالح، وهي الرحلة في طلب العلم لاقتناص فوائده وجمع شوارده بالبحث والمشاهدة ومشافهة أهل الذكر، فاغتنمت فرصة عطلة عيد الأضحى المبارك؛ لأضم فيها إلى علمي الكتابي الضئيل علما حسيا أشاهده بعيني وأسمعه بأذني، وما كان في حسباني أن يمتد بي الزمن إلى هذا اليوم فأضيع على نفسي وعليكم الأسبوع الفائت برمته، لولا أن عاقني الشغف بالعلم وحب التفهم إلى ذلك، وشجعني عليه ثقتي بأنني - إن شاء الله - سأتدارك ما فات وأعوضه.
ولعلي، أيها السادة، أبلغ ما قصدته من رحلتي هذه القصيرة، وهو أن يضم المسافر منا إلى رياضته علما جديدا، فإن الرياضة تحدث بانتقال الإنسان من عمل إلى عمل، فإنني إنما أردت بسفري بادئ الأمر أن أفر من كثرة الأعمال التي أثقلت كاهلي، فكادت تنوء به لولا رحمة من الله، وبقية من الصبر والجلد، وأبت نفسي اللوامة إلا أن تكون الرحلة إلى أول قاعدة لملك الأمويين لدرس معالمها وتفهم تاريخها من آثارها، فساقتني إليها رغم أنفي، ولكني - والحمد لله - غنمت غنمين: غنم الرياضة، وغنم التوسع في علمي القليل.
ولعلي كذلك أكون بسفري هذا حاضا لكم على الرحلة في طلب العلم وأسوة لمن يجيء جامعتنا المصرية من سائر البلاد المصرية لحضور محاضرة أو أكثر، ولمن يأتيها في مقبل أيامها من سائر أقطار المعمور.
أراني بذكرى دمشق قد أحدثت في أنفس لكم رغبة في السؤال عن اختصاصي دمشق بتلك الرحلة التي جاءت على عجل، ولكنني أثق بأن تلك الأنفس لو رجعت إلى المحاضرات الفائتة وأطالت النظر فيها لعرفت السر في هذا الأمر الذي تريد أن تسأل عنه، ذلك أننا ألممنا إلماما ما في تلك المحاضرات بأحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام، وأحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام، وبأحوال أضخم الممالك عند ظهوره، وانتشار الإسلام والحروب الإسلامية وبغير ذلك من الأمور العامة، ثم تخطينا عصر النبوة؛ لأنه عصر ديني محض، شغل بإعلاء كلمة الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كما قلنا قبلا، وكذلك تركنا عصر الخلفاء الراشدين الذي احتذى في بعضه عصر النبوة حذو القذة بالقذة، وشغل بعض آخر بالفتن الأهلية والحروب الداخلية، وأقبلنا إثر ذلك إلى عصر الأمويين، الذي هو مبدأ الحضارة الإسلامية، وفيه بالغ الملوك والسوقة في الترف والنعيم حتى نسوا أوامر الدين الحنيف ونواهيه.
فذلك الإقبال اضطرنا إلى زيارة أول قاعدة لذلك الملك العضوض لنرى منشأ الحضارة الإسلامية ومصدرها، وكانت تلك القاعدة هي دمشق الشام، التي هي بيت القصيد من هذه المحاضرة.
دمشق هي قصبة الشام، قال ياقوت: «هي جنة الأرض بلا خلاف؛ لحسن عمارة ونضارة بقعتها، وكثرة فاكهتها، ونزاهة رفعتها، وكثرة مياهها.»
وقال أبو بكر الخوارزمي: «ومن خصائص دمشق التي لم أر في بلد آخر مثلها كثرة الأنهار بها، وجريان الماء في قنواتها، فقل أن تمر بحائط - يعني بستانا - إلا والماء يخرج منه في أنبوب إلى حوض يشرب منه ويستقي الوارد والصادر، وما رأيت بها مسجدا ولا مدرسة ولا خانقاه إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان ويسيح في منصته، والمساكن بها غزيرة لكثرة أهلها والساكنين وضيق بقعتها. ولا تزال دمشق إلى الآن على هذه الحال.»
وفي دمشق من قبور الصحابة والتابعين وأهل الخير والصلاح ودورهم المشهورة بهم ما ليس في غيرها من البلدان، وهي معروفة للآن، وبعضها يزار في ميدان الحصى قبلي دمشق. قيل إن أكثر مقابر الصحابة والتابعين حرثت وزرعت في أول دولة بني العباس؛ فدرست قبورهم، فلما رأى ذلك أهل دمشق عز عليهم أن تخلو بلادهم من تلك المقابر، فادعوا وجود مقابر غيرهم من الصحابة والتابعين، وليس لهم فيها أثر، وإنما أكثرهم دفن في المدينة المنورة.
فتح المسلمون دمشق في رجب سنة 14ه بعد حصار وطعان، وكان قد نزل على كل باب من أبوابها أمير من أمراء المسلمين، فصدهم خالد بن الوليد من الباب الشرقي حتى افتتحها عنوة، فأسرع أهل البلد إلى أبي عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وكان كل منهم على ربع من الجيش، فسألوهم الأمان، فأمنوهم وفتحوا لهم الباب، فدخل هؤلاء من ثلاثة أبواب بالأمان، وانتهوا إلى نصف كنيسة يوحنا، ودخل خالد بالسيف، فانتهى إلى نصف الكنيسة الآخر، فصنع المسلمون نصف الكنيسة الذي دخلوه عنوة مسجدا، وبقي النصف الذي صالحوا عليه كنيسة، ثم وسع ذلك المسجد بعدئذ عبد الملك بن مروان، أحد ملوك بني أمية، وكان مشهورا بعمارة المساجد بصيرا بها، فأدخل فيه الكنيسة، وعرف من ذلك الحين بمسجد بني أمية.
وابتدأ عبد الملك في عمارته سنة 87، وقيل 88ه، وكان أراد في ذلك الوقت نفسه الزيادة في مسجد المدينة، فكتب إلى عامله عليها وقتئذ، وكان ذلكم الرجل الورع الزاهد عمر بن عبد العزيز، كلمات يأمره فيها بإدخال حجر أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى المسجد، وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه؛ حتى يكون مائتي ذراع، ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فأمر أهل التبصر فليقوموه قيمة عدل، ثم اهدم عليهم وادفع إليهم الثمن؛ فإن لك في ذلك سالف صدق: عمر، وعثمان. فأقرأ القوم الكتاب، فأجابوا إلى الثمن، وأعطاهم إياه، وأمر بهدم بيوت أزواج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فهدمها، ولم يلبث إلا يسيرا حتى قدم الفعلة، قدمهم الوليد، وبعث الوليد إلى صاحب الروم يخبره أنه أمر بهدم مسجد رسول الله، وأنه يعينه فيه، فبعث إليه بمال وآلات وعمال، فبعث بهم إلى عمر، وتجرد عمر بن عبد العزيز لذلك، واستعمل صالح بن كيسان على ذلك، ولما أمر بهدم بيوت أزواج رسول الله قال: «ما رأيت يوما أكثر باكيا من ذلك اليوم.» وكان فيما دخل المسجد من حجر أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم
حجرة السيدة عائشة، التي دفن فيها
صلى الله عليه وسلم ، فدخل قبره الشريف من ذلك الحين المسجد، على حين أنه لما توفي
صلى الله عليه وسلم
اختلف الصحابة في دفنه، فقال بعضهم: «ندفنه حيث كان يصلي.» فقال بعض آخر: «معاذ الله أن نجعله وثنا يعبد وهو الذي حطم الأوثان، وأزال الشرك، وأباد الأصنام من جميع جزيرة العرب.» فخاف الصحابة من دفنه في المسجد أن يكون مدعاة للرجوع إلى عبادة القبور أو من في القبور، كما كان شأن الأمم الغابرة في تنظيم الصالحين ثم مدافنهم من بعدهم، حتى تأدت الحال بالأعقاب إلى تناسي الأصل الأول، فعبدوا الأصنام والأوثان، وأشركوا بين الواحد القهار، فاتفقوا آخر الأمر على دفنه حيث مات.
وبينما كان الورع عمر بن عبد العزيز يوسع الحرم النبوي في المدينة المنورة، ويعمل بالقاعدة التي نسميها اليوم في قوانيننا ونظاماتنا بنزع الملكية للمنافع العمومية، كان الخليفة الأموي يبني مسجد دمشق المعروف بالجامع الأموي، وعند الشروع في بنائه جمع نصارى دمشق وقال لهم: إنا نريد أن نزيد في مسجدنا كنيستكم (يعني النصف الذي بقي لهم منها عند الصلح) ونعطيكم كنيسة حيث شئتم، وإن شئتم أضعفنا لكم الثمن. وذلك عملا بقاعدة نزع الملكية للمنافع العمومية التي كان عمر وعثمان أول من جرى عليها في الإسلام، فأبوا فهدم وزاد في المسجد ما أراد، وأسرف في إنفاق الأموال على عمارته، يقال إن الوليد أنفق على عمارة المسجد خراج المملكة سبع سنين، قيل وحملت إليه الحسابات بما أنفق على 18 بعيرا فأحرقها ولم ينظر فيها، وقال: «شيء أخرجناه لله، فلم نتبعه؟» وقد اقتدى به في ذلك الأمير طيبرس حينما بنى مدرسته التي بالجامع الأزهر في مصر، فضج الناس إكبارا لما أنفق الوليد، وقالوا: أخذ أموال المسلمين فأنفقها فيما لا يغني عنهم من الله شيئا.
وقيل إن عمارته لبثت تسع سنين، وكان يعمل فيه عشرة آلاف عامل، فبلغ ما أكلوه من الخضر والبقول ستة آلاف دينار.
ولقد جعل ذرع المسجد في الطول من الشرق إلى الغرب ثلثمائة ذراع، وعرضه مائتي ذراع، أما سعة صحنه فهي مائة ذراع، وأنشئ في ذلك الصحن ثلاث قباب: إحداها - وهي أكبرها - في غربيه، وتسمى قبة عائشة أم المؤمنين، حملت على ثمانية أعمدة من الرخام، مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة، مسقوفة بالرصاص، والقبة الثانية في شرقيه، وهي على هيئة الأخرى، غير أنها أصغر منها، وتسمى قبة زين العابدين، والقبة الثالثة في وسطه، وهي صغيرة، من رخام عجيب، محكمة الالتصاق، قائمة على أربعة عمد من الرخام الناصع، وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاس يمج الماء إلى علو، فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب لجين، وهم يسمونه قفص الماء، ويستحسن الناس وضع أفواههم فيه للشرب.
وفي الجانب الشرقي من هذا الصحن باب يفضي إلى مسجد بديع الوضع، يسمى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ويقابله من الجهة الغربية موضع يقال إن عائشة - رضي الله تعالى عنها - سمعت الحديث هناك، وفي قبلة المسجد المقصورة العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية، وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة كان فيها المصحف الكريم الذي وجهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - إلى الشام، وتفتح تلك الخزانة كل يوم جمعة بعد الصلاة، فيزدحم الناس على لثم ذلك المصحف، وهناك يحلف الناس غرماءهم ومن ادعوا عليه شيئا، وعن يسار المقصورة محراب الصحابة، وفيه يؤم إمام المالكية، وعن يمين المقصورة محراب الحنفية، وفيه يؤم إمامهم، ويليه محراب الحنابلة، وفيه يؤم إمامهم.
ورفع سقف المسجد على أعمدة من الرخام مؤلفة من طبقتين: الطبقة التحتانية أعمدة كبار، والفوقانية أعمدة صغار، وفي خلال ذلك صورة كل مدينة وشجرة في الدنيا عرفها الصناع، مصورة بالذهب والفسيفساء، وهي فصوص من ذهب يخالطها أنواع الأصبغة الغريبة الحسن، وهي معروفة بالفص والتفصيص وبالزليج، وقد عرفت بذلك عند أهل إسبانيا فقالوا أزوليخو
Azulejo ، واسمها عند الفرنسيس
Mosaïque .
وفي قبلي المسجد أمام المحراب قبة من رصاص، وهي المعروفة بقبة النسر ، وكأنهم شبهوا المسجد بنسر وهي رأسه، وليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظرا منها، وهي محمولة على ستة أعمدة، قد صور فيها أشكال محاريب وسواها.
وقد رصعت محاريب المسجد بالجواهر الثمينة، وعلق عليه قناديل الذهب والفضة، وشق فيه أربعة أبواب: باب في قبليه، ويعرف بباب الزيادة، وبأعلاه قطعة من الرمح الذي كانت فيه راية خالد بن الوليد، ولهذا الباب دهليز كبير متسع، فيه حوانيت السقاطين وغيرهم، ومنه يذهب إلى دار الخيل، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين، وهي سوق عظيمة ممتدة مع جدار المسجد القبلي، وهي من أحسن أسواق دمشق، وبموضع هذه السوق كانت دار معاوية بن أبي سفيان ودور قومه، كانت تسمى الخضراء، فهدمها بنو العباس وصار مكانها سوقا.
وباب في شرقيه، وهو أعظم أبواب المسجد، ويسمى باب جيرون، وله دهليز عظيم يخرج منه إلى بلاط عظيم طويل، أمامه خمسة أبواب لها ستة أعمدة طوال، وفي جهة اليسار منه مشهد عظيم كان فيه رأس الحسين، وبإزائه مسجد صغير ينسب إلى عمر بن عبد العزيز، وبه ماء جار، وقد انتظمت أمام البلاط درج ينحدر فيها إلى الدهليز، وهو كالخندق العظيم يتصل بباب عظيم الارتفاع، تحته أعمدة كالجذوع طوال، وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة فيها دكاكين البزازين وغيرهم، وعليها شوارع مستطيلة فيها حوانيت الجوهريين والكتبيين وصناع أواني الزجاج العجيبة، وفي الرحبة المتصلة بالباب الأول دكاكين لكبار الشهود، منها دكانان للشافعية، وسائرها لأصحاب المذاهب، يكون في الدكان منها الخمسة والستة من العدول، والعاقد للأنكحة من قبل القاضي، وسائر الشهود متفرقون في المدينة، وبمقربة من هذه الدكاكين سوق الوراقين، الذين يبيعون الورق والأقلام والمداد. وفي وسط الدهليز المذكور حوض من الرخام كبير مستدير، عليه قبة لا سقف لها، تقلها أعمدة رخام، وفي وسط الحوض أنبوب نحاس يزعج الماء بقوة فيرتفع في الهواء أزيد من قامة الإنسان، يسمونه الفوارة، منظره عجيب. وعن يمين الخارج من باب جيرون، وهو باب الساعات، غرفة لها هيئة طاق كبير فيه طبقان صغار، مفتحة لها أبواب على عدد ساعات النهار، والأبواب مصبوغ باطنها بالخضرة وظاهرها بالصفرة، فإذا ذهبت ساعة من النهار انقلب الباطن الأخضر ظاهرا والظاهر الأصفر باطنا.
وباب في غربيه يعرف بباب البريد، وعن يمين الخارج منه مدرسة للشافعية، وله دهليز فيه حوانيت للشماعين، وسماط لبيع الفواكه، وبأعلاه باب يصعد إليه في درج له أعمدة سامية في الهواء، وتحت الدرج سقايتان عن اليمين والشمال مستديرتان.
والباب الجوفي، ويعرف بباب النطفانيين، وله دهليز عظيم، وعن يمين الخارج منه خانقاه تعرف بالشميعانية، في وسطها صهريج ماء، ولها مطاهر يجري فيها الماء، ويقال إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.
وعلى كل باب من أبواب المسجد الأربعة دار وضوء يكون فيها نحو مائة بيت تجري فيها المياه الكثيرة.
وكان في المسجد 600 سلسلة من ذهب، قيل إنها كانت تختطف الأبصار؛ فدخنوها ليكسروا من ضوئها، كما يدخن الأوروبيون الآن الفضة.
وقال موسى بن حماد البربري: رأيت في مسجد دمشق سورة
ألهاكم التكاثر
إلى آخرها محفورة بالذهب في الزجاج، ورأيت جوهرة حمراء ملصقة في القاف التي في قوله تعالى:
حتى زرتم المقابر ، فسألت عن ذلك، فقيل لي إنه كانت للوليد بنت، وكانت هذه الجوهرة لها، فماتت فأمرت أمها أن تدفن هذه الجوهرة معها في قبرها، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر من
ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر ، ثم حلف لأمها أنه قد أودعها المقابر فسكتت.
وكان في المسجد أئمة ومدرسون، وقراء يقرءون بالأصوات الحسنة، وجماعة من المعلمين يلقنون الصبيان القرآن، ومعلمون للخط.
