قالت: ولكنني لم أسقه أكثر من النصف فهل يميته؟
قال: إنه يميته بعد أيام وقد فعلت حسنا بتقليل المقدار.
ومشيا وهما يتكلمان حتى دخلا من باب القصر إلى ساحة تراكمت فيها الأتربة والأحجار، وانسابت فيما بينها بعض أنواع الحشرات، فتحول الشيخ وسلمى إلى بقايا غرفة كأنها كانت مجلس أهل ذلك القصر في أيام عمارته، لها نافذة تطل على واد فيه آثار جدول جف ماؤه منذ أعوام. فاختار الشيخ حجرا نظيفا بجانب النافذة أجلسها عليه وجلس هو بجانبها، ثم نهض بغتة وقال: دعيني أنصرف عنك برهة ثم أعود إليك بالطعام. هل تخافين الانفراد؟
قالت: لا أخاف، ولكنني أستوحش وأنا في هذه الخرائب المرهبة. دعنا من الطعام فإني لا أحتاج إلى شيء منه غير الذي جئتني به من الدير ريثما ننتقل إلى مكان آخر.
قال: تحدثني نفسي أن نختبئ في هذا المكان حتى نرى ما يكون، ولكن ما معنا من الزاد لا يكفي، فامكثي هنا ولا بأس عليك، وإني أعرف عربا من بقايا الغساسنة على مقربة من هذا المكان، فأذهب إليهم وآتيك بما تصل إليه يدي، والله الموفق، فلم تر بدا من طاعته.
وخرج الشيخ الناسك وعليه ثوب أهل البلقاء، وبقيت سلمى بين تلك الأطلال وحدها، فما لبث الشيخ أن توارى عن بصرها حتى أحست بالوحشة، وندمت على بقائها في ذلك المكان، وودت لو أنها سارت معه إلى حيث سار، ونظرت إلى ما حولها فإذا هي بين آكام من الأتربة تزحف بينها الخنافس وأنواع النمل، فملت الجلوس هناك، فوقفت وأرادت أن تشغل نفسها عن وحشتها فمشت لتتفقد بقايا ذلك الصرح وتتأمل في أصل تكوينه، فخرجت من تلك الحجرة إلى غيرها فغيرها حتى انتهت إلى دهليز مشت فيه فأفضى بها إلى سلم يطل على الوادي، فعلمت أنه كان مخرج أهل القصر إلى ضفاف ذلك الجدول، فانحدرت على السلم حتى انتهت إلى مصطبة صغيرة، وكانت قد تعبت فجلست عليها، وأعجبها الظل وأنعشها النسيم البارد فطاب لها البقاء هناك، وجلست وقد أحست بالتعب الشديد والنعاس الثقيل على أثر ما قاسته في الليل الماضي من التأثر والسهر والركض، فغلب عليها النعاس فنامت واستغرقت في النوم، ولا تسل عما مر في مخيلتها من الأحلام وفيها المرعب والمزعج. •••
استيقظت سلمى من نومها مذعورة؛ إذ طرق سمعها جعجعة جمال، فنهضت وتلفتت إلى ما حولها فرأت ثلاثة رجال قادمين من عرض البر نحو القصر، وعلى الرجال لباس الدماشقة، فارتعدت فرائصها ولم تشك في أنهم من أتباع يزيد وقد اقتفوا أثرها بعد أن أصيب يزيد بسوء، فهرولت على السلم وعادت إلى الدهليز ومنه إلى الحجرة التي كانت فيها وانزوت بحيث ترى القادمين ولا يرونها، فإذا بهم ترجلوا بجانب شجرة على قيد أذرع من القصر، وعقلوا الجمال وأخرجوا طعاما وجعلوا يأكلون. فتوارت سلمى وعادت إلى جهة باب القصر لعلها تجد الشيخ عائدا من مهمته فتستأنس به، فلما استبطأته شغل بالها، ثم عادت إلى الحجرة، ولبثت حتى مالت الشمس عن خط الهاجرة ودنت من الأصيل ولم يعد الشيخ، فازداد قلقها وعادت إلى باب القصر، ولم تكد تصل إليه حتى رأت الشيخ يعدو نحوها فوقفت في انتظاره، فلما أقبل استغربته لأنها رأته قد قلم أظافره ومشط لحيته وقص شعره ورفع حاجبيه عن عينيه، ولولا الثوب الذي رأته عليه في ذلك الصباح لأنكرته ولكنها رأت التعب والبغتة في وجهه فقالت: ما وراءك يا مولاي؟ وما الذي جرى؟
قال: ما ورائي إلى الخير، دعيني أسترح، ثم أقص عليك الخبر ولكنه خبر مفرح فلا تخافي. فاطمأن بالها بعد أن كانت تضطرب، وبينما هي في انتظاره وهو يلهث من التعب، سمعت وقع أقدام خارج الباب، وسمع الشيخ ذلك أيضا، فجلس حتى استراح وهدأ نفسه، ثم وقف ومشى إلى الباب وأمر سلمى أن تبقى داخل القصر ريثما يعود فمكثت حسب إشارته.
ورأى الشيخ رجلا عليه لباس أهل دمشق فرحب به وحياه، فقال الرجل: هل في هذا المكان منزل للأضياف؟
قال الناسك: كلا إنه قصر خرب لا يسكنه أحد.
Halaman tidak diketahui