لم تكن فكرت من قبل في علاقتها بفريد، كانت تعيشها فحسب، لم يكن هناك متسع للاثنين معا، أن تعيشها وأن تفكر فيها، وكان فريد مشغولا دائما، يقضي الساعات مع كتبه وأوراقه، قد يقرأ، وقد يكتب أشياء يضعها بعناية في درج المكتب، ويغلق الدرج بالمفتاح، وكان يخرج عصر كل يوم ويتأخر ليلا، وقد يقضي بعض الليالي خارج البيت، ولم تكن تسأله أين يذهب، لم تحب أن تقوم بدور الزوجة المستجوبة، بل لم تحب أن تقوم بدور الزوجة على الإطلاق، كانت تعشق حريتها، وتعشق حجرتها الخاصة وسريرها الخاص، وأسرارها الخاصة وأخطاءها الخاصة، لم تكن لها أخطاء بمعنى الأخطاء، ولكنها كانت تحب أن تختفي أحيانا فلا يعرف فريد طريقها، وكانت تطرب لكلمات الإعجاب حين تسمعها من فم رجل، طربا لذيذا خاليا من الدهشة؛ فقد كانت على يقين من أن فيها شيئا ما يستحق الإعجاب، لكن فريد كان محور حياتها، كانت تبتلع أيامها كجرعة من زيت الخروع، ثم يهل يوم الثلاثاء بإشراقته العجيبة؛ الثلاثاء هو موعدها مع فريد، كل ثلاثاء في الثامنة مساء في ذلك المطعم الصغير إذا كان الجو دافئا، أو في بيته في ليالي الشتاء القارصة، كم شتاء مر على علاقتهما؟ إنها لا تعرف تماما، ولكنها تعلم أنها تعرف فريد منذ زمن بعيد، وربما بعيد جدا.
كم شتاء مر، وكم ثلاثاء مر، وفي كل ثلاثاء يأتي فريد، لم يخلف الموعد مرة واحدة، ولم يكذب مرة واحدة، ربما أخفى عنها أشياء، لكنه لم يكذب، حتى حينما جاءت سيرة الزواج من حيث لا يدريان قال لها وهو ينظر إليها بعينيه البنيتين اللامعتين: لن أستطيع الزواج فترة من الزمن، لو قالها أي رجل آخر فربما أحست بشك فيه، أو بطعنة في كرامتها، لكن فريد كان مختلفا وكان كل شيء معه يصبح مختلفا. حتى الكلمات تفقد معناها التقليدي المعروف، والأسماء قد تبدو فجأة وكأنها لا تنطبق على الأشياء التي سميت بها، أو تبدو فارغة المعنى بغير محتوى. كلمة كرامة مثلا، ماذا تعني كلمة كرامة؟ أن يحافظ الإنسان على عزة نفسه؟ ضد من؟ ضد الآخرين؟ نعم؛ لا بد أن يكون هناك آخرون ليدافع الشخص عن عزة نفسه ضدهم.
ولكن لم يكن بينها وبين فريد شيء اسمه آخرون، أو شيء اسمه نفسها ضد نفسه، كانا يتبادلان كل شيء في الحب حتى نفسيهما، فتصبح هي نفسه ويصبح هو نفسها، ويدافع هو عن حقوقها، وتتولى هي الدفاع عن حقوقه، كان شيئا غريبا ذلك الذي يحدث بينهما، ولكنه كان يحدث بسهولة، ومن تلقاء نفسه، كهواء يدخل الأنف، لقد كان شيئا طبيعيا جدا.
وسمعت صوت قدمي أمها تزحفان في الصالة، في اتجاه حجرتها، فنهضت بسرعة وبدأت تتحرك في الغرفة؛ إنها لا تحب أن تدخل حجرتها فتراها ساهمة تحملق في الفضاء كالمعتوهين، ورأت أمها وهي تقف على عتبة الباب بطرحتها البيضاء وجلبابها الطويل وتقول لها بصوتها الضعيف المبحوح: أراك بملابس الخروج، هل ستخرجين؟ وردت عليها بغير تفكير سابق في الخروج: نعم. وقالت أمها: والغداء؟ وأمسكت فؤادة حقيبة يدها استعدادا للخروج وهي تقول: لا أشعر بجوع.