وقد وصف بعض أهالي دمشق ذلك المسجد فقال: «جامع المحاسن، كامل الغرائب، معدود من إحدى العجائب، قد زور بعض فرشه بالرخام، وألف على أحسن تركيب ونظام، وفوق ذلك فص أقداره متفقة وصنعته مؤتلفة، بساطه يكاد يقطر ذهبا ويشتعل لهبا، وهو منزه عن صور الحيوان إلى صنوف النبات وفنون الأغصان، لكنها لا تجنى إلا بالأبصار، ولا يدخل عليها الفساد كما يدخل على الأشجار والثمار، بل باقية على طول الزمان، مدركة بالعيان في كل أوان، لا يمسها عطش مع فقدان القطر، ولا يعتريها ذبول مع تصاريف الدهر.»
فقد كان مسجد دمشق من أعجب ما صنع في الدنيا، حتى قال بعض السلف: «ما ينبغي لأحد أن يكون أشد شوقا إلى الجنة من أهل دمشق؛ لما يرونه من حسن مسجدهم.»
وهذا مما يدل على سرعة إيغال العرب في الحضارة حتى بذوا فيها أهل عصرهم سرعة لم يعهد لها نظير في تواريخ الأمم المتحضرة.
ولم يزل ذلك المسجد على تلك الصورة التي تملأ العين حسنا وبهاء إلى أن أشعلت فيه النيران سنة 461ه؛ فأذهبت بعض بهجته.
ومما يروى أن عمر بن عبد العزيز لما ولي ملك بني أمية قال: «إني أرى في أموال مسجد دمشق كثرة أنفقت في غير حقها، فلو استدركت ما أنا مستدرك منها فيرد إلى بيت المال، لكنت أنزع هذا الرخام والفسيفساء، وأنزع هذه السلاسل وأصير بدلها حبالا.» فاشتد ذلك على أهل دمشق، فأبلغوه إعظام الروم لهذا المسجد، فترك ما هم به.
هذا ما كان عليه مسجد دمشق، وتلك حاله، غير أن الذي يؤسفنا ويؤلمنا أن هذه الصفات البديعة لا يوجد منها الآن شيء مذكور، اللهم إلا ما كان من آثارها التي تدل عليها.
وقد زرت بعلبك لعلاقتها بحضارة الإسلام، وهي مدينة قديمة مشهورة في سوريا، في الجهة الشمالية من سهل البقاع، قرب الجبل الشرقي المعروف بمصاقب لبنان. وبعلبك كما وصفها المؤرخون كانت قبلا من أجل لمدن؛ لوقوعها بين صور وتدمر والهند، فكانت محطا لقوافل التجارة، وهي إحدى مدن فينيقية اللبنانية في عهد الرومان، على مسافة واحد وثلاثين ميلا من دمشق إلى الشمال الغربي، واثنين وثلاثين ميلا إلى طرابلس، ومائة ميل وتسعة أميال إلى تدمر.
أما الآن فهي قصبة قضاء تتبع ولاية دمشق، وفيها كرسي أسقف للروم الكاثوليك، وآلاي لعساكر الرديف، وإدارة بريد وبرق، وموقف للسكة الحديدية بين رباق وحلب، وعدد سكانها يبلغ خمسة آلاف، النصف شيعة (متاولة)، والربع من أهل السنة، والربع الآخر مسيحيون، منهم ألف روم كاثوليك، ومائة موارنة، ولهم رئيس أساقفة، وخمسون روم أرثوذكس.
وفيها مسجدان لأهل السنة: أحدهما يعرف بالحنبلي، جدد بناءه السلطان قلاوون سنة 682ه، والآخر جدد بناؤه سنة 1321ه، وفيه مئذنة بنيت في أيام الملك الصالح أبي الفداء إسماعيل سنة 638، وهو بقرب الهيكل المستدير؛ ومسجد للشيعة بناه سابقا الأمير يونس الحرفوش سنة 962ه، وجدد بناؤه سنة 1325ه. وفيها مسجد كبير خرب، كان فيما سلف على ما يظهر كنيسة للقديس يوحنا، فحولها المسلمون مسجدا، وكان المسجد الأعظم في عمرانه، ولكنه لم يفقد الآن غير سقفه، وهو في داخله ذو ثلاثة صفوف من الأعمدة القصيرة، بعضها من حجر الجرانيت وبعضها من حجر أصم، وعلى أكثره تيجان قرنثية تحمل أقواسا قنطرية يرتكز عليها السقف، وقد وضعت العمد بلا ترتيب ولا نظام، فأكثرها وضع على الأرض بلا قواعد، وبعضها يحمل تيجانا لا تناسب حجمه، ويرجح أن العرب نقلوها من أعمدة البهويين في القلعة بعد أن قطعوا شيئا من طولها. ويفصل المسجد عن الدار التي بجانبه صف من الركائز المربعة ذات الأقواس، وهناك على ركيزة في الوسط جرن للماء عليه نقوش عربية، وكان تحته حوض لقبول الماء، ويظن أن الجرن أخذ من الكنيسة القديمة حيث كان للمعمودية، وبجانب هذا المسجد دار فسيحة مربعة، يحيط بها رواق من القناطر من الشرق والشمال والغرب لم يبق منه سوى قنطرتين في الجهة الشمالية، ووراء الرواق من الشرق غرف كانت للتدريس، وعلى أبوابها كتابات عربية، وفي وسط الدار بركة للماء، كان على جوانبها الأربعة أعمدة تحمل فيه، ولم يبق من ذلك إلا الأثر.
وأكثر أهل بعلبك زراع، وفيها بساتين حسنة تحيط بها، ونبعها المسمى «برأس العين» من أجمل المتنزهات في سوريا، فهو روضة أنيقة، مياهها كاللجين، وليس فيها من عيب إلا أنها زائلة. وفي رأس العين مسجد ينتهي بناؤه إلى زمن الظاهر بيبرس البندقداري في سنة 676ه، وهو فخم جليل، ولكنه متخرب مثل مسجده بالقاهرة في البقعة المعروفة باسمه.
وكان هناك آثار مدرسة قديمة، لم تبق منها يد الجهل غير حجر عليه كتابة عربية نقل إليها من المسجد.
وكانت هذه المدينة من أعظم المدن السورية وأشدها منعة وحصانة، وحولها إلى الآن آثار أسوار كانت تحيط بها، وفيها آثار يسعى السائحون سنويا إليها لرؤيتها، ومن تلك الآثار قلعتها التي هي من أعجب مباني الدنيا وأبهج الآثار، ومن تلك الآثار التي كادت تدرس معالمها هياكل جليلة، أشهرها هيكل الشمس الذي كان من أجل أسباب عمران بعلبك وتقدمها لكثرة وفود الزائرين إليه، وكان له احتفال من أبهج الاحتفالات، قيل حمل إلى ذلك الهيكل تمثال الشمس الذي سمي به من مصر، وهو يشبه تمثال أوزيريس، قيل إن أنطونينوس بيوس هو الذي رممه وزينه سنة 160، ولما انتشرت الديانة المسيحية في الشرق هجرت كل الهياكل الوثنية إلا هيكل الشمس، فإنه جعل كنيسة مسيحية، وذلك في أيام قسطنطين بن هيلانة، الذي تنصر وأخذ خشبة الصليب من بيت المقدس. وبقيت بعلبك زاهية زاهرة إلى أن فتحها المسلمون سنة 635، فدافع أهلها دفاعا حسنا، وبقيت أكثر من قرن مركزا عظيما للتجارة، إلى أن استبيح دم أهلها فقتلوا على عهد الأمويين، ونهبها تيمور سنة 1400م، وتم خرابها بزلزلة هائلة سنة 1799م.
أما قلعة بعلبك فهي هيكل الشمس الذي ذكرناه، حوله المسلمون قلعة حينما حدثت الحروب الصليبية، فإن السلطان صلاح الدين ذهب إلى بعلبك ووجد هذا الهيكل أمنع حصن فحوله إلى قلعة، ورفع فوقه أحجارا من غير نظام للسرعة، جعلت مناور لجند المسلمين يرمون منها الأعداء، وهي المعروفة الآن باللغة التركية بالمزالق.
وفي تلك القلعة أعمدة من الصوان أو الجرانيت أخذت من أسوان، فدل هذا على قدرة في حمل الأثقال ونقلها من أقصى الصعيد على روامس على النيل، ومنه على بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) حتى طرابلس الشام، ومنها على عجلات تخترق جبل لبنان على الطريق الرومانية، التي وجد النقابون آثارها حيال بعلبك.
وعلى تلك الأعمدة أجل ما يستطيع أن يصنعه صانع من النقوش البديعة الدقيقة التي تشبه «التنتلة»، وتلك النقوش تشهد بأنها لم تصنع إلا بعد أن رفعت هذه العمد إلى ذلك المكان الذي هي فيه ؛ لأنها لم تكسر مع شدة ارتفاعه الهائل، ويؤكد تلك الشهادة أن ذلك النقش لم يتم، وكأني بالملك قسطنطين لما تنصر أوقف العمل في هذا النقش؛ لأن على تلك العمد كتابة تدل على انتشار النصرانية هناك.
ثم بنى المسلمون في ذلك الهيكل أو تلك القلعة مسجدا يشبه مساجد مصر، وفيه بئر يسميها مؤرخون من العرب بئر الرحمة؛ لأنهم يزعمون أن ماءها كان يفيض إذا حاصر الصليبيون القلعة، فإذا ما انفضوا من حولها هبط الماء. ولقد علل هذا الانتقاد سوري عالم أديب فقال: «إن المسلمين أحاطوا تلك القلعة بخندق كانوا يملئونه ماء إذا حاصرهم الصليبيون، فيسير الماء إلى البئر من جوف الأرض فيملؤها، فإذا ما ذهبوا رفع المسلمون الماء من الخندق ليفرجوا عن أنفسهم، فيقل ماء البئر.» وهذا معقول وصحيح، وحق لهم أن يسموه بئر الرحمة، غير أنهم أخطئوا في تعليل ذلك إذ قالوا بأنه من الخوارق، والحقيقة أن ذلك الفيض والغيض مظهر من مظاهر الناموس الطبيعي المعروف في علم الطبيعة.
وعلى ذكر الحروب الصليبية وتلك القلعة الإسلامية نقول إن الصليبيين كانوا يعملون أبراجا من خشب متنقلة يسمونها «الدبانات، والكبوش»، وكانوا يسيرونها لرمي الأعداء المستترين في أعالي القلاع.
المحاضرة السادسة: تتمة المحاضرة الماضية
هذا وقد زرت أيضا مدينة صيدا الشهيرة في فلسطين.
دعاني إلى زيارتها داعيان: الداعي الأول توقع ما قد يكون فيها من آثار الحضارة الإسلامية، والداعي الآخر، وهو أجلها عندي، هو البحث عن كتاب جليل القدر عالي الشأن، يعد من مفاخر الأمة الإسلامية، ويدل على مقدار رقيها وحضارتها وضربها في العلم بسهام نافذة، وذلكم الكتاب الذي سارت بذكره الركبان، وملأ بريد ذكره الآفاق هو: «نهاية الأرب في فنون الأدب»، في 30 جزءا، لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم البكري التميمي القرشي النويري المصري، المولود بالنويرة من أعمال مديرية بني سويف، المتوفى في 21 رمضان سنة 733ه، وقيل سنة 732ه.
هذا كتاب يصدق عليه دون سواه أن يقال عنه إنه جمع فأوعى، وإنه لم يترك شاردة من فنون الأدب إلا تصيدها، ولم يغادر واردة من موارد العلوم إلا قيدها، ولا فائدة من فوائد التاريخ إلا دونها، فهو حسنة الحسنات التي يليق الافتخار بها ويجب التناصر على إبرازها، خصوصا وأن مؤلفه من أبناء مصر الذين نبغوا في أيام المماليك على عهد السلطان محمد قلاوون، وكان من أركان دولته وأساطين حكومته، وكان معاصرا لابن فضل الله العمري، وللسلطان أبي الفدا صاحب التاريخ والجغرافيا، وغيرهما من فحول الإسلام الذين تفتخر بهم مصر والشام؛ فلذلك تيسرت للنويري المطالب، وتوفرت لديه الموارد؛ فتمكن من جمع هذا الكتاب في ثلاثين جزءا، يفي كل واحد منها بالمرام، بحيث لا تبقى بعده حاجة في نفس المطالع أو الطالب.
ولكن الزمان أخنى على هذا الكتاب الجليل في جملة ما أباده من آثار مصر، فسطت عليه الأيدي، وتلقفته الأمم، وتخطفته الكتبخانات الأجنبية؛ فتفرقت أجزاؤه في كل قطر، وبقيت مصر وحدها محرومة منه؛ إذ لا يصح الاعتداد بالقطعة الصغيرة الباقية في الكتبخانة الخديوية، وهي الجزء الثاني والعشرون
1
فقط؛ وذلك لأنه مع كثرة البحث ومواصلة التنقيب لم يظهر لهذا الكتاب أدنى أثر آخر في دور الكتب ومعاهد العلم بديار مصر، ولا عند الأفاضل الذين توفروا على جمع الكتب والاحتفاظ بنفائسها.
وقد توليت البحث عنه في مكاتب أوروبا المتفرقة أثناء رحلاتي العلمية، وواصلت السعي منذ سنة 1890 إلى سنة 1904 لمعرفة مكامنه في القسطنطينية، ورومية، وويانة، وبرلين، وليدن، وباريس، ومدريد، وأكسفورد، ونقلت بعض المعلومات اللازمة عنه للتنبيه عليه والتعريف به، وتيسرت لي الإحاطة بكل ما يتعلق بهذا الكتاب، واجتمعت لدي الوسائل التي توصل الناطقين بالضاد ونصراء المعارف من غيرهم للحصول على هذا الكنز العديم النظير. ومن تمام حسن الحظ أنني عثرت أخيرا في مكتبة الغيور حضرة ألماس أغا صبري باش أغاي السراي الخديوية على الجزء الأول والثاني من نسخة جليلة صحيحة مضبوطة، مكتوبة في سنة 1176ه، برسم فخر العلماء وتاج الأدباء المرحوم محمد راغب باشا، الصدر الأعظم صاحب السفينة المشهورة، وغيرها من جلائل المصنفات، فأعلمت حضرة الباش أغا بمساعي في اقتصاص أثر هذا الكتاب، وما يترتب على نشره من المفاخر والفوائد؛ فبادر وقدمها إلي لاستخدامها بما فيه المصلحة العامة؛ لكي يتيسر التعجيل بطبع الكتاب، والشروع في تعميم هذه المنفعة الجليلة.
ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن هذا الكتاب كان موضع عناية خصوصية من أمراء الدولة العلية العثمانية وصدورها العظام، فإن الصدر الأعظم محمد باشا الكوبريلي نقله لنفسه بطريقة بلغت الغاية في السرعة، فقد ثبت لي من البحث والمراجعة أنه أخذ نسخة كاملة وفرق أجزاءها على جماعة من النساخين، وأغلبهم من الشاويشية؛ فاجتمعت لديه نسخة كاملة في أقرب وقت، ولكنها، لاختلاف النساخين وجهلهم بالعلم وباللغة العربية، جاءت سقيمة محرفة مشوهة في كثير من المواضع، وهي محفوظة بكتبخانته في القسطنطينية. ومثله في العناية القاضي صاحب النسخة التي بقي جزء واحد منها بالكتبخانة الخديوية، أما في عصر المؤلف فقد كانت العناية بهذا الكتاب بالغة حدها، فإن أمراء مصر استنسخوه كثيرا وجعلوه وقفا في أكثر مساجد ومدارس القاهرة، كما يظهر من الأجزاء المتفرقة في الآستانة وغيرها من عواصم أوروبا.
ولأجل بيان ما حواه هذا الكتاب الجامع من المباحث والمطالب نقول إن مؤلفه رتبه على خمسة فنون، حصر فيها كل أنواع العلوم من معقول ومنقول:
الفن الأول:
في السماء والآثار العلوية، والأرض والعالم السفلي.
الفن الثاني:
في الإنسان وما يتعلق به.
الفن الثالث:
في الحيوان الصامت.
الفن الرابع:
في النباتات «ويدخله علم الطب».
الفن الخامس:
في التاريخ.
قسم المؤلف كل فن إلى خمسة أقسام، وتحت كل قسم أبواب تنطوي على جملة فصول ومباحث ومطالب.
