Hutan Kebenaran
غابة الحق
Genre-genre
وإذ رأى الفيلسوف أن بواعث المناقشة صارت تحول بينه وبين الخواطر، نهض مخليا لهما ساعة المناجاة وسار قاصدا جهة قائد جيش التمدن الذي كان يتخطر على مسافة، ولما دنا منه وتلاطمت النظرات تبادلا مصافحة الأكف وسلما على بعضهما، ثم جلسا معا على جذع شجرة عظيمة قد أضجعها الزمان.
ولما مكن الفيلسوف نظره من القائد وجد عينيه متقدتين بلهيب الغضب، ووجهه مبرقعا بسحابة الغيظ، وأثوابه مضمخة بالدماء، علم أن هذه الظواهر ناجمة عن مواقع الحروب؛ فأخذ يطيب خاطره بعبارات لطيفة، ويبشره باقتطاف ثمرة مشروعه قائلا: ما لي أرى دخان الهيجاء يتصاعد إلى الآن من منخريك يا أيها القائد الشجاع؟
ولماذا يتناثر شرر السخط من عينيك؟ ولم لم تلق عن وجهك لثام الكمود وأنت الظافر بالعدو والقاهر صفوف المردة والمنادي في مرسح الكفاح: ها أنا الغالب؟ هل الغضب لا يرحل بعد حلول الانتقام؟ وهل الانتقام لا يروي لدى فيضان نهر الانتصار؟ وكيف لا يتبسم الانتصار عندما يظهر إكليل الغار؟ رحب سعة صدرك؛ فقد أنزلت بالأعداء نكبات الضيق. شد حقويك بالقوة فقد ضعفت عزائم الأخصام، أنقذ أطوار وجهك من أسر الغيظ فقد سقطت دولة العبودية، كيف يزأر الأسد والفريسة ترتعد بين يديه؟ كيف يعتكر البحر والرياح قد سكنت أمامه؟ كيف يدلهم الصباح والليل يتمزق إزاء وجهه؟
نعم قد بذرت الحروب ولكن حصدت السلامة، نعم قد غرست القتال ولكن جنيت الظفر، نعم قد أمت العبودية ولكن أحييت الحرية، نعم قد قيدت البربرية ولكن أطلقت التمدن، فاحكم بما شئت واقض ما أنت قاض، فأجابه القائد مبتسما وكأنه دخل في خلق جديد: إن دوام لوائح الغضب والكآبة على وجهي إلى الآن ليس مسببا عن تلك الحروب والمواقع التي ملكنا بها الغلبة والنصر، والتي تستدعي ظهور لوائح الفرح والابتهاج، بل عن سبب مهم جدا. أجاب الفيلسوف: وما هذا السبب؟ - هو اعتماد الحضرة الملوكية على إرجاع العصاة إلى أوطانهم ومملكتهم. - نعم، قد بلغني ذلك، ولكن على شروط كثيرة منها إرفاقهم بجماعة من طرف دولتكم كنظار على كل أحوالهم وأحكامهم، ومنها إلزامهم باتباع شرائع التمدن وقوانينه. - إن أولئك القوم هم محتالون منافقون، وليس لهم ذمم ولا عهود تربطهم، يقولون ما لا يفعلون وفي كل واد يهيمون أما تعلم أنه لا يوجد لجماعة الخشونة والبربرية ميثاق سوى الكذب، ولا شريعة غير الاحتيال والمكر، ولا حكم عدا التعدي والظلم، ولا حاكم خلاف الرشوة؟ ومن أصعب الأمور إخضاعهم بدون تبديد شملهم وهتكهم عن آخرهم. - نعم، كل ذلك هو أكيد ولا ريب فيه، ولكن متى شاعت بينهم شرائع التمدن وطفقوا يتعلمونها من نعومة أظفارهم، وقامت عليهم نظار ومساعدون من طرفكم، لا يعودون لابثين على تلك الخصال التي ذكرتها ويصيرون بعد قليل من الزمان طبق المراد. - نعم، ربما يتم ذلك ولكن بعد ألف عام. ولماذا كل هذه المدة؟ لأنهم شعب مجموع من كل قبيلة وملة تحت السماء؛ فكل حزب منهم يبغض الآخر ويجتهد في خرابه ودثاره بناء على أن المحبة لا تقوم في اختلاف الأجناس، ومتى بطلت المحبة زال التمدن؛ لأنها الأساس الأول له، ومتى زال التمدن تمزقت أحشاء الوطن وخفقت سناجق العبودية، فلا يمكن رفع كل هذه الصعوبات ما لم يمر زمان طويل جدا. إنه ولئن كانت كل هذه المبادئ صحيحة فقد لا يمتنع نهوض التمدن في وسطها؛ لأن قوة انتشاره تغلب كل تلك الصعوبات كما جرى ذلك في أقوام كثيرين مختلفي الأصل والفصل، أظن أنه بدون قوة المعجزات لا يقوم انتشار التمدن بين هذه القبائل. وإذا كان جرى ذلك ما بين أقوام متعددين مختلفين أصلا وفصلا، فهم قد كانوا متفقين ميلا ورأيا. لا يجب عمل المعجزات هنا ولا الآيات؛ إذن بأي قوة ينتشر التمدن؟ بقوة دعائمه المرتكزة على قلب الإنسان طبعا قبل انحرافه إلى الفساد. - كم دعامة يوجد للتمدن؟ - خمس دعائم. - هل يمكنك تعديدها لأنني أفتكر أنه يوجد أكثر من ذلك؟ - نعم، يوجد ولكن ينحصر الكل في تلك الخمس. - فاشرح إذن لي ذلك.
الفصل الخامس
التمدن
قال الفيلسوف: إن التمدن في اللغة: الدخول في المدينة، وفي الاصطلاح: ناموس يرشد الإنسان إلى تجويد أحواله الطبيعية والأدبية، وهذا الناموس يبنى على خمس دعائم، وهي أولا: تهذيب السياسة، ثانيا: تثقيف العقل، ثالثا: تحسين العادات والأخلاق، رابعا: إصلاح المدينة، خامسا: المحبة.
الدعامة الأولى: تهذيب السياسة
إنه لما كان نظام العالم الإنساني لا يمكن قيامه محفوظا من كل خلل إلا بسياسته، كانت هذه الشريعة تقتضي تمام الالتفات إلى تهذيبها وتحسينها لكونها محورا يدور عليه عالم كبير يستحق كل الالتفات إلى نظامه، ولا يوجد لهذا التهذيب أساس آخر سوى توطيد الحق وتحسين الهيئة؛ لأنهما المركز الأول الذي يتوقف عليه مدار السياسة العامة. ومتى طرأ على الأساس خلل ما لحق ذلك الخلل بكل ما بني عليه، ولا يمكن استمرار ذلك الأساس وطيدا إلا تحت جملة أحوال وهي:
أولا:
Halaman tidak diketahui