لم تكن فؤادة تعرف لماذا خرجت، كانت تريد ألا تبقى في البيت، كانت تريد أن تتحرك، وأن ترى حركة من حولها، وأن تسمع صخبا عاليا، يعلو على ذلك الجرس الذي يرن في أذنيها بإصرار واستمرار لا ينقطع، وخرجت من شارع بيتها، وانحرفت إلى اليمين لتسير بحذاء السور الحجري لمشتل الزهور، ورأت زهرات الياسمين البيضاء تلمع كقروش من الفضة في ضوء الشمس الساطع، وامتدت يدها بحكم العادة وقطفت واحدة، دعكتها بين أصابعها، وامتلأ أنفها برائحة الياسمين فشعرت بالكتلة الثقيلة تتحرك في قلبها، رائحة الياسمين كان لها معنى لقائها مع فريد، وكان لها ملمس قبلاته فوق عنقها، ولكنها الآن تعني غيابه، وهي برائحتها القوية تركز هذا الغياب فيرسب في أعماقها إحساسا واقعيا كئيبا، وكان كالوهم، أو كالحلم الذي سينتهي حتما حين تصحو من النوم.
وتركت زهرة الياسمين البالية تسقط من بين أصابعها، وسارت في الشارع الضيق الصغير ثم خرجت منه إلى شارع النيل، وعرفت فجأة أنها لم تخرج من البيت بغير سبب، أو لمجرد الحركة، كان لها هدف محدد تريد أن تبلغه، وسارت بضع خطوات قليلة فوجدت نفسها أمام باب المطعم الصغير.
ترددت لحظة وهي تدخل، لكنها دخلت، واجتازت الممر الطويل وسط الشجر، وبدأ قلبها يدق، فقد تصورت أنها ستخرج من هذا الممر لترى «فريد» جالسا إلى المائدة ذات المفرش الأبيض، ظهره ناحيتها ووجهه ناحية النيل، كتفاه مائلتان إلى الأمام قليلا، وأذناه الصغيرتان محتقنتان بالدم، وشعره الأسود يهبط في غزارة خلف أذنيه، وأصابعه الطويلة الرفيعة فوق المائدة تلعب بقصاصة ورق، أو تقلب في النوتة الصغيرة التي يحتفظ بها دائما، أو تفعل أي شيء آخر، ولكنها لا تبقى ساكنة أبدا.
نعم، ستخرج من الممر فتراه جالسا هكذا، وسوف تمشي على أطراف أصابعها حتى تقف خلفه، وتمد ذراعيها حول رأسه وتغطي عينيه بيديها، وسوف يضحك ويمسك يدها بقوة، ويقبلها أصبعا أصبعا.
ودق قلبها بعنف حين وصلت إلى نهاية الممر، وانحرفت إلى اليسار خطوة لتخرج منه، ورفعت رأسها نحو المائدة، فغاصت جلطة الدم في قلبها؛ كانت المائدة خالية، عارية بغير مفرش أبيض، واقتربت منها وتحسست ظهرها وكأنها ستعثر على شيء نسيه فريد، على ورقة صغيرة تركها لها، لكن أصابعها لم تلمس إلا ظهر المائدة الخشن المتعرج، يضربه الهواء من كل ناحية كجذع شجرة عجوز.
ولمحها الجرسون فجاء إليها يبتسم، لكنه رأى وجهها فأطرق إلى الأرض، وسارت نحو الممر، وقبل أن تنحرف لتدخل فيه استدارت ونظرت إلى المائدة، كانت لا تزال خالية فاندفعت داخل الممر ثم خرجت من المطعم بخطوات سريعة.
Halaman tidak diketahui