وبينما أنا أناجي نفسي بذلك رفعت بولينا يدها وأمرتها على جبينها ثم استوت جالسة وكأنها تبحث عن شيء مفقود، فأمعنت النظر في وجهها فألفيته لم يزل على حاله مرسوما عليه آيات الحزن الشديد، فقبضت على يدها قائلا: ألا تبغين الخروج من هذا المنزل يا عزيزتي؟ فكان جوابها بأن نهضت متثاقلة وتأهبت للمسير، وعند ذلك تراءى لي نور سطع في الغرفة المقابلة لنا وظهر فيها أربعة أشخاص منتصبين حول المائدة، منهم ثلاثة تبينتهم جيدا إذ كانت وجوههم مصوبة نحوي، فالأول هو سنيري بعينه وكان شاخصا ببصره نحو رجل على يمينه قصير القامة غليظها على وجهه خال، وإلى يساره ذاك الإيتالياني ماكيري أو حسب زعمه أنطونيوس مارك، وأما الرابع فلم يكن لي الحظ أن أرى منه سوى عرض كتفيه. وكان هؤلاء الأربعة موجهين أنظارا فائزة نحو شاب ملقى على الأرض بلا حراك وقد أغمد خنجر في صدره.
فارتعدت فرائصي لهول هذا المشهد وأخذت أنظر كالمعتوه، فوضعت يدي على عيني لأتحقق بأني لست أعمى هذه المرة، وأني قد أبصرت حقيقة ما طالما تاقت نفسي لرؤيته فيما مضى. وأخذت بيد بولينا وسرنا نحو القاعة المضيئة ولم تطأ أقدامنا أرضها حتى عاينت ما زادني ذهولا واندهاشا بل ما كدت لأجله أعترف بوجود السحر والسحرة، فإن النور قد اختفى بغتة ولم يكن في ذلك المكان سواي وبولينا. وبعد هنيهة عدنا إلى الغرفة الداخلية ولم يستقر بنا الجلوس حتى أعيد على نظري ذلك المشهد، ثم تكرر بعدئذ مرارا فلم يعد ريب في أن ما رأيته لم يكن سوى خيالات قد صورها الوهم أمامي لما مر بي تلك الليلة من الأمور المستغربة لا سيما انقياد بولينا لذاك البيت المهجور وحنينها لتلك الألحان الشجية. ولا يبعد أيضا من أنها تكون قد أبصرت سابقا ذاك القتيل وعادت فتذكرته هذه الليلة عندما رأت ماكيري مشهرا بيده خنجرا، فقصدت المجيء لترى مكان تلك الجريمة التي عاد تذكارها المحزن لمخيلتها.
فمن هو ذاك القتيل يا ترى؟ وما العلاقة بينه وبين بولينا؟ ومن قتله؟ لا أظن الفاعل سوى ماكيري، بل إنني على يقين من أن ليس سوى يده الأثيمة التي أغمدت الخنجر في صدر ذاك المسكين. فإذا صح ذلك فما الفائدة التي حصلت له بارتكاب هذا الجرم وما غايته بذلك؟ فسأبحث عن هذا الأمر فيما بعد، وأما الآن فمن الواجب قبل كل شيء أن أرجع ببولينا إلى البيت.
فأخذت بذراعها وأشرت إليها بالذهاب، فنكست رأسها وسارت دون ممانعة، وقد عاد إلى محياها البله، فسرت بها وعندما صرنا على الطريق التقينا بعربة مارة فحسبتها نعمة هبطت من السماء لتساعدني على سرعة الوصول إلى منزلي. ولم تنته بنا تلك المسافة إلا وتلاشت قوى بولينا، فسقطت ثانية فاقدة الشعور، فهلع قلبي خوفا على حياتها لما قاست من الاضطراب، وبوصولنا استدعيت لها طبيبا ماهرا فبذل من العناية معظمها لكنه لم ينجع بها دواء ولبثت على تلك الحالة كل الليل.
الفصل التاسع
كذبة فظيعة
وابتدأت عند الصباح تفوه بكلمات متقطعة وتدعو حبيبا لها بأعز الألقاب، وكان يتخلل كلامها صراخ محزن وتنهد عميق، فخفق قلبي لاستماع صوتها وخفت أن تكون قد استيقظت، لكن وا أسفاه أن تلك الألفاظ لم تكن سوى هذيان ناتج عن حمى شديدة قد أصابتها كما أوضح لي الطبيب! فلبثت بجانب سريرها والقلب يتقلب على جمر العذاب منتظرا أن أسمع اسمي بين شفتيها، فيا لقلبي ما أشقاه، وأنا الذي سعادته تقوم باستماع كلمة واحدة تصوب إلي من فمها الطاهر! يا لتعاستي، لقد ظهر لي أني رجل مجهول لديها! فمن هذا الذي كانت تناديه يا ترى، أليس هو ذاك القتيل الذي شاهدته أنا أيضا؟ قلبي يحدثني أنه قضى شهيد الظلم والغدر، فآه منك يا ماكيري الماكر يا من سلبت هذا الحمل الوديع السعادة انتظر عاجلا جزاء ما جنته يداك فإن الله لا يهمل عقاب المجرمين، وأنت أيتها الملاك الطاهر انعمي بالا وقري عينا فسوف ينتقم لك من الظالمين.
وعند ذلك أعلمت بزيارة ماكيري فتلقيته بالترحاب وقد أخفيت عنه ما يكن له صدري من الحقد والغيظ، وعندما لمست أيدينا بعضها شعرت بارتعاش قد سرى في جميع مفاصلي لزعمي أن اليد التي أنا قابض عليها ملطخة بدم المعصية، بل لا يبعد أن تكون هي نفس اليد التي قبضت علي عنقي فيما مضى، ثم صرت أفكر بأي عبارة يجب أن أبتدره الآن، وبأي وسيلة يمكن أن أستطلع منه هذه الأسرار، ولو قلنا إنه أقر بالحقيقة فكيف يمكن إثبات الدعوى لدى الحكومة وقد مضى على الحادثة ثلاث سنوات؟ ثم قاطعني عن التفكر بقوله: لقد أتيت لعيادة شقيقتي علما مني أنها مريضة. وكان يتظاهر أثناء الحديث بتأثير عظيم حتى لا يدع للشك مكانا بكونه أخاها، ثم انتقل فجأة لحديث آخر، فقال: يسوءني أن أزعجك وأنت بمثل هذه الحال، إنما للضرورة أحكام، فهل أنت مزمع بعد على معاضدتي بطلب المساعدة من فكتور عمانوئيل؟ - لا أفعل ما لم أقف منك على حقيقة أمور تهمني.
فانحنى باحترام قائلا: إني مستعد لخدمتك. - أولا يجب أن أتحقق إذا كنت أخا لزوجتي.
فرمقني بنظر الاستغراب محاولا التبسم، وقال: هذا أمر سهل جدا، فلو كان الطبيب سنيري حاضرا لنفى الشك عنك بكلمة واحدة. - ولكنه أخبرني خلاف ما تدعيه. - ربما فعل ذلك لأهواء في النفس أو لأنه لا يمكنه إظهار الحقيقة. أما أنا فلست أخشى شيئا ويمكني أن أثبت قولي في الحال حيث يوجد كثيرون ممن يعرفون حقيقة حالي.
Halaman tidak diketahui