ومع أن الملكة سرت لأن حبيبها قد تخلص نهائيا من أسر الزواج، إلا أن القلق أخذ يتناوبها من جراء الإشاعات التي انتشرت بعد مقتل آمي روبزارت؛ ولذا لم يسعها إلا أن ترسل في استدعاء السفراء الأجانب، وأعلنت لهم في ابتسام أنها لم تعد تفكر بالمرة في الزواج من رجل إنجليزي، ولكنها تنوي أن تختار زوجا من الأمراء الأجانب حتى يصير ملكا أو نائب ملك! ولكن لم يصدق أي واحد من السفراء كلامها، وعرفوا جميعا ما وراءه من خداع، وكتبوا إلى حكوماتهم يقولون: إن أخبار زواج الملكة من روبرت ددلي ستعلن بعد وقت قصير!
وأخذ النفعيون وعباد المصالح الشخصية يتصلون بروبرت ددلي؛ نظرا لنفوذه، وأخذ يتلقى رسائل العزاء المتتابعة في وفاة زوجته، وكان بينها رسالة مؤثرة من السفير الإنجليزي في باريز، الذي أرسل في نفس الوقت إلى السياسي سيسيل رسالة أخرى يلح عليه فيها أن يمنع زواج الملكة ب «ددلي»، وقال في خطابه: «إنه لو تم الزواج لقلت الثقة في حكمنا، وزال نفوذنا، ورحنا ضحية.» ولم يكتف بذلك، بل كتب خطابا آخر إلى صديقه السفير الإنجليزي بإسبانيا يقول فيه: «إنه إذا كانت إنجلترا تعتقد أن عنق آمي روبزارت قد دق صدفة، وأنها ماتت ميتة طبيعية، فإن فرنسا تعتقد أن آمي روبزارت قد ماتت قتيلة في سبيل الملكة.» ولكنه مع ذلك لم يذكر في خطابه ما كان يتناقله الناس في البلاط الفرنسي بلهجة التأكيد؛ وهو أن الملكة قد تزوجت سرا من اللورد روبرت ددلي عقب وفاة آمي روبزارت.
وقد حدث إذ ذاك أن قابل السير هنري سيدني، وهو شقيق آمي روبزارت، السفير الإسباني كودرا، وأخبره في حديث خاص أنه تأكد تماما أن شقيقته آمي قد ماتت ميتة طبيعية، وأن الملكة واللورد روبرت قد أصبحا الآن محبين يرغبان في زواج شرعي أمين، وأعلن له أنه حقق المسألة كلها بنفسه، وأحاط بظروف وفاة اللادي روبرت، فتأكد أنها ماتت بتأثير سقوطها من أعلى السلم.
وقد رد كودرا، السفير الإسباني، على ذلك بقوله: إن كل ذلك قد يكون صحيحا، على أن اللورد روبرت سيجد صعوبة عظيمة حتى يحمل الناس على تصديق ذلك، وأن آمي روبزارت لو كانت ماتت مقتولة حقا فلا شك أن الله سينزل عقابا رادعا بمدبري الجريمة. وهنا تحول السير هنري سيدني عن موضوع الحديث بحماقة غريبة، فصارح السفير الإسباني بأن الملكة إليزابيث على استعداد لأن تعيد نشر المذهب الكاثوليكي في إنجلترا لو أن ملك إسبانيا يساعدها على تحقيق رغبتها في الزواج من روبرت ددلي.
وتقدم روبرت ددلي نفسه إلى السفير الإسباني بنفس هذا العرض، وكان ذلك بعد أربعة شهور فقط من وفاة زوجته. وبعد يومين، استدعت الملكة السفير الإسباني إليها، وبدأت حديثها معه بقولها: إنها على الرغم من معرفتها لما يتميز به اللورد روبرت من الصفات الجليلة والفضائل، إلا أنها لم تقرر بعد الزواج منه أو من أي رجل آخر، ولكنها مع ذلك تشعر كل يوم بحاجتها إلى زوج مخلص يعاونها في أداء مهمتها الكبرى، وهي تظن أن شعبها يفضل أن تتزوج مليكته من رجل إنجليزي، على الرغم من أن عروض الزواج من أجانب كانت عديدة أمام أنظارها.
ووجد السفير الإسباني الفرصة سانحة لكي تستفيد إسبانيا من رغبة الملكة في الزواج لإعادة المذهب الكاثوليكي إلى إنجلترا، فانتهز خلوته مع الملكة وعشيقها وقال لها: إنه يستغرب لماذا لا تنزع جلالتها عن نفسها نير من يعترض طريقها، وتعيد الدين الحنيف إلى البلاد، وتتزوج بعد ذلك بمن تريد ويشتهي قلبها.
ولكن لم ينفذ شيء من هذه النصيحة، واستمرت الملكة على غرامها بروبرت، وبعد أن كان روبرت يعيش في القصر في غرف بعيدة جدا عن غرفها، أمرته في يوم من الأيام أن ينتقل إلى غرف تقع فوق غرفها تماما؛ بحجة أن غرفه غير صحية، والحقيقة أنها كانت تريده على مقربة منها.
شهوة الانتقام
وتتابعت الأسابيع والشهور والأعوام، وأخذت النعم تنهال من جانب الملكة على لورد ليستر، ولكنها مع ذلك لم تتزوج منه لكي تصل به إلى مركز يقارب مركز الملك الشرعي، ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يزداد في طغيانه، ومع أنه كان مسرورا بنفوذه العظيم وجاهه، إلا أنه كان يرغب في الانتقام من كل من يظن أنه قد سبب له الأذى في الماضي أو ناصبه العداء.
وأخذ ينقب عن أشخاص ينتقم منهم حتى أنزل الرعب بقلوب من بالقصر، ولم يكن أحدهم يجرؤ على انتقاد تصرفاته جهرا، ولكنهم كانوا يمعنون في نقده إذا كان غائبا عن مجلسهم، حتى قال أحد القضاة الإنجليز إذ ذاك: «لو أنني أمرت بسجن كل من يتحدث بشر عن لورد ليستر؛ لوجب أن يكون عدد سجون إنجلترا موازيا لعدد المنازل المعدة للسكنى.»
Halaman tidak diketahui