وكنت أجد في صوتها وهي تتكلم لهجة إخلاص ورنة صدق حسبت معها أن الحقيقة بعينها قد تمثلت لي على ذلك الوجه الصافي، توحي كلامها إلى أذني ونظراتها إلى عيني ونفسها إلى قلبي، فاتكأت إلى جنبي على قدميها وأسندت رأسي بيدي وأحدقت ببصري إلى شفتيها كأنني أريد أن أحرص على كل كلمة أو حركة أو نفس يصدر عنها.
ثم أخذت تقص علي سيرتها، فقالت: إنني ولدت في بلاد غريبة من ديار الشرق كما يظهر لك ذلك من لون شعري واصفرار وجهي بما يخالف صفرة النساء في أوروبا، أو كما تسمع من غرابة لهجتي التي لم أقدر أن أغيرها ولا أريد؛ لأنها آخر ذكرى بقيت لي من آثار أوطاني. أما اسمي فغصن البان دعتني به أمي، ثم ماتت غريقة وقذفتني الأمواج إلى شاطئ وجدتني عليه إحدى النساء فردتني إلى أبي، فأتى بي إلى فرنسا وأنا بنت ست سنوات ثم لم يلبث أن توفي، فأخذني حاكم البلد إلى مدرسة لليتامى نشأت فيها بين الصلاح والعلم وأنا أتقدم في الذكاء والمعرفة والجمال على ما كان يقال لي، ولكنه جمال ذابل كجمال الزهرة تنقل إلى غير منبتها، ثم بقيت على حالتي تلك أعواما تذهب في أواخرها صواحبي إلى أهلهن وأبقى وحيدة لا يسأل عني أحد ولا أعرف أحدا، حتى صرت ألوم المرأة التي التقطتني وردتني إلى أبي ولم تدعني أموت على ذلك الشاطئ حيث ألقتني يد الأمواج.
وكان يزور مدرستنا أحيانا شيخ جليل يأتي من قبل الملك لفحص الطالبات، فأعرض عليه في مقدمتهن كمثال للحذاقة والذكاء فيتلقاني بالبشاشة والدعة وهو يقول: ما رأيت هذه الفتاة إلا أسفت على أن ليس لي ولد.
وبينما أنا ذات يوم جاءتني الرئيسة فأخذتني إليه وهو في ردهة (قاعة استقبال) المدرسة، فتلقاني وقال لي: لقد بلغت السابعة عشرة من عمرك، ولا تمضي عليك بضعة أشهر حتى لا يعود لك مقام في هذا المكان لانقضاء مدتك منه، ولقد أرى أنك فتاة لا وطن لك ولا منزل ولا مال ولا أهل ، وأنك إذا اعتمدت على المعيشة من شغل يدك كانت معيشة شاقة على فتاة مثلك، وإذا نزلت على إحدى صواحبك كانت نزلتك ثقلة عليها وضيقا عليك، ثم أنت ذات جمال باهر والجمال إذا أغفل كان مجلبة للنقيصة وإغراء على ارتكاب الدنايا، كالذهب المتروك الذي يكون عرضة للسارق ومطمعا للمختلس، فماذا عساك تصنعين؟ وكيف ترين؟
قلت: لا أدري لي سبيلا للخروج من هذه الحال إلا بالموت أو معونة الله. قال: بل أرى لك سبيلا آخر، ولكني لا أجسر على بيانه. قلت: بل تأمر يا سيدي، فإنما أنت لي أب تجب علي طاعته وإكرامه. فقال: لا، لست بأبيك، ويا ليتني كنت إياه! ولكني أعرض عليك أمرا أحب أن تجيبيني عليه أو تجيبيني إليه، أنت ترين أنني رجل قد بلغت إلى آخر أيامي ولا ولد لي ولا أهل أترك لهم ما حصلته بكدي من حطام هذه الدنيا، ولقد صرفت ما تقدم من عمري وحيدا لا مؤنس لي غير كتبي وأقلامي حتى بلغت إلى هذا السن، فوجدت وأنا في نهاية مدتي أنني لم أبدأ بالحياة بعد؛ لأنني لم أشعر بالحب، وأنني لم يعد يليق بي أن أرجع إلى طريق السعادة - وهي الغرام - بعد أن صرت في آخر الطريق التي تخيرتها لنفسي وهي المجد والإعظام، ولكني مع ذلك لم أرد أن أموت قبل أن أترك لي ذكرى هذا الوجود في وجود سواي، وهو الخلود الذي لا أعتقد سواه، وأنا لا أرجو أن أحصل عليه إلا بك من طريق الوداد وعرفان الجميل، فأتخذك في الظاهر امرأة لي على أعين الناس قطعا لألسنتهم عني وعنك وابنة في حقيقة الأمر تجدين مني حنو الوالد على أولاده.