من موجبات الغرابة، بل من دواعي العبرة والأسف، أن الأجانب كما انفردوا دوننا بحيازة هذا الكنز الثمين، قد امتازوا علينا أيضا بالاستفادة منه واستثمار مزاياه، أما نحن معاشر المصريين أصحاب الشأن الأول في هذا الميراث الجليل فقد بقينا إلى الآن على جهل تام بمواضع هذا الكتاب وبموضوعاته، مع أن أسلافنا عرفوا مكانته ومزيته، فاستقوا من بحره الطامي، وشادوا به لأنفسهم ذكرا عاليا في الخافقين، مثل صاحب بهجة الزمن في تاريخ اليمن، ومثل القلقشندي صاحب كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ومثل ابن شاكر فخر الدين محمد الكتبي، صاحب فوات الوفيات، فإنه ألف تاريخا كبيرا سماه عيون التواريخ، في كتبخانة باريس جزآن منه، وهما: الثالث، وفي آخره 9 ورقات تحتوي على أول غزوات المسلمين وحروبهم في الأندلس، والثامن، وفي آخره 133 ورقة تحتوي على تاريخ بلاد المغرب منذ فتحها المسلمون إلى أن ملكها السلطان الموحدي المستنصر بالله أبو يعقوب يوسف بن الناصر محمد، وكل ذلك منقول عن النويري، وفي كتبخانة باريس أيضا تحت نمرة 1577 جزء يحتوي على المختار من تاريخ النويري، ولم يذكر صاحب الاختيار اسمه، وهذا الجزء يحتوي على تاريخ الموحدين بالأندلس وأفريقيا وفتح مراكش، وعلى شيء كثير غير ذلك من التاريخ والأدب، وفي مكتبة أكسفورد - إحدى مدينتي العلم ببلاد الإنكليز - كتابان عربيان محفوظان تحت نمرة 404 و405، وليس لهما عنوان، ولم يذكر المؤلف اسمه، وفيهما شرح أسماء لغوية وجمل وأقوال، وذكر بعض المواضع التي حصلت بها أكبر الحوادث في التاريخ، وغير ذلك، وقد اعتمد المؤلف في ذلك كله على النويري، وكذلك صاحب شفاء الغليل، ولكن العالم المحقق الشيخ نصر الهوريني لم يصحح اسمه، فتركه نهاية للأدب؛ لأنه - وهو علامة مصر - لم يطلع على الكتاب.
أما علماء الإفرنج الذين اقتبسوا من أنوار هذا الكتاب، واهتدوا بمعالمه، وأفاضوا في النقل عنه والاعتماد عليه والرجوع إليه، فهم كثيرون، نخص بالذكر منهم من يأتي:
أولا:
العلامة السويدي أوتر
Otter
المتوفى سنة 1748، كتب مؤلفا وافيا على ما ذكره النويري عن فتح المسلمين لبلاد أفريقيا الشمالية.
ثانيا:
العلامة الهولندي ألبرت شولتنز
Albert Schultens
المتوفى سنة 1750، فقد استخرج منه ما يختص بتاريخ اليمن وساكنيه قديما، وكتب في ذلك تاريخا مفيدا، وله كتاب آخر في آثار العرب القديمة، نقل فيه فصولا أخرى عن النويري، وعنوان التاريخ:
Historia imperii vetustissimi Joctanidarum in Arabia Felice ، وعنوان كتابه في الآثار:
Monumenta vetustiora Arabum .
ثالثا:
العلامة الألماني ريسك
Reiske
المتوفى سنة 1774، فإنه ترجم إلى اللغة اللاتينية كل ما أورده السلطان أبو الفدا عن وصف بلاد الشام في جغرافيته المسماة بتقويم البلدان، ثم عقب هذه الترجمة برسالة لاتينية للتعريف بكتاب كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون، وضمنها بيان كل ما في موسوعات النويري من المطالب والأبواب ، وجعلها كفهرست تحليلي تفصيلي لتسهيل الوقوف على ما حوته من أنواع العلوم والآداب، وجعل عنوان هذه الرسالة:
tabulas .
رابعا:
العلامة الدانيمركي راسموسن
Rasmussen
المتوفى سنة 1805، ألف باللغة اللاتينية كتابا في تاريخ الإسلام والخلفاء، ثم جعل له ذيلا في تاريخ العرب قبل الإسلام، اعتمد في كل منهما على النويري وخصوصا في الذيل، وعنوان الكتاب:
Annalis isla mismi, sive tabulæ synochronisticæ-chronologicæ chalifarum ، وعنوان الذيل:
Additamenta ad historiam Arabum ante Islamum, ex Novereïr excerpta .
خامسا:
الشماس الطلياني جريجوريو روزاريو
Gregorio Rosario ، ترجم إلى الطلياني كل ما كتبه النويري على جزيرة صقلية، أيام كانت في حكم المسلمين، في كتابه الذي سماه
Collezione di cose arabe-siciliane ، وطبعه في بالرم عاصمة صقلية سنة 1790.
سادسا:
العلامة الألماني أيشهورن
Eichhorn ، المتوفى سنة 1827، نقل إلى اللغة اللاتينية كل ما كتبه النويري فيما يتعلق بتاريخ العرب قبل الإسلام في كتابه المسمى
Monumenta antiquissima historiæ Arabm .
سابعا:
العلامة الفرنساوي كوسان الوالد
Caussin le père ، المتوفى سنة 1835، فقد ترجم ما كتبه النويري على تاريخ جزيرة صقلية (وقد ضبطها ابن خلكان بفتح الصاد والقاف، ولكن الكسرتين أصوب وأقرب للاسم الإفرنكي).
ثامنا:
العلامة الفرنساوي الكبير المشهور في المشارق والمغارب، وهو البارون سلفستر دوساسي
Baron Silvestre de Sacy ، المتوفى سنة 1838، استخرج من نهاية الأدب كل ما يتعلق بالدروز، ونقله إلى الفرنساوية، ووضعه مترجما في كتابه الحافل الذي تكفل شرح أحوال هذه الطائفة وديانتها
Exposé de la religion des Druzes .
تاسعا:
العلامة الألماني هامر بورجستال
Hammer-Purgstall ، المتوفى سنة 1856، نقل عنه صورة المناشير السلطانية والمراسيم الملوكية، التي أصدرتها الدولة المصرية ببيان الملابس التي يلزم أهل الكتاب أن يتزيوا بها.
عاشرا:
العلامة الفرنساوي نويل دي فرجير
Noël des Vergers ، المتوفى سنة 1867، كتب بالفرنساوية تاريخ جزيرة صقلية في أيام دولة الأغالبة؛ أي بني الأغلب، وسماه
Histoire de la Sicile sous les Aghlabites ، وأورد فيه باللغة العربية كل ما ذكره النويري على هذا الموضوع، وترجمه إلى الفرنساوية.
حادي عشر:
العلامة الفرنساوي الدار الإنكليزي الأصل البارون ده سلين
Baron de Slan ، مترجم تاريخ ابن خلكان إلى اللغة الإنكليزية، ومقدمة ابن خلدون إلى الفرنساوية، المتوفى سنة 1878، نقل عن نهاية الأرب تاريخ أفريقيا الشمالية إلى اللغة الفرنساوية.
ثاني عشر:
العلامة الهولاندي المتبحر في معارف العرب والشرقيين رينهارت دوزي
Reinhart Dozy ، المتوفى سنة 1883، استعان بهذا الكتاب كثيرا في تأليف قاموسه المسمى تكملة المعجمات العربية
Suplément aux dictionnaires arabes .
ثالث عشر:
العلامة الفرنساوي ده فرمري
Defrémery ، المتوفى سنة 1883، نقل إلى الفرنساوية ما رواه المؤلف من الحكايات والنوادر التي وقعت للسلطان بيبرس.
رابع عشر:
العلامة ميشيل أماري
Michel Amari
الطلياني الصقلي المتوفى سنة 1889، جمع كل ما كتبه مؤرخو العرب على جزيرة صقلية وطبعه في كتاب عربي، ثم ترجمه في مجلدين إلى اللغة الفرنساوية، وقد أكثر فيه من النقل عن النويري.
وحسبنا ذلك الآن دليلا على ما حواه ثلثا هذا الكتاب اللذان خصصهما المؤلف - رحمه الله - لفن التاريخ بكلياته وجزئياته، وأما الثلث الآخر - أي العشرة الأجزاء الأولى - فليس لدينا وقت الآن للتعريف بها والتنويه عنها، وبيان الأسلوب الذي اتبعه المؤلف في تحرير هذا الكتاب الجامع، ويكفي أن نعرف أن الفن الخامس، وهو التاريخ، قد استغرق كما قلنا 20 جزءا، أتى المؤلف فيها على التاريخ العام، وتواريخ الممالك والبلدان، وطبقات الأفاضل، وتراجم الأعيان، بما يشفي العليل ويروي الغليل، ولا جرم أن المقام ليضيق عن سرد ما حوته من رءوس المسائل وأصول المطالب؛ فلذلك نكتفي بما سبقت الإشارة إليه في هذه السطور الوجيزة.
هذا هو الكتاب الجليل الذي حرمت منه مصر، مع أن مؤلفه مصري، وقد استنسخ منه في حياته في مصر نحو 30 نسخة كاملة سوى النسخة التي كتبها المؤلف بخطه وباعها بألفي درهم (نحوا من 80 جنيها) وأغلب أجزائها موجود اليوم بهولندة في مدينة ليدن، ولا نكاد نجد خزانة كتب في الآستانة على تعددها هناك، ولا خزانة في أوروبا إلا وفيها نسخة من هذا الكتاب الذي كتبت منه النسخ البادية الذكر في مصر في حياة مؤلفه على عهد السلطان قلاوون، ذلك العهد الذي كانت فيه مصر غرة في جبين الأقطار؛ إذ انتشرت فيها العلوم والصنائع والفنون، وبلغت فيها منزلة سامية، وأكثر الآثار التي في دار الآثار العربية الآن كلها تنسب إلى ذلك العهد، وهو القرن الثامن للهجرة، الذي ألف فيه الوزير الجليل الذي تقدم ذكره، ابن فضل الله العمري، صاحب كتاب «التعريف في المصطلح الشريف»، كتابه النادر المثال، الذي ملأ صيته الآفاق، وهو «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، وهذا الكتاب من مفاخر مصر في ذلك العصر، ولقد استعان مؤلفه على تأليفه بأحوال ذلك الزمان، فإن بعض الدول كان يرسل سفراءه ورواده إلى بعض، وكان نصيب مصر منهم عظيما، وكان كلما ورد منهم وفد على مصر أخذ الوزير المذكور عنهم أخبارا ومعارف، ثم يعرضها على الوفود الأخرى لتمحيصها والإيقان من صدقها، ثم يضعها بعد إنضاجها في مؤلفه هذا، وهو موجود إلى الآن بمكتبة آيا صوفيا بالآستانة كاملا، لا ينقصه سوى الجزء الأول، وفي مصر منه خمسة أجزاء، خلاف بعض أجزاء في مكتبة باريس، وجزء في مكتبة تونس.
فكتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب» هو الذي دعاني إلى زيارة صيدا، وذلك أنني سمعت منذ زمان وأنا في القاهرة أن ذلك الكتاب موجود عند أسرة مالطية في صيدا، فبذلت قصارى جهدي وأنا في القاهرة لنيله فلم أوفق، ولما ذهبت إلى الشام ذكرت الكتاب وموضعه فهممت ببلوغه، وعرجت على صيدا رجاء أن أناله، غير أنني بمزيد الأسف أخفقت في مسعاي، ولم أجد منه إلا مقدار ما هو عندي منه. ولم تفتني رؤية صيدا نفسها، فرأيت فيها آثارا تدل على أنها كانت محصنة منيعة، فهدم السلطان صلاح الدين الأيوبي في الحروب الصليبية أسوارها وحصونها؛ خوفا من امتلاك الصليبيين إياها وتحصنهم فيها، ولكن بقاياها تدل على منعتها، فإن شوارعها متعرجة، وكلها مبنية بالحجر الجلمود على هيئة القبو، وقد يدخل نصف القبو في المساكن لتكون الشوارع ضيقة فلا يتمكن العدو من امتلاكها، على فرض أنه دخلها وامتلك أسوارها.
المحاضرة السابعة: ثلاثة أجوبة
أيها السادة، إنما العصمة لله ولكتاب الله، فليس لإنسان مهما ضرب في العلوم بسهام نافذة، وكان أوفر الناس عقلا وأدقهم بحثا وتنقيبا وأعلاهم كعبا، أن تدفعه الأماني إلى طلب تلك العصمة، فالخطأ لا بد منه لكل إنسان، ولم يسلم منه إمام من أئمة سلفنا الصالح على علو منازلهم وجليل أقدارهم، وحسبنا أسوة من هؤلاء الأجلاء الإمام الفقيه مالك بن أنس، عالم المدينة الذي كانت العلماء تنكمش في حضرته في أركان ثيابهم، فإنه جمع في موطئه ستمائة ألف حديث، ثم تخير منها ستمائة فقط، وقد ذكر الإمام الشافعي عالم مكة - رضي الله تعالى عنهما - هذا الموطأ فقال: «هو أكثر الكتب صوابا.» «فأثبت» له الخطأ مع ذلك التحري والتمحيص من صاحبه.
والذي يفضل به بعض الناس بعضا إنما هو قلة الخطأ، والرجوع إلى الصواب متى وضحت محجته وأضيئت منارته، والإنسان لا يعلم أنه مخطئ حين يخطئ، وإلا لما أخطأ؛ فإن إنسانا أوتي ذرة من العقل لا يرضى لنفسه النقص، فلا بد من أن ينبه بعض الناس بعضا إلى الخطأ.
هذا والعلوم النقلية التي تصدرنا للكلام في فرع منها، وهو الحضارة الإسلامية، لا مجال للعقل فيها اللهم إلا في الاستنباط، ونحن نجمع أشتات محاضرات هذه الحضارة من كل ما كتب فيها باللغتين العربية والفرنسية إلا قليلا مما يجوز أننا لم نظفر به، ولا نروي من هذه الكتب إلا كلام الثقات.
ولقد نبهني منبه في صباح هذا اليوم إلى رسالة منشورة في «الجريدة» الغراء لصديق لي من الفضلاء، ينكر فيها أمرين مما جاء في المحاضرات الفائتة وفي خطبة افتتاح الجامعة؛ الأمر الأول: حقيقة ألف القنطار من الذهب التي دفعها ملك الروم إلى ملك الفرس ليرحل عن بلاده، والأمر الثاني: ثلاثة الملايين من المجلدات التي كانت في خزانة الكتب بطرابلس الشام.
وكذلك سألني سائل منكم بيان حقيقة الحروب الإسلامية، وأنها مدينة استعمارية، فلم أر بدا من الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة لإيضاح ما خفي منها.
فلبيان الأمر الأول نقول إن الروم والفرس والعرب قبل الإسلام كانوا يستعملون الدرهم والدينار، وهما من الموازين، فالمراد بالدينار وزن دينار من الذهب، والمراد بالدرهم وزن درهم من الفضة، والذي أنشأ هذه السكة بادئ الأمر الروم، ثم حذا حذوهم فيها الفرس فضربوا مثلها، أما العرب فإنهم ما زالوا يستعملون السكة الرومية والفارسية ويعتبرونها رسميا حتى زمن عبد الملك بن مروان الأمير الأموي، وولايته من سنة 65 إلى سنة 86ه؛ إذ أوعد من لم يستعمل الدنانير العربية بأشد العقوبات؛ فلم تنتشر المسكوكات العربية في الأقطار الإسلامية بدل المسكوكات الرومية والفارسية إلا في القرن الثاني. ولقد دون لنا علماء اللغة والأدب فيما دونوا لنا من أخبار العرب وآدابهم في الجاهلية وصدر الإسلام قبل أن تنتشر المسكوكات العربية ما استعملته الأمة العربية من الدرهم والدينار ومضاعفتهما، ومنها القنطار، ولقد اختلف العلماء في تقديره، غير أنهم نصوا على أن المعول عليه في الأكثر عند العرب أن القنطار أربعة آلاف دينار، فإذا قدرنا ما دفعه الروم للفرس ليجلوهم عن بلادهم بالتقدير العربي، باعتبار أن المؤرخ الذي نص عليه عربي، وباعتبار أن العرب كانوا يتعاملون بالمسكوكات الرومية والفارسية حتى القرن الثاني، فإذا لم يكن التقدير بعينه كان قريبا منه؛ إذا قدرنا ذلك قلنا: القنطار الواحد يزن (4000) أربعة آلاف دينار، فألف القنطار تزن (4000000) أربعة ملايين من الدنانير، والدينار يزن (4) أربعة جرامات و0,414 جزءا من الألف من الجرام، فللتقريب نقول إنه يزن (4) أربعة جرامات ونصف جرام، ومعلوم أن الجنيه الإنكليزي يزن (7) سبعة جرامات و98805 أجزاء من الجرام، وللتقريب نقول إنه يزن (8) ثمانية جرامات، فإذا حولنا هذا المقدار (وهو (4000000) أربعة ملايين من الدنانير باعتبار الوزن) إلى جنيهات إنكليزية بلغ 250000، وهو ليس بالشيء الذي يستكثر في علاقات الدول، بل هو أقل من ثروة أفراد كثيرين موجودين الآن في مصر وأوروبا وخصوصا أمريكا، ولكن لو اعتبرنا أن الحساب يجب أن يكون بالتقدير الرومي لأن دولة الروم هي التي دفعت الغرامة، فيكون القنطار هو المصطلح عليه في نقودهم بالتالنت
Talent ، ويجدر بنا أن نعتبر أكبر تالنت عند الروم، وهو المنسوب لبلاد أتيكه، فمن المعلوم أن مبلغه 75000 فرنك إن كان من الفضة، وخمسة عشر أمثال هذا المبلغ إن كان من الذهب؛ أي يكون التالنت الذي يعبر عنه مؤلفو العرب بالقنطار يعادل 1125000 فرنك، ويكون ألف التالنت أو ألف القنطار من الذهب عبارة عن 1125000000 فرنك، أو 45000000 جنيه، وهو أكبر من التقدير الأول المعول عليه عند العرب، ولكنه أقل من الغرامة التي دفعتها فرنسا (وهي أصغر من دولة الروم) إلى ألمانيا (وهي أصغر من دولة الفرس). ومعلوم أن الغرامة الإفرنسية هي (5000000000) خمسة مليارات من الفرنكات، أو (200000000) مائتا مليون جنيه، وهذا المبلغ من الجنيهات يزن 88888 قنطارا على التقدير الرومي، فأين منها ألف القنطار التي كانت محلا للاستغراب والاستنكار؟ ليت شعري ماذا كانوا يقولون لو اعتبرت أحوال هذه الأيام وقلت إن الغرامة المذكورة كان شحنها يستوجب خمسة قطارات من قطارات البضائع، وكل قطار يتألف من خمسين عربة كبيرة؟ ولكن الناس لو علموا أن خمسة المليار من الفرنكات تزن 25 مليون كيلوجرام، ثم قسمناه على ما تزنه الطنولاته من الكيلوجرامات، وهو ألف كيلو، لكان الناتج هو 25 ألف طن، وإذا كانت حمولة العربة من السكة الحديد 10 طن، يكون اللازم من العربات لنقل هذه الغرامة 2500 عربة، ولو فرضنا أن القنطار من السكة الحديد خمسون عجلة، لكان عدد القطر التي تحمل هذه الغرامة 50 قطارا.
