وبينما هم يتهامسون إذ سمعوا قرع الناقوس، فخف أحد الرهبان ليستقبل القادم، فطال وقوفه خارجا ولم يعد، فنهض الرئيس في أثره. •••
وكانت سلمى قد مدت يدها نحو الكلب وأشارت إليه تدعوه، فهرول إليها مسرعا، فناولته ثمرة كانت في جيبها، فاستأنس بالفتاة وجعل يحك رأسه بثوبها، وهي تمس جبينه بأناملها فيبالغ في الدنو منها وهو يحرك ذنبه، فلما سمع قرع الناقوس انتصب بغتة ورفع ذنبه والتفت إلى باب الدير وحدق بعينيه ونشر أذنيه كأنه يتوقع أن يرى أحدا وقد تأهب للوثوب عليه.
فلما طال وقوف الرئيس خارجا نبح الكلب نبحة قوية ذعر لها الجالسون وبخاصة الشيخ الناسك، وكان نائما فأفاق والتفت إلى ما حوله فرأى كلبه بعيدا عنه فناداه: شيبوب! فدنا الكلب منه وجعل يلحس أنامله وذراعه والشيخ يقول: أهلا برفيقي الصديق، ما ظنك بهذا القادم، يظهر لي من عوائك أنك أسأت الظن به.
فلما سمع عامر صوت الشيخ يتكلم العربية الفصحى وقد سمى كلبه باسم عربي جاهلي قال في نفسه: يظهر أن الرجل عربي أيضا، فمن هو يا ترى وما هو شأنه.
أما الرئيس فكان قد لحق براهبه فرأى بالباب رجلا في لباس يشبه لباس عامر ورفيقيه، ولكنه أجفل لما رآه في وجهه من البرص الشديد إلى درجة البياض الناصع، على أنه ظنه لأول وهلة رفيقا لعامر وقد تخلف في الطريق فرحب به وقال له: ادخل إن رفاقك هنا منذ ساعتين.
فأومأ إليه الرجل أن يسكت واجتذبه بيده إلى منعطف وراء الباب حيث لا يراهما أحد وقال له: احذر أن تذكر أمر مجيئي لأحد، وبخاصة أولئك الثلاثة الذين ظننتهم رفاقي، فإن في الأمر سرا عظيما سأطلعك عليه فيما بعد، وأما الآن فأرجو منك أن تدخلني غرفة لا يراني فيها أحد ولا يعلم أحد بوجودي هنا، وأقول لك مرة أخرى: احذر جيدا، فالأمر يتعلق بمولانا أمير المؤمنين.
فأجفل الرئيس وأجاب على الفور قائلا: إني فاعل ما تريد، وإذا شئت أن أخرج هؤلاء الأضياف من الدير في هذه الساعة فعلت.
قال: لا تخرجهم، بل استبقهم كما يشاءون، ولكنني أوصيك بأن تكتم خبر مجيئي.
قال: سمعا وطاعة، وأدخله من باب في تلك الطرقة يؤدي إلى ممر يستطرق إلى حجرات يقيم بها الرهبان الذين يشتغلون بالصناعات، وفيهم الحائك والخياط والنجار وصانع النعال أو السلال وغيرهم، في حين لم يكتم الضيف الأبرص دهشته مما يراه وكأنه في بعض أسواق الكوفة، على أنه لم يستغرب ملابسهم؛ لأنه كان قد رأى رهبان العراق في مثلها، وهي مسوح من نسيج الشعر أو القطن فوقه جلد أبيض من جلود الماعز لا يفارق أجساد الرهبان ليلا ولا نهارا إلا وقت تناول الأسرار المقدسة.
ومشى الرئيس حتى انتهى إلى غرفة بجانب الكنيسة، فأدخله إليها وهو يردد في ذهنه ما سمعه منه، ثم عاد إلى ضيوفه في ساحة الدير واختصر في مجالستهم ومحادثتهم، فأمر بعض الرهبان أن يعد لهم مكانا يقيمون به، فأدخلهم غرفة ليس فيها إلا حصير، وعاد، فأغلقوا الباب وجلسوا يتهامسون.
Halaman tidak diketahui