هذه السنوات الموغلة بي في العمر أفقدتني العاطفية لا العاطفة، والعاطفية هي ضعف وتخاذل، ولكنها شيء جميل؛ بحيرة دافئة تغتسل فيها الأرواح. ما استردت من الحياة بديلا عن هذا الشيء الذي فقدت؟
استللت من الحياة قوة، وفي القوة نشوة وجمال. قد تكون الكآبة والوحشة والحسرة أشياء نبيلة، ولكن القوة هي كذلك شيء جميل نبيل. من يدري أن لا تكون القهقهة كبرا تصغر عندها الآهة والدمعة. قد يكون الله - الذي ننفي وجوده - يغير لعينيك النظارات كلما ضعف بصرك أو زاغ؛ فالأشياء المردودة والمفقودة هي هي، غير أن المنظار الذي يستر عينيك هو الذي يتبدل، ولا أدري إن كانت هذه الفكرة فلسفة أو سفسفة، ومن يدري أن لا تكون الفلسفة سفسفة لبست ردنكوت ومونوكل، وفي عروة سترتها شارة نيشان، وكل أهميتها أننا نخاطبها بصاحبة المعالي.
وفي هذه السنة - هذا المقال يكتب بمناسبة عيد رأس السنة - فقدت صحتي، فقلبي، كذا يقول الطبيب، وكذا تسجل آلته، قد عطب فلا شفاء من علته، فمداواته تنحصر في مداراته. إن طريقي نحو الموت سلك قادومية. ذعرت وخفت بادئ ذي بدء، غير أن الحياة وهي تسير بك - وهذه السنة اندفعت بي نحو الموت - كيفتني لملاقاة الموت، ليس في نفسي اليوم من خشية أو ذعر، أقولها من غير مبالاة ولا مباهاة، لو أنني تحققت وعلمت سلفا أنني سأقع ميتا بعد خمس دقائق لما تهيبت ولا هلعت ولا حزنت. سنة الحياة أن تمنحك شيئا حين تنتزع منك شيئا، إنها حين تهم بأن تقبض منك الروح تهبك الجرأة للتخلي عن الروح. لعل كل هذا هو الله الذي نتحدث عنه، لعله هذه الحياة المستمرة المبهمة السخية، هذا اللغز الأخاذ الجميل الشائق. قد أكون في حقيقة غير كافر؛ لأني أومن بالحياة؛ بجمالها، بخيرها، بعظمتها، بعدلها؛ إذ هي «تضرب باليمين، وتسند باليسرى». أشياؤك المردودة توازي أبدا أشياءك المفقودة؛ لأن غنى الحياة هو أبدا في النفس، وفي المواقف النفسية من الأحداث. الحياة هي شيء ذاتي لا موضوعي، فثق إذن أنك أنت بخير في كل عام من غير أن تسمع من أحد يتمنى لك «كل عام وأنت بخير».
معاقل سوف ننسفها
في أكثر ضياع لبنان يرثون العداء كما يرثون عن آبائهم الأملاك، ولكن هذه تتجزأ إذ يقتسمها الأبناء. أما العداء فيرثه كل ابن وابنة كاملا غير مجزأ؛ لذلك راح النظام الاجتماعي في هذه القرى يتفولذ بعنف الصراع بين فئات - هي في أكثر الأحيان اثنتان وقد تكون ثلاثة - ترفع له راية من متزعم يظفر بولاء فئته، وهذه لا تشعر بولاء لبلاد أو أمة، فيجيء ولاؤها لهذا الفرد قويا راسخا صافيا؛ لذلك أصيبت الفئة التي كان يتزعمها بالوراثة أبي في ضياع الشوف بنكبة، حين أعلنت فجأة أنني اعتنقت العقيدة القومية الاجتماعية. وعد هذا الفعل بعضهم خيانة، وكبر على آخرين أن أمسي في مؤخرة أعضاء الحزب، أنا الذي في كثير من الأماكن أتقدم الكثيرين بسبب أنني ابن فلان. من هؤلاء الأصدقاء الأصفياء الأشداء رجل اسمه سعيد أبو تين، له في البأس والمروءات وصداقة «بيتنا» تاريخ، ولقد أرسل لي عتابا، وكشف عن حسرة، فوجهت إليه هذه الرسالة:
أخي سعيد
هذه الرسالة موجهة إليك، وليس الذنب ذنبك أنك قد تحتاج إلى من يقرؤها عليك، ولكني واثق أنك تفهمها وتستوعبها بأكثر من الكثيرين الذين يكتبون ويقرءون وينظمون.
أؤكد لك أني حين كنت أسطر بياني وأعلن إيماني، كنت أنت والكثيرون من إخوانك وإخواني ماثلين أمام عيني، ولم أكن أخشى ما قد ينتظرني من حرمان واضطهاد ونقمة، بل أخاف الخوف كله من أن تؤلم وثبتي أمثالك.
لقد نشأت وإياك، وستبقى لي أخا، وسيبقى كل أخ لي أخا، أية جريمة اقترفت حتى تبعد عني أو أبعد عنك؟!
غير أني حريص أن لا تتألم؛ لأني أودك وأحترمك. ومما يحببك إلي - ولا يعيبك - أنك رجل منسي وفقير وغير شهير.
Halaman tidak diketahui