فما دفعه الروم للفرس وأنكره بعضهم هو بالنسبة لهذه المقادير يكاد ألا يكون شيئا مذكورا، ونحن نرى كثيرا من الأنباء الصحيحة ما لا يكاد يصدقه العقل لولا الوثوق من ثبوته، فمن ذلك أن الإنكليز في حرب البوير بالأمس خسروا زهاء مائتي مليون جنيه إنكليزي، أو 88888 قنطارا على التقدير العربي تقريبا، أو 4444 قنطارا على التقدير الرومي تقريبا، ومن ذلك شركة الخميرة الملوكية (أي خميرة عمل الخبز) وهي شركة أمريكية تنفق في كل سنة على طبع الإعلانات فقط مبلغا وقدره 3570000 من الفرنكات؛ أي 142800 من الجنيهات، وهي تزن 63 قنطارا عربيا تقريبا، أو (3,5) ثلاثة قناطير ونصفا رومية، وهي شركة صغيرة مؤلفة من آحاد الأمة.
وهذه شركة الزيوت الأمريكية حكم عليها منذ يومين بغرامة قدرها مليون ريال وربع مليون كما جاءت به التلغرافات؛ أي 250000 جنيه تقريبا، أو 111 قنطارا عربيا تقريبا، أو 5,5 قناطير ونصف قنطار رومي تقريبا.
ومما يجدر ذكره ما كان عقب الحرب بين فرنسا وألمانيا، فإن قصر التويلري المشهور في باريس تهدم، فجاءهم أمريكي وعرض على الدولة الفرنسية ترميم هذا القصر، ولم يطلب في نظير ذلك سوى تخصيص غرفة له فيه، وحضوره كل الاحتفالات التي تقام في البلد، وقدم لذلك بيان النفقة اللازمة لإعادة البناء، وقدرها سبعة ملايين من الفرنكات؛ أي 280000 جنيه، أو 124 قنطارا عربيا تقريبا، أو 6 قناطير رومية تقريبا.
ذكرنا هذه المقادير التي جرت المعاملة بها في هذه الأزمان المتأخرة ليمرن القارئ على قراءة وسماع ألف قنطار من الذهب التي أنكرت علينا، مع أننا أهملنا شيئا كثيرا من الغرائب الواقعة تحت أنظارنا.
ولبيان الأمر الثاني، وهو ثلاثة الملايين من المجلدات التي جاء ذكرها في خطبة افتتاح الجامعة، أكتفي بنقل عبارة ثقة من الثقات، وهو المسيو كاترمير
Quatremere ، ذكرها في الصحيفة (29) التاسعة والعشرين من نبذة له، طبعت في مجموعته سنة 1862 بمدينة باريس بمطبعة ديكرك رقم 55 بشارع السين، وعنوان تلك النبذة محبة الشرقيين للكتب، وها هي العبارة التي أكتفي بنقلها عنه:
قلت قبلا إن خزائن (كتبخانة) الخلفاء الفاطميين الكثيرة العدد لما نهبت نقل قسم من كتبها خارج القطر المصري، فمن ذلك أن ثمانية أحمال من الكتب نقلت إلى سورية، ومن المظنون أن كثيرا من هذه الكتب حفظ في مدينة طرابلس الشام، وفي هذه المدينة تألفت تحت عناية القضاة من آل عمار جمعية علمية مشهورة باسم دار العلم، وأنشأت خزانة كتب (كتبخانة) مؤلفة من ثلاثة ملايين من المجلدات، منها 50 ألف مصحف، و20 ألف تفسير، وكان لآل عمار في هذه الخزانة مائة ناسخ، تجري عليهم الأرزاق سنويا، بله أن هذه الأسرة كانت ترسل إلى جميع الأقطار رجالا ماهرين، وتكلفهم ابتياع أو انتساخ جميع الكتب التي يمكن أن يجدوها.
وروى مؤرخ من مؤرخي العرب أنه حينما وقعت هذه المدينة في أيدي الصليبيين في سنة 503ه، دخل قسيس هذه الخزانة فصادف أن أول غرفة دخلها كانت تحتوي على المصاحف، فوضع يده على 20 نسخة منه بالتوالي، وإذ وجدها جميعها مصاحف، أعلن أن هذه الدار لا تحتوي إلا على كتب مخالفة للحق، وبناء على هذا الحكم أحرقها الفرنج فصارت رمادا، ولم ينج من الحريق إلا عدد قليل من الأجزاء، تفرقت شذر مذر في كثير من البلاد، وقد رويت هذه الحادثة كما ذكرها المؤرخون الشرقيون، ولكن إذا لم نقل إن حادثة الحريق مخترعة، فمن الجائز أن نفرض على الأقل أنها محرفة أو مبالغ فيها بسبب العصبية القومية؛ وذلك لأن المسلمين قد اتهموهم أحيانا بإحراق خزانة الإسكندرية، ولا شك أن ضمائرهم ترتاح لإيقاع تهمة بربرية من هذا النوع على عاتق النصارى كذلك. ا.ه.
هذه هي عبارة المسيو كاترمير برمتها، وهو من البحاثين الدقيقين، ولا يمكن أن يدخل تحت وصف المعترض، الذي ربما لا يقتنع كثيرا بما يرويه العرب المحققون؛ لأن فيهم قوما ألفوا المبالغة؛ فرماهم جميعا بجريرة أفراد منهم. وأنت ترى أن كاترمير لم يخالجه أدنى شك في تقدير العدد، وإنما انتقد الخبر المتعلق بإحراق الكتب، ولما كان هذا الخبر محلا للشك فقد أهملته بالمرة، وإن كان الأستاذ جرجي يني صاحب تاريخ سورية قد أشار إليه وتأسف عليه.
وهذه الأرقام ذكرها رجل من ثقات الإنكليز وأكبر بحاثيهم في أمور المشرق، وهو العلامة جبون، في تاريخ الدولة الرومانية (جزء ثان صفحة 505)، وقال إن الإفرنج أحرقوها. أما ابن خلكان فقال بأنهم انتهبوها في سنة 502 هجرية، ومثله ابن الأثير، وكلاهما قرر بأن عددها مما لا يعد ولا يحصى.
ولبيان الأمر الثالث نقول: إن الحرب الشرعية هي التي تقام لإعلاء كلمة الله، وليس المراد من إعلاء كلمة الله الدعوة إلى الإسلام بالسيف؛ فإن هذا مما لا يكون أبدا كما سنبينه في هذه المحاضرة، وإنما المراد منها ما عرف في تاريخ صاحب الشريعة الإسلامية وبعض خلفائه رضي الله عنهم، وذلك أن الدين بني على الدعوة إليه بالحسنى، ولكن زعماء المشركين وسائر الممالك وقتئذ كبر عليهم أن يدينوا لدين جاء به يتيم عربي، ويسوي بين الملوك والسوقة، ويسيغ للخليفة الثاني أن يأمر مثل جبلة بن الأيهم أن يرفع رأسه لجلف من أجلاف العرب ليثأر لنفسه فيلطمه كما لطمه. كبر عليهم الإذعان فقاوموا القائمين بنشره، وشنوا عليهم الغارات، يريدون صدهم عن سبيل الله وإطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره؛ فجاز للمسلمين وقتئذ، بل وجب عليهم، أن يذودوا عن حياضهم ويذبوا عن أعراضهم، وإلا لكانوا أخساء جبناء، فأعد المسلمون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، وصدوا هجماتهم، وانتقموا لأنفسهم ممن آذاهم، وكذلك الله يفعل بالمتعدين، فكانت تلك الحروب لدفع من يقف في سبيل المسلمين فيمنعهم من نشر دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لذلك سميت حروبا شرعية، وحق لها أن تسمى كذلك.
ولا يفهم من قول المسلمين للمحاربين: «الإسلام أو الجزية أو الحرب» أن حربهم إياهم كان لحملهم على الإسلام؛ فإن الذي اضطر المسلمين إلى الحرب إنما هم المحاربون أنفسهم، فلما كانت تشتد الأزمة بالمحاربين كانوا يحقنون دماءهم من المسلمين الذين نصرهم الله بقوة حقهم، وبعدم اعتدائهم إلا على من اعتدى عليهم، وكان حقن الدماء بأحد أمرين: إما الإسلام ليصيروا إخوانهم، وإما الجزية التي لا بد منها لأية أمة مغلوبة في كل عصر من العصور، وإلا لو كانت هذه العبارة: «الإسلام، أو الجزية، أو الحرب» لحمل الناس على الإسلام لما خيروهم بين الجزية والإسلام، ولم يرضوا منهم دون الإسلام شيئا.
إن الذي يتأمل في مثير الحروب الإسلامية بادئ الأمر يعلم علما، ليس بالظن، أن المسلمين لم يحاربوا إلا من أراد صدهم عن سبيل الله فحاربهم وآذاهم، فمن ذلك أن أول الغزوات كانت مع قريش، فنتركها ونترك سائر غزواتهم كذلك لما هو معروف من أمر قريش وإيذائها النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، وإخراجهم من ديارهم، ونذكر من بعد ذلك غزوة بني قينقاع من يهود المدينة، فقد حاربهم المسلمون لنقضهم العهد بعد غزوة بدر الكبرى، وهتكهم حرمة سيدة من نساء الأنصار، ثم غزوة بني غطفان، ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا بعد أن علموا أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة دعثور المحاربي للإغارة على المدينة، ثم سرية عاصم بن ثابت الأنصاري، وكانوا مع رهط عضل، والقادة الذين خانوهم ودلوا عليهم هذيلا قوم سفيان بن خالد الهذلي، الذي قتله عبد الله بن أنيس. ثم سرية المنذر بن عمرو، وهم سبعون رجلا يسمون الفراء، أخذهم عامر بن مالك ملاعب الأسنة لطمعه في هداية قومه وإيمانهم، فلم يرع قومه جواره وقتلوا الفراء، ثم غزوة بني النضير من يهود المدينة، وذلك لنقضهم العهد وإلقائهم صخرة على النبي
صلى الله عليه وسلم
وصحبه لما كان في ديارهم. ثم غزوة دومة الجندل، ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا لما علموا أن في ذلك المكان أعرابا يقطعون الطريق على المارة، ويريدون الإغارة على المدينة، ثم غزوة بني المصطلق، وهؤلاء ممن ساعدوا المشركين في أحد، ولم يكتفوا بذلك، بل أرادوا جمع الجموع للإغارة على المدينة، ثم غزوة الخندق، وكانت مع الأحزاب الذين حاصروا المدينة، ثم غزوة بني قريظة من يهود المدينة؛ لنقضهم العهد واجتماعهم مع الأحزاب، ثم غزوة بني لحيان؛ لقتلهم عاصم بن ثابت وإخوانه الذين حزن عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم غزوة الغابة؛ لإغارة عيينة بن حصن في أربعين راكبا على لقاح للنبي
صلى الله عليه وسلم
كانت ترعى الغابة، ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القصة (موضع) لما بلغ المسلمين من أن بذلك الموضع ناسا يريدون الإغارة على نعم المسلمين التي ترعى بالهيفاء (موضع)، ثم سرية زيد بن حارثة لمعاكسة بني سليم الذين كانوا من الأحزاب يوم الخندق، ثم سرية زيد كذلك للإغارة على بني ثعلبة الذين قتلوا أصحاب محمد بن مسلمة، ثم سرية زيد كذلك للإغارة على بني فزارة الذين تعرضوا له، ثم سرية عمر بن الخطاب لما بلغ المسلمين من أن جمعا من هوازن يظهرون العداوة للمسلمين، ثم سرية بشير بن سعد لما بلغهم من أن عيينة بن حصن واعد جماعة من غطفان مقيمين بقرب خيبر للإغارة على المدينة، ثم سرية غالب الليثي؛ ليقتص من بني مرة بفدك؛ لأنهم أصابوا سرية بشير بن سعد، ثم غزوة مؤتة، وكانت لتعرض شرحبيل بن عمرو الغساني للحارث بن عمير الأزدي - رسول للنبي
صلى الله عليه وسلم
إلى أمير بصرى يحمل كتابا - وقتله إياه، ولم يقتل رسول للنبي
صلى الله عليه وسلم
غيره، حتى وجد على ذلك وجدا شديدا، ثم سرية عمرو بن العاص لما بلغهم من أن جماعة من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي القرى للإغارة على المدينة، ثم سرية علي بن أبي طالب لما بلغهم من أن بني سعد بن بكر يجمعون الجموع لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين، ثم غزوة خيبر؛ لأن أهلها كانوا أعظم محرض للأحزاب، ثم سرية عبد الله بن رواحة لما بلغهم من أن ابن رزام رئيس اليهود يسعى في تحريض العرب على قتال المسلمين، ثم سرية عمرو بن أمية الضمري؛ لقتل أبي سفيان جزاء إرساله من يقتل النبي
صلى الله عليه وسلم
غدرا، ثم حرب العراق لما ارتكبه كسرى عندما أرسل إليه كتاب عرض فيه عليه الإسلام، فإنه مزق الكتاب، وكتب إلى باذان - أمير له باليمن - يقول له: «بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب، وإلا فابعث إلي برأسه، يكتب إلي هذا الكتاب - أي الذي بدأ فيه بنفسه فقال: من محمد ... إلخ - وهو عبدي؟» فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
مع فارسيين، وبعث بهما يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، فقدما عليه وقالا له: «شاهنشاه بعث إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك، وقد بعثنا إليك فإن أبيت هلكت وأهلكت قومك وخربت بلادك.» فليس بعد ذلك عذر للمسلمين في امتناعهم عن حرب الفرس، وخصوصا وقد كان للعرب ثارات كثيرة في ذمة العجم. ثم غزوة تبوك لما بلغ المسلمين من أن الروم جمعت الجموع تريد غزوهم في بلادهم، وقد أعقبها فتوح الشام، والقسم الأعظم من دولة الروم.
هذه بعض الغزوات الإسلامية بادئ الأمر، سردناها غير مرتبة، ومنها يرى القارئ ما قصدناه من ذكرها، وهو أن الحروب الإسلامية لم تقم لحمل الناس على الإسلام، وإنما أقيمت لأسباب أخرى تجلت فيها بأجلى بيان.
