قالت: لا.
قال: قومي وانظري موته.
فقامت وهي تهرول في مشيتها حتى وقفت على أكمة تشرف على الوقعة فرأت الحسين يمشي نحو فسطاطه والدم يقطر من فمه لسهم كان قد أصابه هناك ولم يقتله، ولم يصل إلى الفسطاط حتى أحاط به جماعة من رجال الكوفة فيهم رجل أبرص ما كادت سلمى تراه حتى عرفت أنه شمر بن ذي الجوشن، فأرادت أن تصيح فأمسكها وأسكتها.
فوقفت كأنها على الجمر وعيناها على الموقعة فرأت رجلا يضرب الحسين على رأسه بالسيف فقطع السيف القلنسوة وأصاب رأسه وامتلأت القلنسوة دما، فرفع الحسين القلنسوة وشد رأسه بخرقة، ثم وضع عليه قلنسوة أخرى بينما رجع عنه شمر ومن كان معه، فحسبتهم قد عدلوا عن قتله، ثم رأت الحسين عائدا إليهم ومعه ابن أخيه عبد الله، وهو غلام لم يراهق كان عند النساء، فلما رأى عمه في ذلك الضيق لم يتمالك عن أن تبعه وزينب في أثره، فسمعته يقول لها: «احبسيه يا أختي.» فأرادت أن ترجعه فأبى وامتنع عليها امتناعا شديدا وقال: والله لا أفارق عمي. ولم يتم كلامه حتى رأى رجلا يهوي بالسيف على الحسين، فصاح الغلام فيه: ويلك يا ابن الخبيثة! أتقتل عمي؟!
فضربه الرجل بالسيف فاتقاها الغلام بيده فانقطعت يده إلى الجلد حتى تدلت وهي معلقة بقطعة من جلد وأصيب رأسه، فنادى الغلام: يا أماه! فهم الحسين به وضمه وهو يقول: «اصبر يا ابن أخي على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين.»
ومات الغلام لساعته وألحقت جثته بجثث أهله وسلمى تنظر، فطار صوابها ولم تعد تستطيع صبرا، فإذا بالحسين قد دعا بسراويل يمانية قطعها ولبسها، فلما رأته يقطعها استغربت ذلك منه، فقال لها الشيخ: أتعلمين لماذا فعل ذلك؟ لقد قطع السراويل لكيلا يسلبوها بعد موته.
قالت: أهو مائت كما تقول؟ لا أظنهم يقتلونه.
ولم تتم كلامها حتى رأت شمر بن ذي الجوشن هاجما عليه، ولم يكن قد بقي أحد مع الحسين إلا ثلاثة رجال قتلوا بين يديه، فهجم الحسين عليهم وعليه القلنسوة والجبة وتلك السراويل المقطعة، وهي هجمة اليأس، وكأنهم ذعروا لهجومه ففروا من بين يديه فرار المعزى من الوحش، فاستبشرت سلمى بذلك وقالت للشيخ: ألم أقل لك إنهم لن يقتلوه؟! ألا تراهم كيف يفرون أمامه؟!
ولم تقل ذلك حتى رأت السهام تتساقط عليه كالمطر، وقد صار كالقنفذ، فأحجم الحسين والرجال واقفون بإزائه لم يجرؤ أحدهم أن يبدأ بقتله، وعند ذلك خرجت أخته زينب إلى باب الفسطاط وصاحت وجند الكوفة يسمعها: يا عمر بن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها.
فنادت: ويحكم! أما فيكم مسلم؟! فلم يجبها أحد.
Halaman tidak diketahui