Hutan Kebenaran
غابة الحق
Genre-genre
وعندما وقعنا في اليأس من الخلاص صمتنا آخذين الصبر الذي هو سند المصابين عونا لنا. وأخذت الأباطح تسيل بأعناق المطايا التي كانت حاملة كثيرين من بني جنسي قنصا. ولم نزل نفري بطون السباسب والقفار حتى بلغنا الرستاق المصري. أما أنا فلم أعلم ذاتي بعد إلا مسلما بيد أحد تجار العبيد ومنادى على بيعي في سوق القاهرة؛ فاشتراني رجل من الأغنياء وأدخلني في داره للخدمة، وأما أخي فما كنت عالما ما تم به وكأنه صار نسيا منسيا، فجعل هذا الرجل يعاملني بأقسى المعاملات، وأخذت أطيعه الطاعة العمياء، ولكن لسوء حظي لم تكن طاعتي موجبة لراحتي؛ لأنني كلما كنت أزداد نشاطا وهمة في خدمته كان يزداد صرامة وقساوة، حتى إنه مرارا عديدة كان يربطني بالحبال ويجلدني بالسوط لأقل سبب، كعدم طيراني كالباشق حينما يدعوني، أو عدم إجرائي ما يكون في ضميره كالواجب، وطالما كان يقول لي: أما تعلم إرادتي؟ أما فهمت مزاجي؟ هذا وقد كنت في سن لا تسمح لي بعلم الضمائر الخاص بالله، ولا بفهم الأمزجة المنوط بالأطباء.
ولم أزل صابرا على هذا العذاب الأليم ومقاسيا صعوبات هذا المولى الظالم، حتى بلغت الثمانية عشر عاما وخرجت من مجزرته. وكان سبب خروجي أنه أرسلني ليلة ما لاستدعاء أحد جلسائه عنده فخرجت مسرعا لقضاء أمره، وكنت في أثناء طريقي أرفع نظري إلى الجو لأستعلم ابتداء هبوط الأمطار؛ لأن السماء قد كانت في تلك الليلة موشحة بالغيوم الكثيفة ومدلهمة على شكل مريع جدا، وكانت البروق تتلوى كالحية الرقطاء، وتنسحب من سحابة إلى أخرى مخترقة أعماق الفلك.
فما بلغت نصف الطريق حتى انفتحت ميازيب السماء، وانحل وكاء السحاب، وابتدأ يهبط برد عظيم كالحجارة؛ بحيث صرت أظن أن السماء شرعت ترجم الأرض، أو الضربة السابعة نهضت من كمين القدم. وكانت أصوات الرعود تزلزل أساسات المسكونة، وانتشاب الرياح ينسف الجبال نسفا؛ فأخذتني الدهشة والرعدة مما لم تتعوده عيني في تلك الديار لندرة حدوثه، فما كنت أشك حينئذ أن الخليقة جميعها تموج هلعا. ولما لم يعد يمكنني المسير خوفا من سحق حجارة البرد رأسي وتهشيمها عظامي، تواريت في إحدى الزوايا وصرت من جملة الخبايا.
وعندما انفطر كبد الغادية وأسفر البدر عن الأضواء لدى ساعة من هيجان الطبيعة، أطلقت أقدامي إلى تتميم الرسالة فلم أجد الرجل في بيته، فرجعت إلى سيدي وأخبرته بذلك فأزبد وأرغى واخرنطم وبرطم وحملق عينه الأتونية، وقال: لماذا تأخرت إلى هذا الوقت وتركتني أموت خوفا؟ - لأن هبوط المطر أدركني في نصف الطريق لذهابي. - ولماذا لم تعصه كما تعصيني وترتد حالا يا خبيث؟ - لأنه يكسر رأسي ويهشم عظامي، ومتى عصيتك يا مولاي؟ وكيف أرتد راجعا بدون تتميم أمرك؟! - إذن أنا لا أقدر على كسر رأسك وطحن عظامك أكثر من البرد، وهل جسدك الذي هو ملكي أفضل من إرادتي يا عبد السوء؟ ثم هجم إلى العصاء مكفهر الوجه والأعين وهو يردد هذا البيت البربري ماضغا ألفاظه:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
ووثب علي كالوحش الضاري، وصار يضربني ضربا عنيفا حتى إنه مزق جلدي وكاد ينثر لحمي وهو يقول لي بصوت أبج: هربت من غضب الله فأبشر بغضبي. وأخيرا قلت له: اتق الله يا ظالم، أي ذنب جرى مني يستحق هذا القصاص؟! فأجابني: أتعنفني يا أسود الوجه؟! اخس واخرس. ثم ذهب فأتى بمسد عازما على ربطي وتجديد الضرب، فلما رأيت حياتي وقعت في الخطر رفعت مهابته من قلبي وهجمت عليه غائبا عن الرشد والحس وواقعا في اليأس؛ فمسكت يديه بقبضتي ودفعته على الحائط دفعا شديدا، ورفست بطنه برجلي حتى كدت أخترط أمعاه، وقلت له: أقتلك أو تطلق سبيلي يا أسود الطبع. ولما أخذ يعاركني وهو في غليان الهيجان وإغراق الافتتان تناولت الحبل المعد لي وشددت به يديه ورجليه وألقيته موثقا بدون حراك. وإذ نظرت ذلك امرأته وأولاده أخذوا يصيحون ويضجون ليجمعوا الجيران؛ ففتحت الباب وطلبت الفرار وأبقيتهم في طغيانهم يعمهون.
