خفق قلبها الصغير حين طرقت بابه، كانت سعيدة لأنها ستحصل على صورة ملونة، لكنها كانت تعرف أن الصورة وحدها ليست سبب سعادتها. كانت تريد أن ترى غرفته من الداخل تريد أن ترى شكل دولابه، وشكل سريره، وشكل شبشبه، وكانت تريد أن تمسك كتبه وأوراقه وصوره، وأن تلمس بيدها كل أشيائه.
وفتح الباب، ودخلت وهي تلهث، وقفت بجوار الحائط تنتفض كدجاجة نتف ريشها في البرد، وقال لها شيئا فاختنق صوتها ولم ترد، واقترب منها، ورأت عينيه الزرقاوين تقتربان منها، وشعرت بخوف، كان شكل وجهه عن قرب غريبا، وفي عينيه نظرة صارمة كعيني قط هائج، وشدها إليه بذراعيه الطويلتين فصرخت، كانت تظن أنه سيذبحها أو سيخنقها، وصفعها على وجهها قائلا: لا تصرخي! لكنها ذعرت أكثر وصرخت أكثر، وبينما هي تحاول أن تفلت من بين ذراعيه سمعت طرقا شديدا على الباب وتركها تفتح الباب، وكادت تسقط على الأرض؛ فقد رأت أمها بلحمها ودمها واقفة في وسط الغرفة.
وفتحت عينيها فوجدت نفسها راقدة فوق السرير تنتفض من البرد، وكان الظلام شديدا، والنافذة مفتوحة، وخيل إليها أن شبحا ما يتحرك خلف النافذة فارتعدت، لكنها عرفت أنها شجرة الكافور تهتز مع دفعات الهواء، ونهضت وأغلقت النافذة، ثم عادت إلى السرير ودخلت تحت الغطاء الصوفي، وخيل إليها أنها تسمع أنفاسا في الحجرة غير أنفاسها، فأخرجت رأسها من تحت الغطاء ونظرت بحذر في الغرفة، ووقعت عيناها على شبح طويل واقف بجوار الدولاب وكادت تصرخ، لكنها عرفت أنه ليس إلا الشماعة ومن فوقها معطفها، وأغمضت عينيها لتنام، ولكنها أحست بحركة وكأنها تأتي من تحت السرير، ورغبت في أن تمد يدها وتضيء النور؛ لكنها خشيت أن تخرج يدها من تحت الغطاء فينقض عليها الشبح القابع تحت السرير وظلت متكورة تحت الغطاء، مفتوحة العينين، حتى سرى النوم في جسمها ساخنا كالدم. •••
كانت أشعة الشمس تدخل من شقوق الشيش حين استيقظت فؤادة، وظلت في الفراش متكورة تحت الغطاء تتمنى بينها وبين نفسها لو أنها بقيت في الفراش إلى الأبد، لكنها نهضت وجرت جسمها الثقيل وسارت إلى المرآة. كان وجهها شاحبا، أكثر طولا مما كان، وعيناها أكثر اتساعا، وشفتاها الشاحبتان بينهما تلك الفرجة التي زادت اتساعا، وبدت تحتها أسنانها أكثر بروزا، وأمعنت النظر لحظة في عينيها كأنما تبحث عن شيء، ثم زمت شفتيها في امتعاض وسارت إلى الحمام، غسلت جسمها بالماء الساخن وشعرت بانتعاش، فابتسمت لنفسها ابتسامة صغيرة وهي تتطلع إلى جسمها في المرآة؛ كانت طويلة ممشوقة وفردت ذراعيها وساقيها وهي تشعر بقوة كامنة في عضلاتها، قوة لم تستنفد في شيء، قوة حبيسة لا تعرف كيف تفرج عنها. وارتدت ملابسها وخرجت إلى الشارع؛ كان الهواء باردا منعشا والشمس ساطعة دافئة وكل شيء يبرق ويهتز في انتعاش، وسارت تحرك ذراعيها بقوة في الهواء، إنها تشعر بقوة، إن في أعماقها طاقة كبيرة، إنها تستقبل يوما جديدا بكل حماس، ولكن إلى أين هي ذاهبة؟ إلى ذلك القبر الآسن الذي تفوح منه رائحة دورة المياه، إلى ذلك المكتب الأجرب الذي تجلس عليه ست ساعات دون أن تفعل شيئا، أتبدد هذه القوة وهذا الحماس في لا شيء؟
ورأت حصانا يجر عربة، كان يضرب الأرض بأقدامه في قوة ونشاط، وراحت تتأمل الحصان وكأنها تحسده؛ إنه يستنفد قوته في جر العربة، إنه يفرج عن طاقته، إنه يحرك أقدامه في سعادة، لو كانت حصانا لكانت الآن مثله، تجر عربتها، وتطرقع فوق الأرض بحوافرها منطلقة سعيدة.
