Hutan Kebenaran
غابة الحق
Genre-genre
وأما الركن الخامس: الذي يشمل رفع أسباب التعدي: فهو يستوي على ثلاث قضايا فقط، وهي: حماية المتاع، وصيانة الاعتبار، ووقاية الأرواح.
الدعامة الثانية: تثقيف العقل
إنه إذا فحص الجوهر الإنساني من حيث فطرته الأولى وأصله الطبيعي، إنما يشاهد لامعا بكل الصفات الساذجة والخصال البسيطة حسبما يتبين ذلك من كل إنسان يتربى منفردا عن ازدحامات عالم المخالطة. ولما كان عظم لطافة هذا الجوهر وشدة احتياجه إلى وقاية نفسه سببا فعالا لقبوله التأثر بكل صورة تلوح له، والتخلق بكل سمة يحافظ بها على ذاته؛ كان انضمامه في سلك الجمعية إذ ذاك موجبا لانطباع صور الحوادث الاجتماعية والوقائع الأدبية على ستائر قلبه وتطبعه بأخلاق وطباع بها يمكنه أن يعارك ويزاحم أمواج العالم البشري تحت لواء حوادثه.
غير أن كثرة تقلبات الأحوال والأجيال تأدت به إلى أن يفقد كل أطوار تلك الفطرة الأولى، ويصير من أشر المخلوقات وأوحشها؛ ومن ثم لم يعد الإنسان قادرا على الدخول في دائرة التمدن الذي يطلب سذاجة الصفات وسلامة الطباع إلا إذا كان متزينا بتثقيف العقل الذي يعتبر كآلة عظيمة بها يمكن لكل من البشر أن يسترجع إلى طبيعته ما أفقدها التوحش.
ولا يتم هذا التثقيف إلا بالتروض في العلوم والفنون ودراسة المعارف الطبيعية والأدبية. ومن المعلوم أن العلم يخلق في الإنسان قلبا نقيا وروحا مستقيمة، ويجعله ظافرا بكل الصفات الصافية ونافرا عن كل ما يشين الجوهر الإنساني، ولا يترك له سبيلا إلى التفكر في الأمور الدنية والأميال المنحرفة؛ وهو الأمر الذي تشتق منه كل أفعال الشر، وعليه تبنى كل دعائم التوحش. فكيف يفكر الإنسان مثلا في دناءة السلوك عندما يكون الفلك طائرا به إلى أعالي الإجرام السماوية حيثما يرى ألوف ألوف وربوات ربوات من النجوم التي هي شموس هائلة الحجم، وكل منها جالس على عرش الفضاء ثابت في مركزه، وتدور حوله كواكب سيارة مختلفة الأبعاد والأشكال، وجميع ذلك له من السمو والعظمة ما يخبر بعظم أعمال الله. وكيف يأخذ بذهنه الهتك بالقريب بينما تكون الطبيعة هاتكة له أسرارها ومبدية لديه غوامضها؛ فإذا نظر إلى الأرض يراها تدعوه إلى تمييز تراكيب طبقاتها وتعديد مفردات عناصرها ومعرفة نسبة كل من موادها إلى غيره. وإذا تأمل في الحيوان يراه باسطا أنواعه لدى حكمه وطالبا منه فصل كل عن الآخر، وإذا لحظ النباتات يراها كأنها تدعوه إلى معاينة عجائب نموها وماهية جوهرها وكيفية تغذيتها وعملية إنتاجها وتأثير خاصياتها، وكأنها تكلفه إحصاء كل من أنواعها وتحديده تكليفا فوق وسعه.
