ففي الصورة الثانية توسعة للصورة الأولى؛ إذ تضيف إليها اهتزاز النفس حين يدوي صوت الوقواق بغتة، فيشق سكونا رهيبا يملأ الفضاء، والصورتان معا تتعاونان على بيان ما أحسه الشاعر من فتنة لصوت الحاصدة المغنية في عزلتها وهي تجمع الحصاد، لكن هاتين الصورتين لم تقفا عند حد التعبير عن إحساس الشاعر، بل أحدثتا أثرا وراء الغاية التي من أجلها سيقتا في القصيدة؛ فالشاعر إذ رأى هذه المناظر أمام عينيه قوية ناصعة ناضبة بالحياة، وترجم إحساسه بها في كلمات؛ دفعته قوة الكلمات دفعا حتى جاوزت به الغاية التي قصد إليها من قصيدته؛ فاقرأ الأبيات السالفة مرة أخرى، والحظ فيها، فضلا عن مواضع التشابه بين هذه المناظر التي ساقها الشاعر وبين ما أحاط بالفتاة الحاصدة من ظروف، مواضع شبه أخرى أدق وألطف، تسللت في سياق القصيدة فأكسبتها جوا جديدا مشبعا بالعزلة وروح الكآبة الحزينة؛ فهو إذ يذكر - عامدا أو غير عامد - صحراء العرب الموحشة وبحار الهبريد القصية المنعزلة، قد أطلقنا معه نسبح في طول البلاد وعرضها، ونجمع في تحوامنا لمحات دقيقة عما تحمله الأرض فوق سطحها من ألوان العناء والهم، وكأن الهم والعناء من لوازم الحياة الدنيا، وبغيرهما لا تكون حياة؛ فها أنت ذا مع الشاعر وسط الفيافي القفر التي تمتد ما امتد البصر، حيث المسافرون قد هدهم الإعياء فرقدوا عند الفيء يهدهدهم تغريد البلبل، حتى أطبق عليهم نعاس عميق لا يزول عنهم إلا مع الصبح، فينهضوا من نومهم وقد ازدادوا إحساسا بعزلتهم في تلك الفلاة، ثم ينتقل بك الشاعر من ذلك اليباب البلقع إلى حيث بطاح البحر قد امتدت آفاقها، وهنالك يغشاك إحساس رهيب بسكون الأغوار العميقة الدكناء، وإن المنظر ليزداد في نفسك رهبة حين يدوي في جنباته بغتة صوت توحي نغمته بالطرب وإشراق الربيع وبهجة الحياة، لكن أصداء الصوت تمحي فوق سطح الماء، ويظل كل شيء كما كان، بل إن صرخة الوقواق نفسها تصبح في الأذن صوتا يؤذن بعبث الحياة، ونبرة حزينة تنم عما تنطوي عليه الدنيا من هموم مضنية، ويثقل في عينك منظر الطبيعة بما تستشفه في صميم الكون من بؤس وشقاء، ثم يعود العقل بعد سبحاته الطويلة مع الشاعر في أنحاء الأرض، يعود إلى صوت الحاصدة وهي تغني في عزلتها، فيستمع إليها وقد تملكه هذا الإحساس الحزين الكئيب من رحلته فوق الصحراء وأمواه المحيط، هو يستمع الآن إلى نغمتها الحزينة وكأنها احتوت في نبراتها كل ما في الكون من وحشة وانفراد، وتجيء المقطوعة التالية في القصيدة، فتتمم المعنى الذي أحسه الشاعر:
هلا وجدت من يحدثني بماذا تغني؟
فربما فاضت هذه النغمات الحزينة
من أجل ماض سحيق شقي قديم
ومعارك انقضى عهدها منذ زمن بعيد.
ها هنا يعود الشاعر فيثير فيك الرهبة برحلة طويلة أخرى، لكنه هذه المرة لا يرتحل معك في أنحاء المكان، بل يذهب بك قافلا على مدى الزمان؛ فالماضي السحيق الشقي القديم قد ترك نغمته المرة الحزينة، وإذا ما عدت تنصت إلى نغمة الحاصدة وهي تغني، فلا يسعك إلا أن تثقلها بهذا الحزن الجديد الذي اجتلبته معك بعد رحلتك مع الشاعر في الزمان. إن أغنية الحاصدة المنعزلة في حقلها لم تعد أغنية فتاة ريفية تجمع حصادها، بل باتت لحنا يعبر عما في الكون من هم وأسى. إنه يعبر عما تنطوي عليه الحياة البشرية من آلام وأحزان؛ وبهذا كله لم يصنع «وردزورث» أكثر مما يصنعه كل شاعر عظيم، لكنه يعود بهذه المقطوعة الآتية، فيتفرد دون سائر الشعراء:
أم تراني أسمع نغما متواضعا،
نغما لا ينبو بمعناه عن شئون العصر،
فيه ما في الحياة الجارية من ألم وفقد وأسى
مما شهدته الحياة، وما قد تعود فتشهده.
Halaman tidak diketahui