وهذا هو ابتداء الثورة على تفكير أرسطو بالحق وبغير الحق على السواء، ونقول: «بغير الحق» لأن القياس في عرف أرسطو هو باب من أبواب المعرفة يحتاج إلى التكميل والإتقان، وليس هو المعرفة التي تطوى فيها جميع المعارف الإنسانية كما وهم بعض الجامدين من شراحه وتابعيه، وإن أرسطو نفسه لعلى استعداد لأن يقول مع باكون: «إن القياس فروض والفروض كلمات والكلمات رموز وخواطر، فإذا التبست الخواطر فالبناء الذي يقوم عليها مضطرب الأساس.»
نعم إن أرسطو لعلى استعداد لأن يقرر في هذا المعنى ما قرره باكون بنصه وحرفه، وقد قرر ما يماثله وهو يبني قواعد المنطق السليم، ويفرق فيه بين المنطق الأعوج والمنطق المستقيم، واعتمد على الاستقراء قبل اعتماده على القياس في مراقبة الأحياء وتمحيص الأخلاق، فكان واضع علم «البيولوجي»، وعلم «السيكولوجي» غير مدافع بين الأقدمين، ولم ينشأ بين المحدثين من أقام هذين العلمين على أساس أصح من أساسهما القديم.
ومهما يكن من أثر الكشف الأمريكي، أو مذاهب الفلك والجغرافية في الثورة على أرسطو، وأسلوب القياس، فالواقع أن خطوة باكون الطويلة في هذا السبيل، قد سبقتها خطوات قصار كان مقدورا لها أن تنتهي إلى هذه النهاية في وقت من الأوقات.
وجاءت الخطوة الأولى من أرسطو قبل غيره، فإنه لم يجزم قط بكفاية التفسير الذي فسر به نظام الأفلاك، ولا بصواب التقسيم الذي اتخذه للمدارات العلوية، بل قال: إنه تقسيم يوافق المشاهدات في زمانه، وقد يهتدي العقل إلى تقسيم أوفق منه إذا انكشفت له مشاهدات أخرى، وكان أساتذة جامعة باريس في القرن الرابع عشر ينكرون آراء أرسطو في علم الفلك، كما ينكرون أصول الحركة التي بني عليها تقسيم الأفلاك والمدارات، وتقدمهم في ذلك بعض أساتذة أكسفورد، الذين تلقوا علوم العرب في المدارس الأندلسية، وقد قال البارون كارادي فو
Baron Cara De Vaux
في الفصل الذي عقده على تراث الإسلام في الرياضة والفلك: «إن هؤلاء العلماء كانت لهم عقول طليقة مولعة بالبحث عن الحقيقة، فلم يحجموا عن نقد بطليموس، وصرحوا مع ابن رشد بمناقضتهم لمذهب تداخل الأفلاك وتركزها، وإيثارها لما هو أبسط وأقرب إلى الطبيعة، وقرر البيروني آنفا أن النظريات الفلكية كلها نسبية، وأنه في الوسع كما قال ارستراخس الساموسي وسليقس البابلي قبل كوبر نيكوس بألفي سنة، أو كما قرر بعض الهنود في زمن لا يبلغ هذا المبلغ من القدم، أن تنسب دورة النهار والليل إلى حركة الأرض حول محورها، وأن نجعلها تدور حول الشمس في الفضاء.» •••
فمن المفروغ منه إذن أن باكون لم يكن أول من علم الناس منفعة العلم في خدمة الإنسان، ولا أول من أقامه على أساس التجربة والاستقراء، ولا يقدح ذلك في فضل رسالته؛ لأن أصحاب الرسالات الفكرية جميعا يصدق عليهم ما يصدق عليه.
وحسبه فضلا أنه عرف الحقائق التي عرفها غيره، ولكنه هو وحده قد اهتدى إلى الموضع الحري منها بالتوكيد والتقرير، وبشر بالفكرة التي يستدعيها الزمن الحاضر والزمن المستقبل من بعده، وكانت بحق طليعة الكشوف المتوالية في العلم الحديث.
ومما لا شك فيه أن باكون بالغ في تعزيز غرضيه، كما يبالغ أصحاب المذاهب جميعها في ترجيح مذاهبهم، وتغليبها على سواها.
فمن الناس اليوم من يتردد كثيرا في القول مع باكون بأن المنفعة غاية المعرفة الإنسانية، وأن الأقيسة مضلة للعقل في تيه الفرض والتخمين.
Halaman tidak diketahui