وما زلت أركض هائما على وجهي حتى بلغت دسكرة فدخلتها وطلبت حجرة للنوم فأجيب طلبي، فتوغلت في هذه الحجرة وأغلقت الباب، ثم انطرحت على الفراش كالقتيل، ولم يكن ما يستنار به سوى سراج طفيف، ومن حيث إن أوجاعي وأفكاري كانت في غاية الثوران لم يمكن للغمض أن يمر بأجفاني، ولم يقدر الارتياح أن ينبث في عظامي. وبينما كنت أتأمل السراج الذي كان موضوعا نصب عيني وأنا مشمول بشمول السدر إذ رأيته يتراقص كفرائصي ويخفق كقلبي، وما لبث هكذا أن سلم روحه فاختطفتني موجة الظلام وابتلعني غمر الدجى وأطبقت البئر علي فاها، وما كنت أرى سوى ظلمة الموت، ولا أسمع سوى رمز الرياح المتلاطمة بين الأبنية؛ فصارت هوام الأوهام تتطاير في حرش مخيلتي تطاير الشرر المنتثر، وعادت غربان الوساوس تحوم على خربة رأسي من كل جهة حتى صرت أخال نفسي قائما في وسط جهنم.
ولم أبرح متقلبا على فراش القلق والأرق ضاربا في أودية الويل خابطا في لجج الليل إلى أن تبلجت كوة الحجرة بشعاع السحر؛ إذ علمت أن النجم قد غار على جواده الأدهم، والصبح قد أقبل على صهوة أشقر؛ فقفزت من مضجعي قفز الغزال المذعور، ووقفت في وسط المخدع لأجمع شوارد أفكاري وأنتخب منها ما يرشدني إلى سواء السبيل، وإذ أولجت يدي في جيبي على غير قصد إيفاء لما تطلبه بديهة الهجس فعثرت على بعض قطع الدراهم كانت مذخورة لمصروف بيت مولاي؛ فشملني الفرح للحال وقلت في نفسي: ها قد تسلمت زمام المستقبل. ففتحت المغلق وأطلقت عنان المسير، وإذ بلغت باب الدسكرة وجدت الرئيس مدلجا هناك فطلب مني أجرة المعرس، فأعطيته شيئا من الدراهم وواصلت الجري حتى أصبت الجسر، فما لبثت برهة أنتقد ذاتي أن رأيت ذهبية قاصدة الإسكندرية فركبتها وأخذت تفرط زرد الماء لدى مهب الهواء.
وبعد ثلاثة أيام بلغنا الإسكندرية فصعدت إلى البر وطلبت جانب المينا فصرت هناك عتالا، وبعد مضي خمسة أشهر خلعت أبهة العتالة وصرت ملاحا في إحدى المراكب العربية التي تشتغل في بحر الروم، ولكن بعد بضعة أشهر خطر لي أن أترك الملاحة وأدخل في إحدى المدارس التركية، وما ذاك إلا لأنني صرت أسمع شتيمة الجنس العربي واحتقاره من جميع الإفرنج الذين كانوا يصادفون مركبنا أو أحد ملاحيه، حتى إن أولادهم يظنون العرب هم نوع منقطع عن الجنس البشري، ولا يحسب إلا من جملة الحيوانات؛ لكثرة ما سمعوه من عبارات الازدراء والتحقير من آبائهم. فقلت في نفسي إن الجهل الفاشي في هذا الجنس أوجب انحطاط شأنه لدى هذه القبائل، ولو كان عنده مدارس كما عندهم ومساعدون على تقديم العلم ومحبة وطنية منزهة عن أغراض الدين لما أصبح أضحوكة عندهم، بل ربما يكون أرقى من جميع العالم علما لشدة حذقه الطبيعي وحزمه، ولا ينكر الغرب فضل العرب عليه. ولما تمكن من فكري خاطر الدخول إلى المدرسة بناء على أن كلا يعمل على شاكلته، تركت مركبنا وركبت بخاريا وقصدت الآستانة العلية دار السلام فوصلت إليها. وبعد قليل من وصولي طلبت الدخول في المدرسة العسكرية؛ ففتحت لي الأحضان وشرعت في الدراسة ناسيا كل ما جرى على رأسي.
Halaman tidak diketahui