وفي عصر ذلك اليوم (الخميس 9 المحرم سنة 61ه) كانت سلمى وزينب وسكينة جالسات في الخباء يتحادثن فيما يخفنه على الحسين ورجاله، فسمعن قرقعة اللجم وصهيل الخيل وأصوات الرجال، فخرجت زينب ثم عادت وهي تقول: لقد أتوا قتلهم الله.
فلما سمعت سلمى ذلك تحمست وثارت الحمية في رأسها وقالت في نفسها: لقد حان وقت الاستشهاد في سبيل الحق، وهل أرى سبيلا إلى الجنة خيرا من هذا؟ وتلثمت بخمارها وأسرعت إلى قوس معلقة في دعامة الخباء فتناولتها وجعلت تبحث عن السيف، وفيما هي في ذلك رأتها زينب فقالت لها: ماذا تفعلين يا سلمى؟
قالت: لا شيء إنما أنا طالبة وجه ربي اليوم.
قالت: لعلك تريدين النزول إلى ساحة الحرب؟
قالت: نعم.
قالت: وأنى لنا ذلك؟ يا حبذا لو أننا ننزل جميعا فنقاتل حتى نقتل مع هؤلاء، ولكن أخي منعنا واستحلفنا أن نأوي إلى الخباء. ألم تري أني خرجت الآن إليه فرأيته جالسا بباب خيمته ومعه سيفه وكأنه لم يسمع صهيلا ولا صليلا، فدنوت منه فرأيته نائما ورأسه إلى ركبته فناديته فأفاق فقلت: أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع رأسه وقال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الساعة في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا.» فلما سمعت قول أخي لطمت وجهي وناديت بالويل، فقال لي: «ليس لك الويل يا أخية، اسكتي رحمك الله.» واستحلفني ألا أرفع صوتي. وكلامه لا يرد، فهل تريدين غضبه؟ امكثي معنا يا سلمى ويكفيك أن تلاحظي هذا الغلام، وأنا أعالج المريض حتى يقضي الله بما شاء.
فشق ذلك على سلمى وأسقط في يدها، وقد كانت تود أن تستقتل حتى تقتل، أو تلقى شمرا فتطعنه بالحربة أو ترميه بالسهم؛ لأنه سبب كل هذا البلاء، فضلا عما لقيت بسببه في دمشق، وكانت تحسبه مات، فلما علمت أنه حي تضاعف بلاؤها، ولكنها لم تكن لتعصي إشارة الحسين، فوقفت مبهوتة لا تدري ماذا تعمل، على أنها تظاهرت بالإذعان ثم خرجت ملثمة حتى وقفت بإزاء خيمة الحسين، فرأت أخاه العباس قادما على راحلته من معسكر العدو، فعلمت أنه سار إليهم في مهمة، فاستقبله الحسين وسأله عما كان من أمرهم، فقال العباس: «قد استمهلتهم إلى الغد فأمهلونا على أن نستسلم فيسرحونا إلى أميرهم عبيد الله بن زياد، وإلا فليس عندهم غير الحرب.»
لما سمع الحسين ذلك قال: «خسئوا»، ووقف وصاح في أهله، فاجتمع حوله كل إخوته وأبناء عمه وكل من معه من الرجال، ووقفوا ينتظرون ما يقوله وكلهم طوع إشارته، فلما تكامل جمعهم وقف فيهم وقال: «أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء. اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين. أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيرا. ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا، فإنكم في حل، ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا.»
فصاحوا جميعا بصوت واحد: لن نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدا، فلما سمعت سلمى كلامهم لم تتمالك أن قالت مثل قولهم والدمع ملء عينيها، فانتبه لها بعض الوقوف فالتفتوا إليها فاستحيت وبالغت في إخفاء وجهها.
أما الحسين فعاد إلى الكلام وخاطب أبناء عمه فقال: «يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم.»
Halaman tidak diketahui