غير أن ناسا ممن يحطون من قدر الإسلام ويقعون فيه يقولون إن الإسلام لم ينتشر هذا الانتشار في مثل هذا الزمن الوجيز إلا بالسيف، فهو دين توحش وهمجية، وحجتهم في ذلك غزوات النبي
صلى الله عليه وسلم
والحروب الإسلامية ، ورأى ناس من المسلمين آيات في القرآن تحض المسلمين على قتال المشركين والكفار والمنافقين، وأمثال هذا كقوله تعالى:
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ،
وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين ،
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ،
فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ،
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ،
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ، ولم يفكروا في سياق الكلام ومواضعه وأسباب نزوله؛ فظنوا أن القتال شرع في الإسلام لحمل الناس على الاعتقاد به، فكان ذلك الظن أكبر جرم على ذلك الدين الحنيف، الذي تنزه عن مثل هذه الخشونة وتلك القسوة، وذلك أن الأمور الاعتقادية لا تقبلها الناس إلا بالبرهان، لا بالقوة والسلطان، فمن قبلها منهم مكرها مرغما لا يطمئن لها قلبه، وإذا لا فائدة من قبوله إياها، فإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى. دع أن النبي
صلى الله عليه وسلم
عرف قبل البعثة وقد بلغ الأربعين من عمره بمكارم الأخلاق، ولين الجانب، ولطف الحديث، وطلاقة الوجه، وعدم النفور من أمثال هذه الصفات المحمودة الجليلة، التي لا يلائمها الشر وإيذاء الناس لحملهم على قبول عقيدة، ومن يبلغ الأربعين بخلة من الخلال يستحيل أن يتخلق بضدها وإن تكلفه.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
أما الغزوات النبوية والحروب الإسلامية فقد كان لها أسباب معقولة معروفة، يلمسها القارئ فيما سردناه من الغزوات والسرايا، فلم يعهد فيها أن المسلمين ذهبوا إلى قوم ليس بينهم وبينهم عداوة وترات وقالوا لهم: «إما الإسلام، وإما السيف.» وإنما كان يتعرض المسلمون لمن آذاهم بسبب الأمور الدنيوية المدنية، أو بسبب ظهورهم بدين جديد كانوا يدعون الناس إليه بالحسنى والموعظة الحسنة، وليس عليهم هدى الناس، وإنما الله يهدي من يشاء، فمن آمن بالله فله إيمانه، ومن كفر فعليه كفره، وليس لهم على أحد من سلطان، هذه حال المسلمين مع من يدعونهم إلى الإسلام، ولكن رؤساء بعض المدعوين ضنوا برياستهم على الزوال، وأبوا إلا أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله التي تسهل على مرءوسيهم وعبادهم الفرار من مظالمهم إلى فضاء العدل والإحسان.
غير أن هذه الحروب قد أفادت الأمة العربية الإسلامية فوائد جمة، من أجلها الغنائم التي أغنت المهاجرين عما فقدوه بالهجرة، والأنصار عما ذهب في إكرامهم إخوانهم المهاجرين، فشغل بذلك العرب عن غزو بعضهم بعضا وعن إثارة الفتن الداخلية، فلما فتروا عن الحرب هنيهة إثر وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، امتنع كثير منهم عن دفع الزكاة؛ فاستباح أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - قتالهم، فردهم إلى الإسلام عنوة، ورأى أن يتم بعد ذلك ما أراده النبي
صلى الله عليه وسلم
من غزو الفرس والشام ليشغل العرب عن التفرق والخصومات والنزاع الداخلي والرجوع إلى التفرق دينا ودنيا، فأنفذ جيش أسامة ليضرب الأعداء بالعرب، فإن ذلك خير من أن يضرب بعض العرب ببعض إذا لم يشغلهم بحرب غيرهم، وكذلك رأى عمر - رضي الله تعالى عنه - من بعده، فدوخ بجيوشه وأبطالهم - خالد، والمثنى، وأبي عبيدة، وعمرو - الأعداء، وفتح البلاد لتكون موارد خير للأمة العربية، وليرفع عن تلك البلاد التي فتحها الإسلام ظلم الرومان والفرس، الذي بلغ إذ ذاك أشده، كما كانت حاله في فتح مصر وأمرها معروف، وأباح له ولأبي بكر حرب الروم وفتح بلدانهم ما أباح للنبي
صلى الله عليه وسلم
من قبلهما، وهي الترات التي للمسلمين عند الروم، ومعلوم أن المسلمين لما فتحوا مصر وغيرها لم يحاربوا إلا أهل الدولة، وهم الروم، وذلك لأمرين؛ أولهما: إخراجهم من تلك البلاد، وذلك كان خيرا للمحكومين، وقد كان أهل مصر والشام يساعدون العرب على الروم، وكذلك أهل العراق على الفرس، وثانيهما: انتفاع العرب بالبلدان التي فتحوها انتفاعهم في الحضارة والمعايش والعلوم وغيرها.
لأجل ذلك يمكننا أن نقول إن حروبهم كانت استعمارية، ويتضح ذلك بأجلى وضوح في حروب من بعد عمر من الخلفاء والأمراء، يظهر ذلك لمن ينظر نظرا سطحيا إلى أسباب هذه الحروب، وما جرته من الفتوح التي أوجبت نشر الدين وتعميمه بالمخالطة ومظاهر الفضيلة والكمالات التي امتاز بها المسلمون في أيام السلف الصالح والصدر الأول، وقد دون المسلمون في تلك الأيام الخوالي كل دقيقة وكبيرة مما يتعلق بهذا الموضوع، ولا نرى فيها أمرا واحدا يدعونا إلى القول بخلاف مذهبنا، وهو أن الحروب كانت حروب مسلمين، لا حروب إسلام، وأنها كانت حروب توسع في الملك واستعمار للبلدان.
المحاضرة الثامنة: الكتابة والخط، والحفظ والتدوين
الكتابة هي الأساس الأول للعمران، وهي محور الارتقاء ومناط التقدم في كل الحضارات التي ظهرت قبل الإسلام وبعد الإسلام؛ ذلك لأنها جرثومة المعارف وينبوع العلم في كل زمان ومكان، والكتابة هي التي حفظت علوم الأقدمين، ومهدت سبيل التوسع والتبسط للمتأخرين، وهي التي أوقفتنا على ما اتصل إليه الأوائل من ثمار العلوم واتساع دائرة الأفكار بالتدريج؛ فإن النقل بالمشافهة قد يعتريه الغلو والتحريف والزيادة والنقص، غير أن الكتابة التي كانت للناس كنبراس في كل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية لم تكتب لنا شيئا عن مبدئها وأول ظهورها، أو تاريخ وضعها، أو كيفيات تدرجها.
ولما لم يكتب تاريخ أصل فن الكتابة، واسم مستنبطه، ومكان إنشائه، والتقلبات التي طرأت عليه، سدل الدهر عليه برقع الخفاء، فغمض عنا أصله وضاعت منا معرفة تاريخه، فأمسى أصل حافظ كل المعارف التي حملها إلينا مفقودا، وكاشف الغوامض غامضا محجوبا، قد اكتنفته ظلمات الدهور، وسترته براقع الإهمال، ولم يبق حوله ضوء يهدي العقل إليه إلا ضوء نار الحباحب، يستضيء به أبناء هذا الزمان؛ فكشفوا بعض الحجب، وأظهروا بعض الغوامض.
وقبل الخوض في هذا الموضوع ينبغي لنا أن نجري على سنة السلف الصالح من علماء الإسلام، فنعرف الكتابة من طريق اللغة ثم من طريق الاصطلاح.
فأما من حيث اللغة: فهي مصدر كتب يكتب كتبا وكتابا وكتابة ومكتبة وكتبة، فهو كاتب، ومعناها الجمع، يقال: تكتب القوم إذا اجتمعوا، ومنه قيل لجماعة الخيل: كتيبة؛ ولذلك سمي الخط كتابة لضم بعض الحروف إلى بعض.
والخط لغة: هو الطريق المستطيلة في الشيء، وعند المهندسين أقرب بعد بين نقطتين، وفي الاصطلاح: هو الكتب بالقلم أو بغيره؛ لأن جميع الحروف تتألف من نقط على أشكال مختلفة، ويتصل بعض النقط ببعض بخطوط فتتألف منها الحروف.
والخط في الاصطلاح: هو رسوم وأشكال حرفية، تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، والكتاب المخطوط في اللغة هو المكتوب فيه، وفي اصطلاح المتأخرين هو خلاف المطبوع بالوسائل المطبعية المعروفة في أيامنا هذه، وقد استعمله المتأخرون تفسيرا لقول الفرنسيين
Manuserit .
أما الكتابة من حيث الاصطلاح: فهي على تعريف علماء الإسلام صناعة روحانية، تظهر بآلة جثمانية، والمراد من الروحانية: الألفاظ التي يتخيلها الكاتب في أوهامه، ويصور من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة قائمة في نفسه، والمراد من الجثمانية: الخط الذي يخطه القلم، فذلك التعريف يشمل جميع ما يسطره القلم مما يتصوره الذهن ويتخيله الوهم، فيدخل تحته مطلق الكتابة كما هو المستفاد من المعنى اللغوي.
وأما تعريفها عند الفرنج: فهي صناعة يعبر بها عن الأفكار بعلامات منظورة، وهي تشمل كل ما اصطلح عليه البشر للتعبير عن أفكارهم، سواء كان بالصور كما شاع قديما، ولا يزال باقيا بين كثيرين من البرابرة الآن، أو بالأرقام، أو بالحروف، أو بغيرها من العلامات المصطلح عليها بين طائفة من الناس.
ونحن إذا نظرنا في جميع أنواع الكتابة المعروفة، نجد أن العلامات المستعملة فيها تنقسم إلى قسمين ممتازين؛ أولهما: علاماته صورية، تمثل الأشياء المراد التعبير عنها، وتسمى بالكتابة الصورية أو التمثيلية، وثانيهما: علاماته رموز للألفاظ لا للأشياء، وتسمى بالكتابة الحرفية، والوجدان والواقع يشهدان بأن الكتابة كانت في أول الأمر صورية تمثيلية، ثم تدرجت من باب التسهيل والتيسير والتقريب حتى صارت حرفية.
وأقدم رموز للكتابة الصورية هو الخط البربائي أو الهيروغليفي، فقد كانت الصور في أول الأمر تشابه الأشياء التي تدل عليها مشابهة تامة، فصورة الرجل تدل على الرجل، وصورة الفرس تدل على الفرس، ونحو ذلك، ثم تنقلوا بالتدريج من الحقيقة إلى المجاز، فصارت صورة الرجل يضرب رأسه بالفأس تدل على الإنسان الشرير، باعتبار أن الانتحار أعظم الشرور وأكبر الآثام، ثم ارتقوا فاشتقوا منها حروف الهجاء المعروفة الآن، وقد لا يكون بين الكتابة وبين المدلول عليه بها أدنى مشابهة صورية، ولكن بينهما علاقة ملازمة تامة، مثال ذلك أن المصريين الأقدمين يعبرون عن مصر العليا بصورة نبات البردي لكثرته فيها على عهدهم، وعن مصر السفلى بنبات البشنين لكثرته فيها كذلك، وبضم هذا الاصطلاح إلى التسهيل والتقريب الذي توخاه الناس في الكتابة الصورية، التي من نوع الأول، توصلوا إلى استخراج حروف الهجاء المعروفة قديما وحديثا.
وذلك أن الكتابة البربائية أو المقدسة اختصرها الكهنة، فجعلوا منها الكتابة الخاصة المسماة بالهيراطية؛ لأن الأولى كانت كثيرة التعقيد، وهي التي على الآثار والأحجار.
فأما الثانية فاختصرها الكهنة المصريون منها، وصاروا يكتبون بها على دروج البردي، وذلك أول تسهيل في شئون الكتابة؛ حتى إذا اتسع نطاق المعارف وأخذ الناس منها قسطا وافرا، اختصروا من الكتابة الثانية نوعا جديدا في غاية السهولة، وسموه بخط العامة
Domotique ، ومن هذا الخط أخذت الأمم كلها حروف الهجاء، وعن يد الفينيقيين كما سيأتي بيانه.
وهذا القسم الأول هو الذي ظهر واصطلح عليه الناس في الأيام الأولى من عصور التاريخ الخالية.
أما القسم الثاني، وهو الكتابة الحرفية، فقد تكون العلامة المصطلح عليها دالة على لفظه بتمامها، كما في الخط المكسيكي الذي كان مستعملا في أمريكا عند افتتاحها، وكما في الخط الصيني في آسيا، وهو لا يزال مستعملا إلى الآن؛ ولذلك لا يتيسر للإنسان أن يتعلم حروف الهجاء الصينية إلا بعد أن يبلغ الأربعين من عمره وأكثر، وحينئذ يكون قد بلغ من العلم درجة عالية. وقد تكون العلامة لمقطع واحد مركب من حرفين فأكثر كما في الخط الحبشي، وإما أن تكون موضوعة للمفردات التي يتألف منها المقطع الواحد، كالحروف الهجائية التي هي الثمرة البالغة اليانعة لكل ما سبقها من الممهدات في إبراز الأفكار في صورة تقرؤها الألوف وألوف الألوف من الناس على نمط واحد، كما هي الحال في الحروف العربية والحروف المستعملة عند بقية الشعوب الممدنة.
والذي ثبت أن الكتابة إنما استنبطها أجدادنا المصريون ، ثم أخذها عنهم أبناء عمنا الفينيقيون، فنشروها في سائر أقطار المسكونة، وكان اليونان أول من أخذها عنهم، وساعدتهم حضارتهم على تعميمها في سائر أنحاء المعمور.
هذا ومن المعلوم أن الناس بالنسبة إلى اللغات ثلاث طوائف كبرى:
الطائفة الأولى:
أهل اللغات «السامية»، وأشهرهم المتكلمون بالعربية، ثم العبرانية، ثم السريانية، ثم الكلدانية، ثم الحبشية، ثم السامرية من اللغات الحية، والفينيقية والبابلية من اللغات الميتة، ولكل منها حروف خصت بها بحسب الظاهر، وإن كان مرجعها واحدا في الحقيقة.
والطائفة الثانية:
أهل اللغات «الآرية»، وهي جنوبية وشمالية، فأما الجنوبية فهي الشائعة في الهند وفارس، وكتابتها أصبحت بالحروف العربية بفضل انتشار الحضارة الإسلامية فيها (وذلك ما عدا اللغة السنسكريتية التي تعتبر من أقدم لغات العالم)، وأما الشمالية فهي المعروفة باللغات الهندية الأوروبية، وتشمل لغات أوروبا وقسم عظيم من أمريكا، وكتابتها بالحروف اليونانية واللاتينية أو «الرومانية» والسلافية أو «الصقلية»، ومرجع حروف هذه اللغات كلها اليونانية لأنها مصدرها.
والطائفة الثالثة:
اللغات التورانية، وأهمها التركية، وكتابتها بالحروف العربية.
فمن ذلك نستنتج أن الحروف العربية انتشرت بانتشار الحضارة الإسلامية في طائفتين من أهل اللغات البشرية، بل وفي الثالثة في اللغة الإسبانية، فقد كان بعض العرب حينما دالت دولتهم بالأندلس يكتب علومه ومعارفه، ومنها الفقه والحديث والتصوف وقصص الصالحين بل وترجمة القرآن، بحروف عربية، والكلام كله إسبانيولي قديم، ولا تزال بقايا هذه الكتب محفوظة في مكاتب إسبانيا، وقد طبع القوم منها أشياء، وعندي شيء منها في خزانتي، وتسمى هذه اللغة الخميادو
Aljamiado ، تحريفا للكلمة الأعجمية؛ لأن العين ليست في لغات الإفرنج، وكذلك الهمزة المتوسطة؛ فاضطروا أن ينطقوها ألجمى، ثم تداولوها فقالوا ألجمي بسكون اللام، والإسبانيون ينطقون الجيم خاء في أحايين كثيرة فقالوا ألخمي، ثم أضافوا إليها علامة النسبة عندهم فقالوا الخميادو
Aljamiado .
ونجد لذلك نظيرا في بلاد الشام، فإن عددا عظيما من السريان يكتب لغته بالحرف العربي، ويسمون هذه الكتابة «القلم الكرشوني»، وكذلك أهل مدقسكر، وأهل جزائر ملايو، وأهل موزنبيق، فإنهم يكتبون لغاتهم بالحروف العربية مع زيادة وتعديل، وإن كان لسانهم بعيدا عن اللسان العربي، ومثل ذلك اللغة الأوردية الشائعة في بلاد الهند، وكل ذلك دليل على انتشار المدنية الإسلامية وتأثيرها في العالم، واتساع نفوذها، ورسوخ أصولها في الأصقاع المتنائية.
هذا وإذا نظرنا إلى أشكال الحروف المستعملة الآن نجدها تنحصر في سبعة أشكال، وهي: العربية، والعبرانية، والسريانية، والكلدانية، والحبشية، والسامرية، واليونانية، وهذه الأشكال السبعة من أصل واحد قد تطرق إليه التحريف والتعديل، وتتغير تبعا لمقتضيات الأحوال؛ نظرا لعدم سهولة المواصلات في الأيام القديمة، ولعدم وجود الضابط الذي يرجع إليه في رد التحريف إلى أصله أو ملافاته ومنعه؛ إذ لم تكن الطباعة موجودة في تلك الأعصار، والحاضر أكبر دليل على ذلك؛ فإن الحروف العربية، وهي واحدة ومراجعها واضحة وضابطها موجود، وهو الطباعة، فضلا عن القواعد المقررة عند الخطاطين، فإننا نراها متغايرة بحسب البلاد المختلفة، فلها أشكال متغايرة تغايرا جزئيا في مصر، وفي الشام، وفي العراق، وفي فارس، وفي تركية، وفي تونس، وفي الجزائر، وفي المغرب، بله تغايرها في لغة السواحل (بلاد زنجبار)، وفي لغة الملايو، وفي غيرها من اللغات غير العربية التي يعتمد أهلها على الحروف العربية.
