الغزالي يهدف نحو الحق
كافح الغزالي شكوكه كفاحا قويا، ولم يستسلم لها استسلاما تاما كما حدث ل «دافيد هيوم»، بل سعى إلى الإيمان جاهدا، وطلب الحقيقة في إلحاح ولهفة.
كان يحس ظمأ ملحا إلى الإيمان بحقائق ثابتة ترضي عقله، وترضي قلبه، وترضي روحه، وترضي المثل العليا التي ينشدها في الحياة.
كان الغزالي يسهد ليله في طلب الهدى وتلمس أبواب النور، وكانت جفونه تذبل وتتألم، وهو يبحث وراء الصواب، ويطرق تلك الأبواب الخفية التي تتلمسها الروح الضالة في شوق ولهفة؛ علها تظفر بحكمتها وغايتها.
كان يحلم ويتأمل ويطيل التفكير والتأمل؛ لأنه يشعر بفراغ الإيمان يملأ حياته فراغا، وببرودة الشك تميت حسه، وتميت عواطفه، وتميت جوانب الخير في قلبه، كان يحس ضآلة الحياة بلا هدف ولا يقين.
وقد جعل دراساته للعلوم وسيلة من وسائل الاهتداء، كما هي وسيلة من وسائل المعرفة، وقد تدبر الفقه طويلا وهو علم الأحكام والنظم الإسلامية، وكان ينشد فيه أكثر مما ينشد في غيره؛ الإيمان، ولكنه لم يجد فيه سكينة نفسه؛ لأن الغزالي المشبوب الروح ، الحار العواطف لا ترضيه تلك المجادلات اللفظية، ولا تلك الأقيسة الجامدة؛ فهو لم يحس قلوب الفقهاء تخفق فيما كتبوا، ولم يلمس أرواحهم ترفرف فيما دبجوا، وهو يريد شيئا يرضي الروح والقلب.
ودرس علم الكلام ليصل إلى الله، وليقنع نفسه بأدلته، ويرضي قلبه بألحانه ونغمه، وهو علم الشريعة وخلاصة فلسفتها وكنز مجدها، ولكنه وجد الكلاميين يذكرون الله وصفاته وكأنهم يقيمون بناء هندسيا، أو يجرون عملية من عمليات الحساب في برودة الحاسبين وجمود عواطفهم وأحاسيسهم.
ودرس الفلسفة وهي مفخرة العقل البشري، ليرضي عقله بآياتها، ثم يرضي يقينه برموزها، ولكن الفلسفة زادته شكا بافتراضاتها وألغازها وبقية الوثنية السابحة في معارفها، بل زادته نفورا من موازين العقل، ونفورا من الاهتداء بوساطة العقل.
ولجأ إلى التصوف عله يشفي غلته الصادية، فيذكر لنا «عبد الغافر» كيف أن أبا حامد بعد أن أوغل في دراسة العلم والتبحر فيه، عافه وتبرم به، ولم يجد فيه أية جدوى له، فدار بعينيه يتلمس ما يجدي على نفسه ويعده لزاد الآخرة، فاهتدى بهدي «الفارمذي الصوفي» وأخذ عليه، واشترك في حلقات الأذكار معه، ولكنه لم يبلغ من كل ما سلك شيئا تطمئن به نفسه.
كان يمثل من جديد تلهف سيدنا إبراهيم الخليل وتعطش روحه إلى الإيمان؛ فهو يتلمس الخالق في ضياء القمر، ثم يشاهده آفلا فلا يعجبه هذا الأفول، بل يجل الخالق عن أن تعتريه صفة من صفات النقص والتحول، ثم يرى الشمس؛ فيفرح بها، ويطمئن إليها، ويظنها ربة الأكوان؛ لأنها أكبر من القمر وأشد سناء وبريقا، ثم يراها غاربة فيجحدها وينكرها، ويبحث عن خالقه من جديد؛ حتى أتاه اليقين.
Halaman tidak diketahui