وإذا لم يكن هذا، فما معنى هذا الكلام الغريب الساذج؟ وهل إذا ترك الغزالي التدريس يكون ذلك مبررا لتركه الحياة واعتكافه؟
فإذا أعرضنا عن هذا ونظرنا أو صدقنا العلامة ماكدولاند في أن عزلته كانت سياسية، فإن الأسباب التي ذكرها لا تبرر اعتكاف الغزالي، بل إصراره على الاعتكاف طوال حياته.
إن اعتكاف الغزالي كان باعثه تلك المعركة المشبوبة بين إيمانه وشكه، وهي معركة لعبت في حياة الغزالي وتفكيره دورا خطيرا فاصلا.
شك الغزالي في كل علم درسه، شك في قيمة العلوم كما شك في مظاهر الحياة وأهدافها وغايتها، شك في كل ما يقع تحت الحس وفي كل ما يثبته العقل، شك حتى في تفكيره! ثم التمس الهداية عن طريق الحواس والعقل، ونشدها في كل أفق شاهد فيه الضياء والنور، أو خيل إليه أن فيه الضياء والنور.
ولنا أن نسأل هل شكوك الغزالي طارئة؟ وهل حقيقة أن الشك لم يظفر بقلبه إلا في المدرسة النظامية؟ وهل حقيقة أنه اعتزل الطعام والكلام لأنه وجد نيته في التدريس غير خالية من حب الشهرة والمجد؟
عراقته في الشك
إن نظرة إلى حياة الغزالي ترينا أنه عريق في الشك؛ فهو يحدثنا أنه كان في مطالعاته يخوض بحور العلم خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأنه كان يتوغل في كل مظلمة، ويتهجم على كل مشكلة، ويتفحص كل عقيدة، لا يميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا يغادر باطنيا إلا ويحب الاطلاع على مبادئه، ولا ظاهريا إلا ويريد الإحاطة بآرائه، ولا زنديقا إلا ويتجسس على ألوان زندقته، ولا متعبدا إلا ويجتهد في تفهم دوافع عبادته، كل ذلك منذ شبابه.
أليست هذه أكبر آيات الشك؟ وأليست هذه نذر عدم الإيمان أو الاطمئنان إلى مذهب من المذاهب أو لون من الألوان؟
وقد أخطأ كثير من مؤرخي الغزالي حينما ظنوا أن فترة الشك إنما ظفرت بقلبه وهو يدرس في المدرسة النظامية، وأنه قد وثب من الشك إلى التصوف وثبا، ويستدلون على هذا بأن كتب الغزالي التي كتبها قبل ذلك التاريخ قد خلت من جموح المتشكك، ووثبات عدم الإيمان.
ويقولون أيضا: إن عصر الغزالي كان من أكبر عهود الشك والتلون في التاريخ؛ فليس ثمة من تقاليد أو رهبة تمنع الغزالي من المجاهرة بشكه في مثل هذا المحيط، وهو الجريء المتوثب.
Halaman tidak diketahui