وكيف يرتضي بعمل المنكرات حينما تكون الكيمياء مقدمة له مشكلاتها وطارحة عليه مسائل غوامضها، فما ينتهي من معرفة صفات عنصر منها وإدراك نسبة اتحاده بغيره وكيفية قوامه إلا ويبرز لديه عنصر آخر ويدعوه إلى تفنيده فيذهب خابطا في عباب المشكلات حيثما يقابله مولد الحوامض بإيقاده وإنارته، ويطارحه مولد الماء برشاقته ولهيبه، ويناقشه حامل الأنوار بلمعانه وإضاءته، ويدهشه الذهب بثباته، وتذهله الفضة بوضاءتها ونقاوتها، ويلطمه الحديد بكثافته وصدئه، ويحيره الزئبق بفراره ونفاره.
وكيف يسمح لأمياله أن تسرح في عالم الشرور والمعاصي حيثما تكون الجغرافية سارحة به على ظهر هذه الكرة الأرضية المملوءة من عجائب الخليقة وغرائب الحوادث. فتارة تطير به إلى قمم الجبال العالية فيرى ما بها من الأودية العميقة والسلاسل المستطيلة والينابيع الجارية؛ فيفكر فيما سبب المرتفعات وما أحدث المنخفضات وما جمع المياه. وأحيانا تمر به على السهول الواسعة والبحار الشاسعة والأنهار المتدفقة؛ فيقف متفكرا فيما جمد اليابسة وجمع السوائل إلى مكان واحد. وأوقاتا تسيح به في الأقاليم والأقطار فيستوقفه اختلاف العرض والطول في ميدان التأمل لتباين المناخات والأهوية، وطورا تترحل به إلى بلاد لا عدد لها وأماكن لا تحصى، وجميعها تختلف باختلاف المواقع والوقائع؛ فيقف متحيرا بما تحويه الأرض من الأمم والقبائل المختلفة بالمذاهب والمشارب والهيئات. ومندهشا لما يراه من أحوال البلدان والسياسات والشرائع، وممعنا فيما يعاينه من الصنائع المتنوعة الأشكال والتجارات المتشكلة الأحوال، وهكذا يطوف به هذا العلم إلى أقاصي العالم بدون أن يترك له سبيلا للجولان في عالم المآثم وهو جالس على وسادته غير مبارح صديقا ولا مفارق حبيبا.
وكيف لا يبدل الأعمال الرديئة بالصالحة عندما يكشف له التاريخ حجب الأجيال الغابرة ويطلعه على كثيرين من البشر الذين كانت أعمالهم سببا لأحوالهم إن رديئة فرديئة أو صالحة فصالحة. ويظهر له كثير من الناس الذين بواسطة سمو أفعالهم قد بلغوا أسمى المراتب وأعلى المنازل، وكم وكم من الناس الذين بواسطة دناءة أفعالهم قد هبطوا إلى الحضيض، لا بل يظهر له أن كثيرا من الممالك العظيمة القوة والراسخة الأركان قد أفضت بها قبائح السلوك إلى الاضمحلال والملاشاة، وكثيرا من الولايات الصغيرة قد آلت بها قوة الأطوار الحميدة إلى الاتساع والامتداد ورفعتها إلى سماء المجد والكرامة، وخاصة يظهر له أن أفعال الخشونة والتوحش ليس كانت تبدد الممالك وتستأصل الملوك فقط، بل كانت أيضا تشتت العباد وتهدم البلاد مهما كانت حصينة وغنية. أفلا يشعر بحركة غامضة في أعماق قلبه تدعوه إلى احتقار العظمات الإنسانية والفخفخات
1
الكاذبة وتجذبه إلى الاتصاف بالصفات السليمة والتخلق بالأخلاق الحميدة؛ وذلك حينما تمتطي تأملاته السرية خيول التاريخ، وتجري في برية سوريا مثلا حيثما يشاهد أن عظمة ذلك الإقليم القديم العهد والكريم التربة والأصل قد استحالت بفعل الأجيال الخشنة إلى دمار مهول؛ حيث لا يرى سوى خرابات تلقي الكآبة على الأبصار، وعدد قليل من الشعوب المفتقرة بدل تلك العظمات السابقة والمجد الزاهر والغنى الوافر.
Halaman tidak diketahui