ونحن في الهند نعرف أن مائة ألف إنجليزي لن يستطيعوا أن يخيفوا ثلثمائة مليون هندي. فالغفران هنا لا يعني الضعف بل هو اعتراف بقوتنا، ولا بد أن سيرافق هذا الغفران تيار عظيم من القوة نشعر به وكأنه يطموا بنا ويحول دون رجل مثل «داير» أو «فرانك جونسون» حين يبغيان هواننا ووصم جباهنا بالعار. وليس يهمني كثيرا الآن أن أقيم الأدلة على هذه النقطة. ولكنني أرى ألا أحجم عن القول بأن الهند تكسب أكثر لو أنها نزلت عن حقها في العقاب، وخير لنا أن نخلص العالم بهذا النوع الجديد من البر.
ولست خياليا في هذا القول، لأني أدعي أني أنشد المثل الأعلى بطريقة عملية. فإن ديانة المسالمة ليست مقصورة على القديسين، وإنما هي لعامة الأمة. وذلك أن المسالمة سنة البشر كما أن العنف سنة الوحوش التي يخمد روحها فلا تعرف سوى القوة الجسمية، أما الإنسان فإن كرامته الإنسانية تجعله يطيع سنة أخرى هي القوة الروحية.
وعلى ذلك تجرأت ووضعت أمام الهند ناموسها القديم، أي التضحية بالنفس. لأن «صطياجراه» أي «قوة النفس» التي تقول بها ديانتنا وما يتفرع منها من «عدم التعاون» و«العصيان المدني» ليست كلها شيئا سوى أسماء أخرى لناموس الألم. وأولئك الهنود الذين اكتشفوا ناموس المسالمة في وسط العنف كانوا أعظم في العقوبة من «نيوتن». وكانوا في الحرب أعظم من «ولنجنون» فقد كانوا يعرفون أساليب القتال، ولكنهم كفوا عنه، علموا العالم المتعب أن خلاصه لن يكون بالعنف وإنما يكون بالكف عن العنف.
والمسالمة تعني في شكلها الإيجابي آلاما محسوسة، وليست تعني الخضوع في وداعة لإرادة الأشرار. إنها تعني أن نجند النفس ضد إرادة الظالم، فإذا سرنا على هذا الناموس أمكن الفرد وحده أن يتحدى سلطان الإمبراطورية الظالمة لكي يزكي شرفه وديانته ونفسه ويضع الأساس لهدم هذه الإمبراطورية أو لبنائها من جديد.
وعلى هذا لست أدعو الهند إلى الكف عن العنف لأنها ضعيفة. وإنما أرغب إليها في أن تسير في خطة المسالمة. وهي ليست في حاجة إلى التدريب الحربي لكي تعرف هذه القوة. وعندنا من يظن أننا في حاجة إلى هذه القوة لأنه يعتقد أننا أجسام من اللحم فقط. ولكني أرغب إلى الهندي في أن يعرف أن له نفسا وأن هذه النفس لن تهلك، وأنها تستطيع أن ترتفع فوق الضعف الجسمي، بل تستطيع أن تتحدى القوة المادية في العالم كله.
وإني مع ذلك رجل عملي، ولست أنتظر حتى تعرف الهند فائدة الحياة الروحية في العالم السياسي. فإنها ترى نفسها الآن ضعيفة مشلولة أمام مدافع الإنجليز ودباباتهم. وهي تنتزع خطة المسالمة من هذا الضعف. وهي على الرغم من ذلك تحقق الغاية المرجوة، غاية الخلاص من وقر المظالم الإنجليزية، إذا مارس هذه الخطة عدد كاف من الأمة.
وهذه الخطة تختلف عن خطة «شن فين» الأرلندية من حيث إنه لا يمكن أن يرافقها عنف. وإني أدعو حتى القائلين بالعنف أن يجربوا هذه الخطة التي لن تفشل لضعف أساسها وإنما تفشل لضعف الاستجابة لها. وهنا يبدو الخطر، لأن الرجل السامي الذي لا يطيق هوان الوطن، يغضب، ويحتدم، ويحتاج إلى التنفيس، فيعمد إلى العنف. وهو عندئذ يهلك دون أن يخلص نفسه أو بلاده من المظالم. وإذا آمنت الهند بمذهب السيف فإن ظفرها لن يكون مقيما دائما، ولن أستطيع عندئذ أن أفخر بها، لأني أعتقد أن للهند مهمة خاصة في العالم، وليس عليها أن تحاكي أوروبا وتنقل عنها نقلا أعمى. وحين تعتنق الهند مذهب السيف تكون محنتي، ولن أضعف عندئذ، ولكني أقول إنه ليس لديانتي حدود جغرافية وإيماني الحي بهذه الديانة يتجاوز حدود الهند. فلقد أرصدت حياتي لخدمة الهند عن طريق الكف عن العنف، وهي طريق أرى أنها أساس الديانة الهندوكية.
الفصل الخامس والعشرون
الخوف من الموت
كنت قد أخذت أخيرا في جمع نعوت مختلفة للاستقلال، فمن هذه النعوت أن الاستقلال هو ترك الخوف من الموت، لأن الأمة التي تجيز لنفسها أن تتأثر من الخوف من الموت لن تنال استقلالها. وهي لو نالته لما استطاعت القيام عليه والاحتفاظ به.
Halaman tidak diketahui