بل إننا في القطر الواحد نكتب الحروف بأشكال مختلفة، فلبعض الأقباط في القطر المصري نمط مخصوص، ولفقهاء الكتاتيب فيه نمط مخصوص، ولكتاب الدواوين نمط مخصوص، وكذلك الحال عند أهل الأقطار الأخرى ذوي اللغات الأجنبية.
ومن ذلك يسهل علينا فهم الاختلاف الذي حدث في أشكال الحروف عند الأمم القديمة، مع عدم وجود الضوابط المتوفرة لدينا الآن، ومن تأمل في الخطوط السامية وجد التقارب بينها كثيرا، وسهل عليه اشتقاق بعضها من بعض.
هذا وأول الخطوط العربية هو الحميري المعروف بالقلم المسند، ولا أدري لماذا سمي بالمسند، وقد بلغ نهاية الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة لما بلغته من الحضارة والترف، ثم انتقل منهم إلى الحيرة في دولة المناذرة والنعامنة نسباء التبابعة، ولكنه حرف واضمحلت جودته؛ نظرا لبعد ما بين الدولتين في الحضارة وعزة الملك، ومن الحيرة أخذته قريش قبل البعثة النبوية بقليل.
وأول من كتب بالعربية أهل اليمن ، وكانوا يسمون خطهم بالمسند، وهو الخط الحميري، وكانوا يكتبون حروفا منفصلة، ويمنعون العامة من تعلمه، حتى تعلمه ثلاثة نفر من طيئ فتصرفوا فيه، وسموه بخط الجزم؛ لأنه اقتطع من خط حمير، ثم علموه أهل الأنبار، وأولهم: مرامر بن مرة، وعامر بن جدرة، وأسلم بن سدرة، ومن الأنبار انتشرت الكتابة العربية، فأخذها عنهم أهل الحيرة وتداولوها، ومنهم: بشر بن عبد الملك أخو صاحب دومة الجندل، وعدي بن زيد وزيد بن عدي، وكانا من كتاب الأكاسرة. ولما قدم الحيرة حرب ابن أمية القرشي، جد معاوية بن أبي سفيان، نقل هذه الكتابة من الحيرة إلى الحجاز بعد أن عاد إلى مكة، وممن تعلمها من أهل الحجاز: ورقة بن نوفل، ابن خال خديجة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان.
والكتابة العربية الحالية متصلة، وتكتب من اليمين إلى اليسار، أما الحميرية فهي منفصلة كما تقدم، وتكتب تارة من اليمين إلى الشمال، وتارة من الشمال إلى اليمين، وأما اليونانية واللاتينية وما تفرع عنهما فمن اليسار إلى اليمين، وكلها على السطر الأفقي، بخلاف الصينية واليابانية فسطرهما رأسي.
والكتابة العربية يسهل فيها من السرعة ما لا يسهل في غيرها،
1
وإذ كانت الدواوين الإسلامية من أجل أسباب نشر الكتابة العربية وجب أن نعرفها. من المعلوم أن أمير المؤمنين الخليفة العادل عمر بن الخطاب هو أول من رتب الديوان في الإسلام، ولكنه قصره على قيد أسماء البعوث للعلم بغيبة من يغيب، وحصر أسماء الجند الإسلامي على ترتيب الأنساب، مبتدأ من قرابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وما بعدها الأقرب فالأقرب، فكان الغرض منه معرفة من يغيب، ومعرفة من يستحق الحصة في الغنائم التي يغنمها المسلمون في الفتوح، ويمكننا أن نقول إن هذا الديوان الذي كان في المدينة المنورة إنما كان ديوانا للصرف لا للإيراد، أما دواوين الإيراد - وهي التي تسمى بدواوين الخراج والجبايات - فبقيت بعد الإسلام على ما كانت عليه من قبل، فديوان العراق بالفارسية، وديوان الشام بالرومية، وديوان مصر بالقبطية وكتابها من أهل العهد الذميين، فلما جاء عبد الملك بن مروان وتحولت الخلافة ملكا عضوضا، وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة، ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة، وظهر في العرب وفي مواليهم مهرة في الكتابة والحسبانات؛ أمر عبد الملك بنقل هذه الدواوين من الفارسية والرومية والقبطية إلى العربية؛ لأن الأمة أمكنها إذ ذاك أن تستغني عن القائمين بها من أهل هذه البلاد.
الخط
جاء الإسلام والذين يعرفون الخط من رجال قريش نفر قليل، وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبو عبيدة بن الجراح، وطلحة بن عبد الله، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمر العامري، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأبان بن سعيد وأخوه خالد ابنا العاص بن أمية، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب، والزبير بن العوام، وورقة بن نوفل ابن خال خديجة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومن خلفاء قريش العلاء بن الحضرمي.
ومن النساء: الشفاء بنت عبد الله العدوية، كانت كاتبة في الجاهلية، وهي التي تزوجها النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكذلك أم كلثوم بنت عقبة، وعائشة بنت سعد، وكريمة بنت المقداد، ثم أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
الشفاء أن تعلم حفصة الكتابة فعلمتها.
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وجدوا في أهلها نفرا قليلا من اليهود ومن الأوس والخزرج يعرف الخط، فاستعملوا من الأوس والخزرج لكتابة الوحي أكثر من ثلاثين رجلا، وكان أول من كتب الوحي أبي بن كعب الأنصاري، وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان.
وبعد أن استقر الإسلام في المدينة، أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
أن تعلم صبيانها الكتابة والقراءة، واستعمل في ذلك من أسرى بدر من لم يستطع أن يفتدي نفسه بالمال، فكان فداء الرجل الواحد منهم تعليمه عشرة من أولاد المسلمين الكتابة والقراءة.
ثم أمر
صلى الله عليه وسلم
زيد بن ثابت الأنصاري أن يتعلم العبرانية أو السريانية، فتعلم هذه اللغة في نصف شهر - على ما قيل - فكان أول مترجم في الإسلام.
ولعظيم شأن الخط إذ ذاك عند العرب وقلة عارفيه كانوا يسمون من يعرفه ويعرف الرمي والسباحة بالكامل.
وإذ كان الخط من جملة الفنون والصنائع التي تقبل الزيادة والنقص، كان لأول الإسلام غير بالغ مبلغه من الإحكام والتنميق، ولا إلى التوسط لقلة المشتغلين به وقتئذ، وإذا تصفحنا المصاحف العتيقة المخطوطة بأقلام الصحابة، الباقية من ذلك العهد الأول في خزائن الكتب العمومية كالكتبخانة الخديوية المصرية وغيرها، علمنا أن خطوط الصحابة كانت غير متقنة، وفضلا عن ذلك فإن الكثير من رسمهم قد خالف ما اقتضته صناعة الخط عند أهلها، ثم خلف من بعد هؤلاء السلف الصالح خلف ظنوا أن الخط من الأمور التي لا تقبل زيادة ولا نقصا، أو أنها قد بلغت الكمال ببركة الصحابة؛ فاقتفوا آثارهم فيه، واتبعوا سننهم من غير أن يزيدوا فيه شيئا، وهذا الظن غير حسن؛ فإن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - لم يعنوا بالخط عناية تحسين وإتقان، وإلا لما كان زمنهم وحده كافيا لإحكام الخط وإعلاء شأنه، ولوجب عندئذ على من يخلفهم أن يعنى به عنايتهم ليبلغ منه ما أرادوا أن يبلغوه من الجودة والإحكام، أما ما زعمه بعض المغفلين من أن الصحابة كانوا محكمين لصناعة الخط، فغير صحيح وغير ميسور لهم إذ ذاك.
قال ابن خلدون:
إن أولئك المغفلين حسبوا أن أغلاط الرسم التي وقعت من الصحابة كانت مقصودة، وراحوا يظهرون لها أوجها ما أنزل الله بها من سلطان؛ لاعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة الخط، وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، مع أن الخط ليس بكمال في حقهم؛ إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، والكمال في الصنائع إضافي ليس بكمال مطلق؛ إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه ؛ لأجل دلالته على ما في النفوس، وقد كان
صلى الله عليه وسلم
أميا، وكان ذلك كمالا في حقه وبالنسبة إلى مقامه لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية، التي هي أسباب المعاش والعمران كلها، وليست الأمية كمالا في حقنا نحن؛ إذ هو منقطع إلى ربه ونحن متعاونون على الحياة الدنيا شأن الصنائع كلها حتى العلوم الاصطلاحية، فإن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا. ا.ه.
ولقد بقي الخط على حاله القديمة في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين بعده لاشتغال المسلمين بالحروب الخارجية والفتن الداخلية، حتى زمن الأمويين الذي خفقت فيه راية الإسلام على المشرق والمغرب، فابتدأ الخط يسمو ويرتقي، وأول من كتب في أيام بني أمية قطبة، وقد استخرج الأقلام الأربعة واشتق بعضها من بعض، وكان أكتب الناس. وممن كان يوصف بحسن الخط في أيام بني أمية خالد بن أبي الهياج، وكان قد نصب لكتب المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك الأمير الأموي، وكان الخط العربي حينئذ هو المعروف الآن بالكوفي، ومنه استنبطت الأقلام.
ولما استفحل ملك الإسلام، وأوغل العرب في المدنية، وازدان عصر العباسيين بأنوار العلم والعرفان، أخذت صناعة الخط تنمي وتنتشر وتتقدم كسائر الفنون التي ضرب فيها المسلمون بسهام نافذة لاحتياجهم إليها، وقد اشتدت حاجتهم إلى الخط بعد أن اختطوا البصرة والكوفة، وأنشئوا دور العلم، وشرعوا في نقل العلوم من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية؛ فاشتغل به جماعة من العلماء والكتاب في مدينتي العلم عند العرب، وهما: البصرة والكوفة؛ فعلا شأنه فيهما قليلا، وسمي عندئذ بالخط الكوفي لتفوقها فيه، وإن كان ذاك التفوق دون الغاية المطلوبة، ثم اشتد ساعد العرب وقويت شوكتهم وفتحوا إفريقية والأندلس، واختط بنو العباس بغداد وزينوها بدعائم العمران حتى صارت مركز الإمارة العربية؛ فتحسنت فيها الخطوط وارتقت إلى الغاية، ثم سمي خطها بالخط البغدادي، ثم تبعه في الظهور الخط الأفريقي المعروف رسمه القديم في ذلك العهد، ويقترب من أوضاع الخط المشرقي.
ومن المبرزين في الخط في الدولة العباسية الضحاك بن عجلان الكاتب، وكان في أوائل هذه الدولة، ظهر إثر قطبة الذي كان في الدولة الأموية واستخرج الأقلام الأربعة، وزاد الضحاك على قطبة، ثم كان إسحاق بن حماد في ملك المنصور والمهدي، وله عدة تلاميذ كتبوا الخطوط الأصلية الموزونة، وهي اثنا عشر قلما: قلم الجليل، قلم السجلات، قلم الديباج، قلم اسطورمار الكبير، قلم الثلاثين، قلم الزنبور، قلم المفتح، قلم الحرم، قلم المؤامرات، قلم العهود، قلم القصص، قلم الحرفاج.
وممن أحسن الخط وبرع في الدولة العباسية وأهمل ذكره المؤرخون وذكره أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في كتابه المسمى كتاب بغداد في الجزء السادس منه، الذي نشره وطبعه بخطه في بلاد سويسرا هذه الأيام المستشرق العلامة هنس كلر؛ هو العلامة الجليل أحمد بن يوسف، قال أحمد بن طاهر: «دخل أحمد بن يوسف يوما على المأمون، فأمره فكتب بين يديه والمأمون يمل عليه.» قال: «وكان أحمد بن يوسف مع لسانه حلو الخط جدا، فنظر المأمون إلى خطه فقال: يا أحمد، لوددت أني أخط مثل خطك وعلي صدقة ألف ألف درهم.» قال: «فقال له أحمد بن يوسف: لا يسؤك الله يا أمير المؤمنين؛ فإن الله - عز وجل - لو ارتضى الخط لأحد من خلقه لعلمه نبيه
صلى الله عليه وسلم .» قال: «فقال المأمون: سريتها عني يا أحمد. وأمر له بخمسمائة ألف درهم.»
ولما ظهر الهاشميون حدث خط يسمى العراقي، وهو المحقق، ولم يزل يزيد حتى انتهى الأمر إلى المأمون، فأخذ كتابه في تجويد خطوطهم، ثم أحدث ذو الرياستين الفضل بن سهل الوزير الكاتب خطا نسب إليه، فسمي القلم الرياسي، ثم ظهر أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم التميمي، معلم المقتدر وأولاده وكان أكتب أهل زمانه، فألف رسالة في الخط سماها «تحفة الرامق»، ثم ظهر أبو على محمد بن على بن مقلة، الوزير الكاتب المتوفى سنة 328، وهو أول من كتب الخط البديع، نقل طريقته من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة، وله بذلك فضل المتقدم، وخطه غاية في الحسن، ثم ظهر صاحب الخط البديع علي بن هلال، المعروف بابن البواب، المتوفى سنة 413ه، ولم يوجد في المتقدمين من كتب مثله ولا قاربه، وإن كان ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة عن الكوفيين، فإن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها حلاوة وبهجة، ثم ظهر أبو المجد ياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي المتوفى 698، وهو أجل الخطاطين غير مدافع، وأحسنهم خطا غير معارض، وبعدئذ اشتهرت الأقلام الستة بين المتأخرين وهي: الثلث، والنسخ، والتعليق، والريحاني، والمحقق، والرقاع، برز في هذه الأقلام جلة من العلماء، ثم ظهر القلم الديواني والدشتي، وبقي الأمر تابعا لرونق الدولة وانخفاض شأنها، حتى آلت الخلافة للأتراك؛ فأحدثوا الخط الرقعة والخط الهمايوني، وإليهم انتهت الرياسة في الخط على أنواعه إلى عهدنا هذا.
المحاضرة التاسعة: تتمة الكلام على الخط: النقط والإعجام
كانت الكتابة في بداية الإسلام ساذجة بسيطة، فلم يكن القوم يعنون بالنقط والإعجام تمييزا للحروف المتشابهة خطا؛ لأن أهل الصدر الأول أخذوا القرآن والحديث من أفواه الرجال بالتلقين، ثم لما كثر أهل الإسلام وتوغلوا في الحضارة، واشتدت الحاجة إلى الكتابة، اضطروا إلى النقط والإعجام، غير أن الظاهر - على ما قيل - أنهما موضوعان مع الحروف؛ إذ يبعد أن الحروف مع تشابه صورها كانت عرية عن النقط إلى حين نقط المصحف، وقد روي أن الصحابة جردوا المصحف من كل شيء حتى النقط، ولقد لبث الناس يقرءون في مصحف عثمان - رضي الله تعالى عنه - أربعين سنة ونيفا إلى أيام عبد الملك بن مروان حتى كثر التصحيف وانتشر في العراق؛ ففزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فوضعوا النقط أزواجا وأفرادا بعضها فوق الحرف وبعضها تحته، فغبر الناس زمانا لا يكتبون إلا بالنقط، ولكنهم مع ذلك كانوا يصحفون في كتبهم، فتلافى العلماء هذا التصحيف بوضع الإعجام (الحركات).
كان النقط في الأول بوضع نقطة فوق الحرف دليلا على الفتح، وإلى جانبه دليلا على الضم، وتحته دليلا على الكسر، وبوضع نقطتين دليلا على التنوين مع الحركة، وذلك في خلافة معاوية، ثم صار الناس يصحفون في الحروف المتشابهة، فرجعوا إلى تمييز بعضها من بعض بالنقط، واختاروا للفتحة ألفا صغيرة (ا)، ثم جعلوها مستقيمة (-)، ومثلها للكسرة من تحت، والضمة شبه واو صغيرة، وكذلك في الفتحتين والكسرتين والضمتين، وذلك في أيام الحجاج، ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض فأتم بقية علامات الإعجام؛ أي الشكل أو الحركات، والظاهر من أصل كلمة إعجام أن هذه الحركات وضعت لهداية العجم إلى قراءة كلام العرب، وكان إذ ذاك النقط والإعجام واجبين في المصحف، أما في غيره فعند خوف اللبس؛ لأنهما ما وضعا إلا لإزالته، أما مع آمن اللبس فتركه أولى على ما ذهب إليه المتقدمون، وإن كنت أخالفهم في ذلك. لهذا السبب يرون النقط لذوي الفهم والإدراك معيبا مذموما في ذلك الزمان، ولكن الأحوال في زماننا تقضي بخلاف ذلك، ولكل زمن لوازم وحاج.