فوقع كلامه مني موقعه من وحيد يحتاج إلى أهل ويتيم يرغب في منزل يأوي إليه، فأجبته إلى ما طلب ودخلت منزله ابنة لأب لا زوجة لزوج، وهو لا يريد إلا أن أدعوه باسم الوالد وإن دعاه الناس عني باسم القرين، ثم أخذ يعتني بي أحسن اعتناء ويعاملني خير معاملة، فكنت عنده في ناد من شيوخ ذلك العصر وعلمائه؛ بين كتبة وفلاسفة وساسة ممن نجوا من سيف الثورة وخلصوا من رق الاستبداد، ثم اختار لي فضليات النساء لمعاشرتي وتهذيبي، ولم يكن يمنع عن عشرتي أديبا من أدباء ذلك العصر رجاء أن أميل إلى أحدهم فيميل إليه معي ولكني لم أمل إلى أحد.
واقتنعت من الدنيا بما أنا حاصلة عليه، فكنت أقضي نهاري بين درس ونزهة، وليلي بين جمعية من أكابر العلماء وشيوخهم، بحيث كان شبابي زهرة غارقة في ثلج ذلك المشيب، وأنا أشتهي أن أجد فتى أو فتاة في مثل صباي فلا أجد حتى تولاني الذبول والانتحال، ولم يخف ذلك على من كنت أدعوه أبي، فكان ينظر إلي نظر الحزين الكئيب، ويعالجني بكل دواء من حسن عشرة وحضور محافل وزيارة أندية ومشاهدة ألعاب وأنا لا ينفعني شيء من ذلك، حتى قال لي يوما: أتراك ذات قلب شيخ في ابنة عشرين؟! ألا تدرين أنني أحب أن أراك مائلة إلى واحد ممن يعشقون جمالك؛ ليكفل حنوي إليك من بعدي؟ فأجبته: إن ودادك يكفيني، وأنا بخير ما دمت أراك. قال: إذن ما بالك تهرمين وأنت في مقتبل شبابك؟! ألا تدرين أنه لا ينبغي لسواك أن يغمض عيني عند مماتي؟ فازدهي وسري وأحبي على شرط ألا تموتي أو ألا أحيا بعدك.
ثم أخذ يستدعي لي طبيبا بعد طبيب، وكلهم يجمعون على أنني مصابة بتشنج في القلب، وأنه ينبغي لي تغيير معيشتي، وإقامتي في مكان بعيد عن برد باريز، ففضل زوجي أن يحرم قربي وأكون سليمة على أن يراني بين يديه عليلة سقيمة، فعهد بي إلى أسرة غريبة أخذتني إلى إيطاليا وسويسرا فصرفت فيهما سنتين، ثم أشار علي بعض أطبائهما بالقدوم إلى هذا المكان والإقامة فيه ما دام في هوائه بعض الحرارة، حتى إذا توسط الشتاء عدت إلى زوجي. وإني - علم الله - كنت أود أن أعود إليه وقد شفيت وانتعشت، ولكني أرى أنني لا أعود إلا لأزيد في أحزانه أو أموت بين يديه.
ثم عادت فقالت: سيان عندي الموت والحياة بعد أن وجدت الأخ الذي طالما كنت أنشده حتى ظفرت به اليوم. ثم غطت وجهها بيديها وأردفت وقد برقت دموعها بين أناملها: أجل، لقد وجدت بك في صباح هذا اليوم من طالما كنت أحلم به في ما تقدم من ليالي حياتي، فيا حبذا لو تكتب لي الحياة بعد ذلك، فقد صرت أشتهي الآن أن يطول مدى عمري ليطول سروري بهذه العين التي بكت علي واليد التي ضرعت لأجلي والنفس التي حنت إلي والصوت الذي دعاني بأخته، وأؤمل أنه لا يحرمني هذا الاسم في حياتي ولا بعد موتي.
وما أتمت كلامها حتى سقطت واهي القوى على قدميها وشفتاي لاصقتان بهما وأنا صامت لا أعيد ولا أبدي. ثم لم ألبث أن سمعت وقع أقدام البحارة قادمين إلينا ليخبرونا بسكون البحر ووجوب العودة فقمنا وتبعناهم، وكنت أسير وإياها بقدم قلقة كأننا في سكر، وهيهات أن أصف سروري عندما كنت أشعر بجسمها اللطيف مستندا علي كأنها تقول لي به أن لا نصير لها سواي، فلقد مضى علي من ذلك العهد عشرون عاما وأنا لا أزال كأنني أسمع وقع قدميها على الهشيم اليابس، وأرى خيالينا قد اتحدا يتبعاننا كأنهما تابوت أو نعش يتبع الشباب والغرام ليدفنهما قبل الأوان، وأشعر بلمس كتفها لقلبي الخافق وتموج خصلة من شعرها كان يلقيها نسيم البحيرة على وجهي، فأمسكها بشفتي لأتمكن من تقبيلها. ويل منك أيها الزمان! كم تخفي من سرور النفس في تلك الساعة! ولكن كم أنت عاجز عن محو تذكاره وإخفاء آثاره!
Halaman tidak diketahui