ويغريه بالأمل أنه الصبي الوحيد الغريب الذي تراه مرات في الأسبوع، وأنه وسيم الطلعة جميل القسمات على رغم فقره وضعته.
ولكن هذه اللحظات السريعة كانت تمر به مرور النشوة بالسكران، وتتركه سريعا إلى الحقائق المحزنة. وهكذا فأغلب ما يذكر عن تلك الفترة كان خليطا من الهيام والتسامي والألم واليأس ولحظات قصيرة من السعادة والطمأنينة، وإلى جانب هذه تبرز له من غياهب الماضي واقعة مسلية يذكرها بتفاصيلها جميعا. وكان في السنة الأولى أو الثانية من المدارس الثانوية، ويبلغ الخامسة عشرة من عمره على وجه التقريب، وكان ينتظر مقدمها في مكانه المعهود إذ جاءته وعلى فمها الابتسامة الملائكية وفي يدها كراسة تقبضها وتبسطها في ارتباك ظاهر، فأقبل نحوها منتشيا بالفرح والبهجة وكأنه أراد أن يخلق أسبابا للحديث فسألها: ما هذه الكراسة؟ - كراسة العربي. - دائما العربي .. العربي.
فتنهدت، وقالت: أعوذ بالله من هذه اللغة .. أتعلم أنه لا يكدرني في الدنيا شيء إلا هم حفظها .. فلا الفرنسي ولا الحساب ولا التاريخ بالعلوم التي تعجزني، فجميعها كوم والعربي كوم.
ثم فتحت الكراسة وأنشأت تقلب في صفحاتها، وهي تقول: أملى علينا الشيخ سؤالا صعبا. - ما هو؟
فكان جوابها أن طلبت إليه أن يتبعها إلى أريكة في بعض منحنيات الحديقة، ثم جلسا جنبا إلى جنب لأول مرة، وقرأت السؤال قائلة: اشرح ما يأتي وأعرب ما تحته خط:
أشوقا ولما يمض لي غير ليلة
فكيف إذا خب المطي بنا عشرا
وظن يوسف أن السؤال غاية في السهولة، وأن في استطاعته أن يجيب عليه في غمضة عين، فقال: إنه سؤال بسيط، وهذا البيت موجود بنصه في كتاب قواعد اللغة.
فهزت كتفيها استهانة، وقالت: لا علم لي بكتاب قواعد لغتك هذا .. أما ما يهمني فهو أن تملي على مهل الإعراب والشرح.
ثم استعدت للكتابة .. فاعتدل في جلسته وقطب جبينه استحضارا لفكره الشارد، ثم أنشأ يقول: لما حرف جزم .. ويمض فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف آخره.
Halaman tidak diketahui