ولقد كان الكاتبون في الصدر الأول يغلطون في اليسير دون الكثير، ويصحفون في الدقيق دون الجليل لكثرة العلماء وعناية المتعلمين، فلما اضمحل الأمر، صار ما يصحفون فيه أكثر مما يصححون، وما يسقطون أكثر مما يضبطون. وإذا تدبر الإنسان وجد أن التصحيف من أكبر الآفات في اللغة العربية، فيكفي أن رجلا له مكانة يقرأ الكلمة على وجه آخر ليصبح هذا الوجه رواية ثانية أو قولا ثانيا، وهكذا وبهذه المثابة صارت الاختلافات اللغوية كثيرة في الكلمة الواحدة، فصارت كلمات ضم بعضها إلى بعض فأفعمت متن اللغة والأشعار والأحاديث ونحو ذلك، فكانوا في بعض الأحيان يتكلفون الكتابة بوضع النقط والإعجام، فكان ذلك يصعب عليهم؛ ولذلك كانوا إذا أغفلوا استقصاء هذه الشروط في الكلمة، تطرق إليها التصحيف بسهولة، فكان ذلك مدعاة للأخذ عن أفواه الرجال والحفظ في أعماق الصدور.
ولقد كان القرآن محفوظا في صدور الرجال وفي الرقاع
1
واللخاف
2
والعسب
3
والقضم،
4
فلما قتل معظم القراء يوم اليمامة ذهب عمر بن الخطاب، وله على الإسلام منن ظاهرة، فلقي الخليفة الراشد الأول أبا بكر الصديق وقال له: «إن القتل استحر بالقراء يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب كثير من القرآن، فأرى أن يجمع القرآن.» فأرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت كاتب الوحي وأعلمه ما قال عمر، فقال: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟!» فقال عمر: «هو والله خير.» ولم يزل يراجعه حتى أقنعه، فقال له أبو بكر حينئذ: «تتبع القرآن واجمعه.» فجمعه من الرقاع واللخاف والعسب والقضم وصدور الرجال، ووجد سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري دون سواه، وبقيت الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة، فاستنسخها منها عثمان بن عفان، وأمر أربعة من الصحابة - وهم: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام - فنسخوها في المصاحف، وقال للرهط من قريش: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم.» وذلك الاختلاف كان بالطبع لعدم وجود النقط والإعجام في الصحف التي جمعها أبو بكر، وهذه المصاحف الأربعة التي كتبها عثمان سميت بالعثمانية، أرسلها عثمان إلى الأمصار، وآخرها كان موجودا بدمشق، فأحرق مع الجامع الأموي منذ عهد قريب.
هذا وقد كان الخلفاء والملوك والسلاطين وأكابر أرباب الدولة لا ينقطون كتاباتهم، باعتبار أن تواقيعهم ظاهرة الدلالة مفهومة المراد فلا تحتاج إلى ذلك، وكان القوم إذا كتب أحدهم لفاضل منهم وأنقط وأعجم اعتبر المكتوب إليه ذلك خطأ من مقامه، ورأى أن صاحبه يستجهله؛ فأهمل لذلك النقط والإعجام، وكان ذلك الإهمال مدعاة للتصحيف والتحريف، وقد حدثت أمور طريفة من أنواع التصحيف نذكر منها هنا بعض الشيء تفكهة، فمن ذلك ما حكي عن بعض مشايخ المحدثين من المغفلين أنه قال: «عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل، عن الله، عن رجل.» فجعل لله شيخا، ولو قال «عز وجل» لكان صادقا. ومن ذلك ما قيل: «إن النبي
صلى الله عليه وسلم
أعطى الحجام آجرة.» ولو قال «أجرة» لكان صادقا. ومن ذلك الذي قال: «مسح وجهه من القبح ولم يعرف يقرأ زمن الفتح.» ومن ذلك أن رجلا قرأ: «الم ذلك الكتاب لا زيت فيه»، وكان الرجل زياتا. ومنه أن تلميذا قرأ على معلم: «أن السموات والأرض كانتا رتقا»، فقال المعلم: «ويحك! زيفا.» ولا أذكر شيئا من آفات التصحيف، فقد استوفاها الإمام أبو أحمد الحسن العسكري في كتابه التصحيف والتحريف المطبوع في القاهرة حديثا، وإنما أقول إن ذلك وحالة الخط العربي توجب العناية؛ ولذلك أصبحنا والأفضل عندنا هو وضع النقط في مواضعها، وضبط الحروف التي يلتبس بعضها ببعض.
هذا ومما يجب أن يذكر بالإجلال والتكريم، ويعد من أجل حسنات عصر عبد الملك بن مروان الأمير الأموي، نقل الدواوين من اللغات الأعجمية إلى اللغة العربية، وكذلك تبديل المسكوكات الأعجمية بأخرى عربية؛ فإن ذلك النقل وهذا التبديل كانا من أمتن الأركان وأجل الدعائم في تحسين الخطوط العربية وإعلاء شأنها.
فأما الدواوين فإنها كانت في الشام بالرومية، وفي العراق بالفارسية، وفي مصر بالقبطية، حتى زمن الأمويين، اللهم إلا الديوان الذي أنشأه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في المدينة، فإنه كان بالعربية، فلما برع المسلمون أيام بني أمية في معرفة الخطوط، رأوا أن الوقت جاء لتحويل هذه الدواوين من تلك اللغات الأعجمية إلى اللغة العربية، فنقلوا ديوان الشام من الرومية إلى العربية في سنة 81ه، وذكروا في ذلك حكايات يبعد تصديقها، ولكن الذي يقرب من الظن أنهم أرادوا أن يعرفوا حسابهم بأنفسهم، وأما الحكايات التي رووها من أن كاتبا من الروم احتاج إلى الكتابة فلم يجد ماء، فبال في الدواة، فبلغ ذلك عبد الملك فأدبه، فغير معقول.
ولما أمر سليمان بن سعد بنقل الديوان، سأل أن يعان بخراج الأردن سنة، وهو 180000 دينار، فلم تنته السنة حتى أكمل الرجل نقل الديوان إلى اللغة العربية، وكان سرجون كاتب الملوك الأمويين، فلما رأى ذلك النقل ورآه محررا مضبوطا، اغتم وخرج من عند عبد الملك كئيبا حزينا، فلقيه قوم من كتاب الروم، فقال لهم: «اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة، فقد قطعها الله عليكم.»
وكذلك ديوان خراج السواد وسائر العراق لم يزل بالفارسية، حتى تولى الحجاج فاستكتب فارسيا، ولكي يمهد السبيل لنقله إلى العربية؛ استعمل معه رجلا اسمه أبو صالح حتى عرف أسرار الصناعة، ومات الفارسي مقتولا غيلة، فولى الحجاج أبا صالح مكانه، وتقدم إليه أن ينقل الديوان إلى العربية، فدس له أبناء الفرس على أن يظهر العجز عن هذا النقل فأبى، فقدموا له مقدارا من الذهب جسيما فأبى، وأعطاه الحجاج أجلا، فلم ينته حتى أتم عمله؛ ولذلك كان عبد الحميد بن يحيى يقول: «لله در صالح! ما أعظم منته على الكتاب!»
أما الديوان في مصر فإنه جعل باللغتين؛ أي بضم العربية إلى القبطية، فبقيتا معا زمانا طويلا تضمحل فيه القديمة شيئا فشيئا، وتقوى فيه الحديثة قليلا قليلا، حتى زالت القبطية من جميع دواوين مصر، وصارت الكتابة فيها كلها بالعربية.
فمن هذا نعلم أن ابتداء الاستدراج في النقل كان في أيام عبد الملك بن مروان، أما إتمام ذلك فكان في أيام الوليد بن عبد الملك، أتمه عبد الله أخو الوليد سنة 87ه.
وأما المسكوكات فإنها كانت رومية وفارسية، ولم يزل العرب يتعاملون بالدنانير الرومية والدراهم الفارسية وببعض دراهم حميرية قليلة حتى جاء الإسلام، فهم عمر بن الخطاب بأن يجعل الدراهم من جلود الإبل، فأظهر له الصحابة ما يترتب على ذلك من المضار، وقيل له: «إذا لا تغير» فأمسك وبقيت الحال على ذلك حتى انتهت أيام الخلفاء الراشدين، وجاء ملك بني أمية، فنازعهم إياه عبد الله بن الزبير، وبايعه الناس بمكة، فأوعز في سنة 70ه إلى مصعب بن الزبير أن يضرب دراهم إسلامية قليلة على طريقة الأكاسرة، وقيل إنه ضرب دنانير كذلك، ونقش عليها من جهة «بركة»، ومن الجهة الأخرى «الله».
ولما صفا الملك للأمويين، وجاء عبد الملك بن مروان واستعمل الحجاج على العراق، أمره بجمع هذه المسكوكات، فغيرها حتى لا يبقى أثرها مذكرا بدولة ابن الزبير التي مكثت في الحجاز واليمن سنين، ثم رأى عبد الملك من باب السياسة وتوسيع موارد الثروة، أن يضرب نقودا إسلامية؛ حتى لا تكون دولة الإسلام محتاجة إلى نقود الدول التي غلبتها وملكت بلادها، فتكون ملزمة بدفع الفائدة إليها وهي أحق بها لنفسها، فضرب في دمشق نقودا سنة 74ه، ثم أمر الحجاج فضرب نقودا بالعراق في سنة 75ه، وكتب عليها من جهة «بسم الله»، ومن الأخرى «الحجاج»، وفي سنة 76ه كتب عليها «الله أحد الله الصمد»، وسميت بالسميرية باسم سمير أول من ضربها، وكانت دار الضرب تضرب للسلطان «أي للدولة» مما يجتمع له من التبر، وخلاصة الزيوف والستوقة
5
والبهرجة،
6
ثم أذن للتجار وغيرهم أن يضربوا الورق، ولما رأى الأعاجم ذلك، أخذوا يقلدون الدراهم الإسلامية، فغشوا فيها، فكانت الدولة تأمر بكسر هذه الزيوف، وكان عمر وعثمان من قبل ذلك إذا وجد أحدهما الزيوف في بيت المال جعلها فضة ليمتنع التعامل بها.
وفي أيام عبد الملك بن مروان ضرب رجل على غير سكة المسلمين، فأراد أن يقطع يده، ثم ترك ذلك وعاقبه، وفي أيام عمر بن عبد العزيز الأموي ضبطت الحكومة رجلا يضرب على غير سكة السلطان، فعاقبه عمر، وسجنه، وأخذ حديده فطرقه في النار، وكانوا يعاقبون من يقطعها أو يدس الدراهم المفرغة والزيوف.
تتمة المحاضرة التاسعة: الحفظ والتدوين
قد علمنا أن الأمة العربية في زمن الجاهلية لم تكن من الكتابة في شيء، ونزيد الآن أنها لم تكن منذ برأها الله حتى منبثق فجر الإسلام تعرف من العلوم إلا ما تقضيه أدنى معيشة، كتربية بعض الدواب، وانتجاع منازل الغيث، والعلم بالأنساب، وبرمي السهام، والحداء، وغير ذلك من المبادئ التي لا يسع البدوي جهلها. فلما نزلوا ديار من اكتنفهم من الروم والفرس والحبش، وهاجر إليهم ناس من اليهود والأنباط ممن سامتهم أمم العسف والجور سوء العذاب، وبدلت حالهم التي كانوا عليها غير الحال، ابتنوا الدور، وشادوا السدود، ولبسوا الخز والديباج، ونظروا في السموات والأرض وفي أنفسهم على قدر استطاعتهم، «إلا قليلا منهم ممن كانوا عن هؤلاء الأمم مبعدين»، غير أن نصيبهم من هذه العلوم كان قليلا ، فلم يبلغوا فيها إذ ذاك مبلغا يضطرهم إلى التدوين، فكانوا يكتفون فيها بالحفظ، ولم يفطنوا للتدوين لقلة حاجتهم إليه.
كان العرب مغرمين بالأنساب والشعر، فكانوا يقيمون للمفاخرة وإنشاد الأشعار الأسواق، ويقعدون لها كل مرصد، فترفع الأنساب وتنشد الأشعار، وما كانوا على شيء أحرص منهم على حفظها؛ لأن فيها مدحهم وهجاءهم، وفخرهم وحروبهم وأنسابهم، وغير ذلك مما لا يعنون إلا به، فكان الشعر وهو ديوانهم، كالصحف السائرة من الأمم الراقية اليوم، ولقد برزوا في هذين النوعين التبريز كله، حتى بذوا فيهما كل الأمم، وبلغوا منهما ما لا يدرك، ومع كثرة الأشعار لم يدونوها لجهلهم الكتابة كما تقدم، فاكتفوا فيها بالحفظ؛ لأنهم مرنوا عليه منذ نشأتهم لاضطرارهم إليه، فصار عندهم شيئا مألوفا، وساعدهم عليه صفاء أذهانهم وقلة مشاغلهم الدنيوية؛ إذ كانوا يكتفون من الطعام بالتمرة، ومن الثياب بالقميص أو الإزار والرداء، ومن المسكن بالخباء، بله كثرة رياضتهم البدنية التي تقتضيها معيشتهم البدوية.
فما كان الشاعر يفرغ من تلاوة قصيدته على ملأ من قومه حتى يكون أكثرهم قد استظهرها، ومن ذلك نشأ اختلاف الروايات في القصيدة الواحدة، فإن الشاعر ينشد قصيدته على ملأ من السامعين فيحفظها منهم جماعة، فربما اختلطت كلمة أو جملة على أذن السامع فبدلها بأخرى، وربما عاب عليه آخر شيئا في تلك القصيدة، فيغير منها ما اقتنع بوجوب تغييره، ثم يمر الراوي بآخرين فيسمعهم تلك القصيدة بالألفاظ المغيرة، فيحفظها كذلك منهم نفر فتختلف الرواية.
ولما تنفس فجر الإسلام وأيقظ العرب من رقادهم ففتحوا البلاد وجاسوا خلال ديار أقيمت على دعائم المدنية، شالت نعامة جهلهم، فامتلأت رءوسهم علما، وصاروا من أعلى الأمم كعبا فيه، غير أنه لم يكن له مأوى في صدور الإسلام إلا صدور الرجال، فكانت الأئمة ترتجله في المحافل، ولا يتصدى للتعليم غير الحافظ، ولم تكن عنايتهم وقتئذ إلا بمسائل العلم وأدلته الصحيحة، ولم يكن للفظ نصيب من البحث والتدقيق كما له اليوم، وما كانوا يعرفون الكتب، بل كانوا ينهون الطلبة عن النظر فيها والاعتماد عليها؛ لئلا تتناولها أيدي التصحيف والتحريف أو التزوير المقصود؛ فيقعوا في شر أعمال المفسدين، أو خوفا من أن يقصروا همتهم على اللفظ دون المعنى، أو يعتمدوا على الكتب؛ فيهملوا الرواية التي هي عندهم قوام العلوم، لا سيما الأدبية والنقلية منها.
ولقد كان العلماء وقتئذ يفاخر بعضهم بعضا بالحفظ، وقلما يكون لأحدهم كتاب واحد يعتمد عليه فيما يزاول، وكان بعضهم يهلك كتبه خوفا من الاتكال عليها.
يؤيد ذلك أن أول ما اشتغل به علماء العرب من العلوم هو تفهم القرآن وحفظ الحديث وكلام العرب، وقد أجمع العلماء أمرهم على أن هذه الأشياء الثلاثة لا بد فيها من السماع والسند الصحيح، فمن لم يسمعها بإسناد، لا يعد عالما فيها؛ ولذلك لا يعترف أئمة الحديث واللغة الذين حصلوا علمهم بالرواية، كالإمام الحافظ المرحوم الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، نزيل القاهرة في آخر أيامه، لا يعترف مثل هؤلاء لمصري بعلم الحديث واللغة؛ لانقطاع السماع عنا في هذه البلاد.
وإذ كان السماع هو العمدة في صدر الإسلام، كانت الكتب بالضرورة غير معتد بها، ولا معول عليها في شيء؛ إذ المسألة مسألة حفظ محض.
إن الصحابة والتابعين لقرب عهدهم بصاحب الشريعة الإسلامية، ولقلة الاختلاف والواقعات، ولتمكنهم من مراجعة الثقات؛ كانوا لكل ذلك مستغنين عن تدوين علم الشرائع والأحكام، حتى إن بعضهم كره كتابة العلم، فقد روي عن ابن عباس أنه نهى عن الكتابة، وقال: «إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة.» وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - فقال: «إني كتبت كتابا أريد أن أعرضه عليك.» فلما عرضه عليه، أخذه منه ومحاه بالماء، فقيل له: «لماذا فعلت ذلك؟» قال: «لأنهم إذا كتبوا، اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ، فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم.»
ولذلك نبغ الحفاظ في هذه الأمة، وأكثرهم في الحديث والشعر واللغة، حتى كان الرجل منهم يتصدر في مجلس العلم فيملي من محفوظه ما شاء الله، لا يرجع إلى كتاب، وتبقى أماليه مرجعا للباحثين والطلاب، وهذه كتب الأمالي أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر بالشرق وبالأندلس، وقد وصف العلماء الأمالي فقالوا: «هو جمع إملاء، وهو أن يقعد عالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم العالم بما فتح الله عليه من العلم، ويكتبه التلامذة؛ فيصير كتابا، ويسمونه الإملاء والأمالي.»
