ولعله من الخير أن نختم هذا الفصل بتحليل لقصيدة «المعشوقة المفقودة» للشاعر الإنجليزي «براوننج»؛
6
لنوضح بمثال محسوس كيف يستخدم الشاعر أدوات التعبير حين ينشئ قصيدته. «فالمعشوقة المفقودة» قصيدة يفصح فيها شخص معين عن تجربة معينة يمارسها في ظروف معينة؛ فلكي تقرأ القصيدة قراءة صحيحة لا مندوحة لك عن خلق الظروف التي كانت تحيط بهذا الشخص في موقفه ذاك، ولا مندوحة لك أيضا عن تبين طبيعة خلقه، حتى يتاح لك أن تعيد تجربته في نفسك حية قوية كما كانت في نفسه وهو يمارسها. تستهل القصيدة بقول العاشق «إذن فكل شيء قد انتهى.» وتدلنا كلمة «إذن» أن الرجل قد سمع لتوه من حبيبته ما أفاده أن كل شيء قد انتهى، فتتطلع نفوسنا إلى معرفة وقع هذا الهجر والصدود في نفسه، فلو عرفنا ذلك لوفقنا إلى مفتاح يكشف لنا عن حقيقة شخصيته. وسرعان ما نتبين أن صد المعشوقة لم يصرعه باليأس والأسى، فهو فيما يظهر ليس بذي عاطفة عميقة محتدمة؛ إذ تراه هو نفسه لا يكاد يعرف وقع الضربة في نفسه، فبدل أن ينطلق لسانه ليعبر في صورة محدودة عن إحساسه وشعوره، تراه يتساءل:
أترى الحق مرا
كما يظن به لأول وهلة؟
واضح من هذا التساؤل أنه رجل ينطوي على نفسه، ويستبطن مشاعره ليتعقبها، وهي تجري في دخيلته؛ كي يعلم حقيقتها وكنهها، أم نرى الضربة قد أطارت شيئا من صوابه، أو على التقدير القليل قد فلت من حدة انفعاله بعض الشيء. فلم تترك له من القوة المدركة ومن تماسك النفس إلا قدرا يستطيع به أن يعلم من نفسه هذا الذي يلاحظه ويعجب لحقيقته؟ إننا بعد لا نعرف طبيعة الرجل، فلا بد لنا أن نأخذ تساؤله هذا «أترى الحق مرا كما يظن به لأول وهلة؟» على أنه بحث يلقيه فيلسوف من طبيعته أن يغوص إلى حقائق الأشياء، ولعله أراد الآن أن يطرح أمام نفسه هذه المشكلة النفسية لدراستها في نفسه هو، وقد وقع به مصاب كان يظن به المرارة أول الأمر، وبغير أن يقول الرجل عن نفسه ما يكشف لنا عن طبيعته تراه ينتقل فجأة فيقول:
أنصت! إنه العصفور يناغي: عم مساء،
على مقربة ها هنا فوق رفرف البيت!
بهذين البيتين قضي الأمر وانزاح الشك وتبينت حقيقة الرجل. لقد شككنا في أن يكون فيلسوفا بلغ من حبه للتفكير المجرد أنه في اللحظة التي علم فيها أن أمله في الحب قد ضاع، أخذ يحلل وقع الأمر في نفسه باحثا مدققا ليجزم إن كان «الحق مرا كما يظن به لأول وهلة». لكن الفيلسوف الذي يغرق في تفكيره المجرد والذي يستطيع أن يمسك بزمام نفسه، فينظر إلى الأمور نظرة موضوعية علمية هادئة حتى وهو في محنته، مثل هذا الفيلسوف لا تستوقف سمعه مناغاة خافتة من عصفور يعشش على رفرف البيت. فلم يعد من سبيل إلى الشك في أن صاحبنا عاطفي تسوقه مشاعره ولا يعهد بزمام نفسه إلى عقله المجرد الخالص، إنه رجل يتلفت إلى الدنيا ومن حوله فلا يفتنه منها إلا الأحاسيس الرقيقة الممتعة، إنه ليسعد ويغتبط إذا ما استجاب إلى المؤثرات العاطفية التي تنبعث عن الطبيعة من حوله؛ ومن ثم استوقف سمعه تغريد العصفور. لقد ساق الشاعر مناغاة العصفور في هذا الموضع من قصيدته؛ لأن العصفور كان يناغي في عشه على رفرف البيت حين وقف الشاعر عند بابه عقب لقائه بالحبيبة الهاجرة، لكن الشاعر لم يرد أن يثبت في قصيدته وجود العصفور في ذلك المكان وفي تلك الساعة من ذاك المساء لمجرد أنه حقيقة وقعت، بل أراد فوق ذلك أن يبين أي نوع من الرجال صاحبنا، فلولا أنه رجل تغلب عليه العاطفة لما أدرك وجود العصفور ولا تحدث عنه. لقد ألف الرجل في أماسيه الذاهبة أن يهمس في أذن حبيبته لغوا، كالذي يهمس به المجنون، لغوا محببا إلى النفس. ولقد كان الحبيبان يطيران على جناح من الخيال والعاطفة، فإذا ما تناغيا: «عم مساء» عند الفراق، سمعا العصفور يناغي كذلك: «عم مساء» كأن لحبهما صدى في صدور الطير. فإن علمت هذا استطعت أن تدرك وقع ما ناغى به الطير عندما أقبل المساء في تلك الليلة على نفس الحبيب المهجور. إن الحياة الواعية عند صاحبنا تبدأ بأحاسيسه ؛ لأنها من حياته أهم ما يستثير عنايته واهتمامه، وقد أراد في مستهل القصيدة أن يسلط عقله على هذه الأحاسيس؛ لعله يهديها سواء السبيل. وها هو ذا يرى ويسمع العصفور الصغير الذي يضرب بضعفه المثل بين الأحياء جميعا. ها هو ذا يرى العصفور ويسمعه وقد اتصلت حياته، فكانت الليلة كما كانت الأمس وكما ستكون غدا وبعد غد. إن العصفور الهزيل الضئيل يحيا حياة موصولة لا مقطوعة؛ وذلك دليل في حكم العقل الذي أسلمه الرجل زمام عاطفته على أن أساس الحياة في الكون كله هو الاستمرار والاتصال. فكيف يمكن في كون هذا أساس الحياة فيه أن يفهم أو يسيغ فكرة النهاية والانقطاع، أو أن يصدق عن إيمان وعقيدة «أن كل شيء قد انتهى» كما قالت له المعشوقة الصادة، فاستهل بقولها قصيدته! كلا، يستحيل عليه أن يفهم أو يسيغ فكرة النهاية والانقطاع، ثم يزداد ذلك استحالة عليه؛ لأنه وقد فك عواطفه من عقالها وأطلق سراحها، تلك العواطف التي اعتاد أن تثيرها في نفسه ظواهر الطبيعة من حوله، مضت في طريقها لا تنتظر مثيرا يدفعها، فراحت تجري في مخيلته يدعو بعضها بعضا في صف متتابع الصور. فلئن ذكر العصفور لأن صوته وقع في سمعه، فقد عقب عليه بذكر الكروم ولم تكن هناك، لكن الخواطر تتداعى من تلقاء نفسها:
والزغب على براعم الورق فوق الكرم،
Halaman tidak diketahui