وجاء الأتوبيس 613، ووقفت جامدة تنظر إليه بغير حراك كحصان جامح، لا؛ إنها لن تذهب إلى الوزارة، إنها لن تبدد ساعات النهار في لا شيء، لن تبدد عمرها في التوقيع في دفتر الحضور والانصراف؛ من أجل ماذا؟ تلك الجنيهات القليلة التي تأخذها كل شهر، أتبيع عمرها من أجل بضعة جنيهات؟ أتدفن ذكاءها في تلك الحجرة المغلقة ذات الهواء الفاسد؟ نعم؛ إنه الهواء الفاسد الذي يبدد نشاطها، إنه الهواء الفاسد الذي يعطل أفكارها ويقتلها قبل أن تنطلق، كثيرا ما خطرت لها أفكار، وكثيرا ما طرأت لها فكرة البحث، وكثيرا ما اقتربت من الاكتشاف، ولكن كل شيء كان يضيع في تلك الحجرة المغلقة الأبواب والنوافذ ذات المكاتب الكالحة الخاوية والرءوس الثلاثة المحنطة.
وجاء الأتوبيس رقم 613 مرة أخرى، وكادت تتحرك لتركب لكنها بقيت في مكانها تنظر إليه بعينين ثابتتين. كل يوم تمر بهذه اللحظة دون أن تنتصر عليها، لو أنها استطاعت اليوم فسوف تستطيع كل يوم، إنها مرة واحدة تنتصر فيها، مرة واحدة تقطع فيها تلك العادة القبيحة.
وتلكأ الأتوبيس، لكنها ثبتت قدميها في الأرض ورفعت رأسها إلى السماء سيمضي الأتوبيس بعد لحظة دون أن يحملها معه وينتهي كل شيء، والسماء ستظل كما هي عالية وزرقاء وصامتة، ولن يحدث شيء. نعم؛ لن يحدث أي شيء.
تنفست بعمق وهي تقول بصوت مسموع: لن يحدث أي شيء، ووضعت يديها في جيبي المعطف وسارت تدندن بلحن قديم، وتنظر إلى ما حولها في دهشة وفرحة، كسجين خرج لأول مرة إلى الشارع بعد سنين طويلة قضاها في السجن، ورأت بائع الجرائد فاشترت جريدة ومرت بعينها على عناوين الصفحة الأولى ثم مصمصت شفتيها، كانت هي العناوين العريضة الطويلة التي تراها كل يوم، والوجوه هي الوجوه، والأسماء هي الأسماء، ونظرت إلى التاريخ في أعلى الصفحة وقد خيل إليها أنها تمسك جريدة أمس أو الأسبوع الماضي أو السنة الماضية، وقلبت الصفحات وهي تبحث بعينيها عن موضوع جديد، أو وجه جديد، ووصلت إلى الصفحة الأخيرة دون أن يلفت نظرها شيء، فطوت الجريدة ووضعتها تحت إبطها، لكنها تذكرت أنها رأت عينين جاحظتين في صورة من الصور، وخيل إليها أنهما تشبهان عيني الساعاتي، وفتحت الجريدة مرة أخرى، ولدهشتها الشديدة وقعت عيناها على صورة الساعاتي نفسه وقرأت اسمه تحت الصورة: محمد الساعاتي رئيس الهيئة العليا للإنشاءات والمباني، وتحرك أصبعها بغير وعي وتحسست العينين، خيل إليها أنهما بارزتان من الورق، لكن الورقة كانت ناعمة ملساء بغير بروز.
وقرأت السطور تحت الصورة؛ كانت تصف اجتماعا عقده الساعاتي لعمال الهيئة في كلام كثير تبين لها أنها قرأته من قبل عدة مرات، وأنها قرأت اسم الساعاتي عدة مرات، ورأت صورته عدة مرات، وعجبت فؤادة كيف لم تربط بين هذا كله وبين الساعاتي صاحب العمارة الذي تعرفه، لكنها لم تتصور أبدا أن يكون ذلك الساعاتي موضوعا يمكن أن يذكر في الصحف، وأعادت النظر إلى الصورة والاسم ثم طوت الصحيفة ووضعتها تحت إبطها.
Halaman tidak diketahui