وقد روى صاحب كشف الظنون أسماء بعض كتب في الأمالي، نروي هنا بعضها، فمنها: «الأمالي الخمسمائة» للإمام أبي سعيد عبد الكريم بن محمد السمعاني المروزي الشافعي المتوفى سنة 552ه، و«أمالي ابن الحاجب» المتوفى سنة 672، فيه تفسير بعض الآيات، وفوائد شتى من النحو على مواضع من المفصل، ومواضع من الكافية في غاية من التحقيق، و«أمالي ابن حجر» العسقلاني المتوفى سنة 852، و«أمالي ابن دريد» المتوفى سنة 321، وهي في العربية، و«أمالي ابن الشجري» المتوفى سنة 572، وهي ثمانية مجلدات في خمسة فنون من الأدب، قال ابن خلكان: «أملاه في أربعة وثمانين مجلسا.» و«أمالي ابن عساكر» في الحديث، وهو صاحب التاريخ الكبير، المتوفى سنة 571، و«أمالي أبي بكر» الأنباري، و«أمالي أبي العلاء» المعري المتوفى سنة 449، وهو مائة كراسة، ولم يتمه، و«أمالي الإمام» أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الحنفي، المتوفى سنة 183، وهي في الفقه، يقال إنها أكثر من ثلثمائة مجلد، و«أمالي جار الله» الزمخشري، و«أمالي الزجاج في النحو»، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد النحوي، المتوفى سنة 312، وهي ثلاثة: الكبرى، والوسطى، والصغرى، و«أمالي القالي في اللغة» وهو الشيخ أبو علي إسماعيل بن القاسم اللغوي المتوفى سنة 356.
ولما كانت عناية القوم منصرفة إلى الحديث، كثر الحفاظ في هذا الفن، وأتوا بالغرائب وبالبدائع، فقد كان معظمهم لا يرجع إلى كتاب ولا يقتني كتابا كما قلنا ذلك قبلا، وإنما يتفجر علمهم من المحفوظ في صدورهم، ولم يكن الرجل يستحق لقب الحافظ إلا إذا بلغ محفوظه من ثلاثة آلاف فما فوق، ونشير من باب الدلالة إلى بعض أفراد من الحفاظ مثل: ابن غياث الكرخي الذي حفظ ثلاثة آلاف حديث، وابن درهم الذي حفظ أربعة آلاف حديث، وابن عيينة الذي حفظ سبعة آلاف حديث، وأما الذين اشتهروا بحفظ عشرة آلاف فهم كثيرون مثل: شعبة، وحماد الربعي، والمروزي، وغيرهم، وهنالك من ضاعف هذا العدد مثل: أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي، وابن عياش، والإسفرايني، وأما سفيان الثوري فكان يحفظ ثلاثين ألف حديث، وأبو خالد بن يزيد بن هارون كان يقول: «أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بالإسناد ولا فخر، وأحفظ للشاميين عشرين ألفا لا أسأل عنها.» وأما الختلي البغدادي، والعبدي البصري؛ فكانا يحفظان خمسين ألفا، وابن أبي عاصم نهب الزنج كتبه في فتنة بالبصرة، فأعاد من حفظه خمسين ألفا، وأما البخاري فكان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، ونهاية ما وصل إليه البشر ما بلغه ابن حنبل، قالوا: «إنه حفظ ألف ألف حديث.»
كذلك كان شأنهم في الأدب واللغة، فقد أملى ابن الأنباري من غريب الحديث من محفوظه ما ملأ خمسة وأربعين ألف ورقة، وكان يحفظ ثلثمائة ألف بيت شاهدا للقرآن، وابن أبي هاشم البغدادي أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة، خلاف الكتب الكثيرة التي صنفها من غير أن يرجع إلى كتاب.
وقد اشتهر الحفاظ في الأندلس وفي المغرب، وأتوا بالعجائب والغرائب، فمنهم: ابن حزم الظاهري المشهور، وأبو العباس أحمد المقري، صاحب كتاب نفح الطيب، ومنهم عبد الواحد المراكشي، أملى بمصر التي كان فيها سنة 619 كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب، وهو من نفائس الكتب التي أرى أنها تستحق أن تكتب بماء الذهب، ويتوفر المتأدبون على قراءتها وتكريرها مرارا عديدة، وقد أشار فيه إلى أستاذه أبي جعفر أحمد بن محمد بن يحيى الحميري، الذي كان يقرأ عليه بقرطبة كتاب الحماسة ولزمه سنين، فقال: «ما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث، ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب أو مثل سائر أو بيت نادر أو سجعة مستحسنة منه رضي الله عنه وجازاه عنا خيرا، أدرك جلة من مشايخ الأندلس، فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب، وأعانه على ذلك طول عمره، وصدق محبته، وإفراط شغفه بالعلم، قال لي ولده عصام: «وقد رأيت عنده نسخة من شعر أبي الطيب قرئت علي أو أكثرها فألفيتها شديدة الصحة.» فقلت له: «لقد كتبتها من أصل صحيح، وتحرزت في نقلها.» فقال لي: «ما يمكن أن يكون في الدنيا أصل أصح من الأصل الذي كتبت منه.» فقلت له: «أين وجدته؟» قال: «هو موجود الآن بين أيدينا وعندنا.» وكنا في المسجد في زاوية، فقلت له: «أين هو؟» فقال: «عن يمينك.» فعلمت أنه يريد الشيخ، فقلت: «ما على يميني إلا الأستاذ.» فقال لي: «هو أصلي، وبإملائه كتبت، كان يملي علي من حفظه.» فجعلت أتعجب، فسمع الأستاذ حديثنا؛ فالتفت إلينا وقال: «فيم أنتما؟» فأخبره ولده الخبر، فلما رأى تعجبي قال: «بعيدا أن تفلحوا، يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي، والله لقد أدركت أقواما لا يعدون من حفظ كتاب سيبويه حافظا، ولا يرونه مجتهدا.» وتوفي أبو جعفر هذا سنة 610ه.»
وقد انتشرت عادة الحفظ في جميع طبقات الأمة الإسلامية، فقد ذكر ابن خلكان أن الملك المعظم عيسى سلطان الشام ابن الملك العادل الأيوبي الفقيه الحنفي، الأديب المتوفى سنة 604، أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه، فجردوه له في عشرة مجلدات، وسموه التذكرة، وكان لا يفارقه سفرا ولا حضرا، ويديم مطالعته، وذكر أنه كتب على كل جلد منه «حفظه عيسى» فقيل له يوما: «أنت مشغول بتدبير الملك، فكيف يتيسر لك حفظ هذا المقدار؟» فقال: «كيف الاعتبار بالألفاظ؟ وإنما الاعتبار بالمعاني، باسم الله سلوني عن جميع مسائلها.» وهذا يدل على اطلاع زائد وحفظ تام، هذه العبارة رواها صاحب كشف الظنون، ولم أجدها في النسخة المطبوعة من وفيات الأعيان ببولاق، وكان لهذا الملك الهمام عناية بالأدب وأهله، وقد شرط لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة، ورأى ابن خلكان بعضهم بدمشق، وقال: «لم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره.»
ومن مشهوري الحفاظ بالأندلس أبو حيان، ومحفوظاته ومروياته ومؤلفاته من أعجب الأعاجيب، وكان يفتخر بالبخل، ولا يقتني كتابا واحدا، بل يعيب على مشتري الكتب، ويقول: «الله يرزقك عقلا تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني درهما ما أجد ذلك.»
وأما الشعراء والرواة الذين حفظوا أشعار العرب ودواوين المتقدمين فهم كثيرون أيضا، ومنهم: أبو نواس ، لم يقل الشعر حتى حفظ ثلاثين ديوانا - فيما أذكر - للشواعر من نساء العرب، ولا نذكر الأصمعي وأمثاله، فهم أشهر من نار على علم، وإنما نقول هذه المزية اشترك فيها أهل الأندلس أيضا، وحسبنا التنويه بذكر ابن عبد ربه، كان أيسر محفوظاته كتاب الأغاني، لا يخطئ منه واوا ولا ألفا، وناهيك بكتاب الأغاني، وهذه المسألة العجيبة مشروحة في كتاب عبد الواحد المراكشي، وتستحق أن يرجع إليها أهل الأدب والطالبون للوقوف على أحوال الأكابر في عصر الإسلام الزاهر.
ومن غرائب الحفاظ ما يروى من أن الإمام الجليل أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي كان إذا نظر في كتاب وضع يده فوق السطور التي تلي السطر الذي يقرؤه؛ خوفا من أن تمر عليها عينه فتعلق بذهنه، فإنه ما كان ينظر شيئا إلا حفظه، وهو القائل:
علمي معي حينما يممت ينفعني
صدري وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي
أو كنت في السوق كان العلم في السوق
ومما يدل على عناية العلماء بالحفظ واعتمادهم عليه قول الإمام أبي محمد علي بن حزم الظاهري المتقدم ذكره:
إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس إذ هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
وليس هذا الأمر بغريب أو بعيدا إذا اعتبرنا أن أهل الشرق على العموم لهم سليقة غريبة في الحفظ، وكانوا يزيدونها قوة بالممارسة والرياضة، وقد اشتهر هذا الأمر عن كثير من نوابغ الإفرنج المتقدمين والمتأخرين، فلا محل للشك فيما رواه الثقات من علماء المسلمين، وإنما يتطرق إلينا الوهم بأن هذه المرويات هي من باب المبالغات الشرقية، نظرا لانحطاط الهمم والقعود عن الكسب والتحصيل، فصرنا نقيس المتقدمين على أنفسنا.
هؤلاء بعض أئمة الحفاظ من علماء القرون الأولى، ومما ذكرناه عنهم يعلم القارئ أن كل اعتمادهم في تلك العصور إنما كان على الحفظ، لا على الكتب، وأن حوافظهم كانت لا تزال قوية كما كانت في عصر الجاهلية؛ وذلك لقرب ما بين الزمنين ، ولبقية بقيت فيهم من تلك الآثار والأخلاق التي قوت فيهم ملكة الحفظ.
ومما يؤيد هذه الروايات ما اشتهر به بعض علماء أوروبا في القرنين الماضيين من كثرة الحفظ المدهش، وهم كثيرون، نكتفي منهم بذكر أمير قيل إنه أكب على قراءة الإنسكلوبيديا، وابتدأ يحفظها من لدن الجزء الأول حتى بلغ الجزء العشرين، وبقيت هذه الأجزاء في ذاكرته حتى مضى على قراءته إياها خمسون عاما، وقراء الإنسكلوبيديا يعرفون اختلاف موضوعات كل جزء منها ومقدار صعوبتها على الحفاظ، مما يدل على مقدار ذلك الرجل النادر المثال.
وكثير من علماء الإسلام في القرون الأولى كانوا جوالين في البلاد لطلب العلم الشفهي بعضهم من بعض، وكانت هذه سنتهم في تلك العصور، يستوي فيهم الطالب والمطلوب منه، غير أن طلب العلم على تلك الصورة الشفهية إذ ذاك كان صعبا لوعورة الطرق وعدم المراكب البخارية، وغيرها من مسهلات الطرق، فكان غير ميسور لكل طالب إلا لمن استطاع أن يضرب له أكباد الإبل، ويكابد المشقات الشديدة في الرحلة إلى الأصقاع البعيدة والأمكنة الشاسعة.
فقد كان طلاب العلم وقتئذ يقتحمون عقبات صعبة، ويعانون في سبيله ما لا يكاد يوصف، ولا بأس من إيراد حكاية هنا تدل على ذلك، وهي أن طالبين رحلا من أقطار بعيدة إلى بغداد - فيما أذكر - لطلب علم الطب عن نصراني، فاتفق يوم قدومهما بغداد أن كان ذلك العالم في الكنيسة، فتوجها إليه للقائه، فوجداه بقميص واحد مكشوف الرأس، يدور حول جدار الكنيسة من داخلها وفي يده نار ببخور، فلبثا حتى فرغ، فإذا به قد توسم فيهما دلائل الاستغراب والاستنكار، فبعد أن سألهما عن أحوالهما وما قصداه منه قال لهما: «لا أستطيع أن أعلمكما حتى تحجا وتعودا إلي.» فلم يريا بدا من امتثال أمره، فذهبا إلى الحج، وبعد أن عادا من مكة قال لهما: «ماذا صنعتما في الحج ؟» قالا: «كيت وكيت.» قال: «وما كانت حالكما في الصفا والمروة؟» قالا: «كنا نهرول فيما بينهما.» فقال لهما: «إذن لا تعجبا من الحال التي كنت عليها في الكنيسة وقت قدومكما، فإن الأمور الدينية يجب أن تؤخذ بالتسليم والقبول من غير اعتراض ولا انتقاد.» وبعدئذ علمهما ما قصداه فيه.
ومع هذه الصعوبات وتلك المشاق كان يزداد طلاب العلم كل يوم رغبة فيه وتهافتا عليه، ولم يثنهم عنه قلة أرزاقهم، ومضايق الزمن، ووعورة الطرق، وصعوبة الطلب، ودل العلماء.
غير أن ما حدث إثر ذلك من اختلاف العلماء في الآراء، وانتشار مذاهبهم، وغلو أنصارهم، واتساع الأمصار الإسلامية، وامتداد سلطانهم، وتفرق الصحابة والتابعين، وغيرهم من حملة العلم في البلدان الشاسعة، والأصقاع المتنائية، وحدوث الفتن، وكثرة الفتاوى بلا علم ولا هدى اتباعا لأهواء بعض الأمراء وطمع بعض العلماء، كل هذا اضطر العلماء إلى تدوين محفوظاتهم، وكذلك حملهم على التدوين اشتغالهم بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط، وتمهيد القواعد والأصول، وترتيب الأبواب والفصول، وتكثير المسائل بأدلتها، وإيراد الشبه بأجوبتها، وتعيين الأوضاع والاصطلاحات، وتبيين المذاهب والاختلافات، وغير ذلك مما ذكره العلماء. ومما دفع العلماء إلى التدوين: رغبة الأمراء في التعلم والتأدب، وعدم استطاعة بعضهم حضور مجالس العلم، ورغبتهم كذلك في تأديب أولادهم، وخوفهم من فقدان العلماء بسفر أو بموت أو بسبب آخر، وقد كان أكثرهم رحالة، وكذلك رغبة العلماء أنفسهم في تعليم أولادهم وأفلاذ أكبادهم وخشيتهم الموت قبل إتمام ذلك.
وأنتم تعلمون أن كتبا كثيرة دونت في الإسلام برسم الأمراء، وبرسم أبنائهم، وبرسم أبناء العلماء، وأمثال ذلك كثير استفاضت به كتب التاريخ والأخبار، ومن هذه الكتب: كتاب «ألف با» الذي ألفه أبو الحجاج البلوي لابنه، وهو كتاب ممتع في الأدب، وكتاب «واسطة السلوك» للسلطان أبي حمو نعمراسن، المطبوع في تونس، المترجم إلى اللغة الإسبانية، وطبع في مدريد، وكتاب طبيب الحجاج الذي ألفه لابنه.
فابتدأ التدوين منذ القرن الأول للهجرة، ولكنه كان ضئيلا لا يذكر، وكثر وازداد في أواخر القرن الثاني أيام الترجمة والنقل واشتغال العلماء بفنون الأدب والحكمة، وسنتكلم على النقل والترجمة بالتفصيل.
ولقد اختلف العلماء في أول من صنف في الإسلام، ولكننا لو اعتبرنا وضع الإمام علي بن أبي طالب وأبي الأسود الدؤلي لقواعد علم النحو تدوينا ، كانا أول من دون في الإسلام، وقد قيل إن أبا الأسود توفي سنة 60ه، وقال ياقوت: «كان نصر بن عاصم الليثي النحوي فقيها عالما بالعربية من قدماء التابعين، وكان يسند إلى أبي الأسود الدؤلي، توفي سنة 89 هجرية، وضع كتابا في العربية.»
وأول من دون في الطب والحكمة - على ما قيل - هو طبيب الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى سنة 90ه، وله كتاب كناس كبير ألفه لابنه، وكتاب أبدال الأدوية، وكيفية دقها وإيقاعها وإذابتها، وشيء من تفسير أسماء الأدوية، فعلى هذه الروايات يكون هذان العالمان من أوائل من دونوا في الإسلام.
ومن أول من دون في الحديث في الإسلام الإمام مالك بن أنس، عالم المدينة ومفتيها، صاحب كتاب الموطأ في الحديث.
وبعد ذلك اتسع النطاق، وفاض بحر العلم، حتى وصلت الحضارة الإسلامية بفضل أهله إلى الذروة القصوى والمكانة العليا.
Halaman tidak diketahui