Foundations and Methods of Da'wah 1 - Al-Madinah University
أصول الدعوة وطرقها ١ - جامعة المدينة
Penerbit
جامعة المدينة العالمية
Genre-genre
-[أصول الدعوة وطرقها ١]-
كود المادة: IDWH٢٠١٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Halaman tidak diketahui
الدرس: ١ مدخل إلى علم الدعوة
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(مدخل إلى علم الدعوة)
١ - التعريف بالدّعوة إلى الله
التّعريف بالدّعوة
الحمد لله الذي بفضله تتمّ الصالحات، وبتوفيقه تُزكَّى الأعمال وبرحمته تُرفع الدرجات. قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾. (المجادلة:١١) وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق:٤، ٥).
وأشهد أنّ سيدنا محمدًا عبده الله ورسوله، شرّفه الله بحَمْل رسالته، وتبليغ دعْوته، وخاطَبه بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ (الأحزاب:٤٥، ٤٦).
اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن دعا بدعْوته إلى يوم الدِّين. وبعد:
التّعريف بالدّعوة
أولًا: التعريف بالدعوة إلى الله، في اللغة، وفي اصطلاح العلماء:
ففي اللغة: جاء في "دائرة معارف القرن العشرين" ما يلي:
"دَعاه" يَدْعوه دعاءً ودعوى: ناداه، وصاح به.
و"دعا له": طلب له الخَير من الله تعالى.
"دعا عَليه": طلب له الشَّر من الله تعالى.
"تداعى الناس": دعا بعضُهم بعضًا.
وجاء في "لسان العرب":
"الدعوة": المَرة الواحدة من الدّعاء.
و"الدُّعاة": قومٌ يدْعون إلى بَيعة هدىً أو ضلالةٍ، واحدُهم: داعٍ. ورجُل داعِيَة، إذا كان يدعو الناس إلى دِين أو بدعة، وأُدخِلت الهاء في "داعية" للمبالغة.
1 / 9
وبهذا يتّضح أن كلمة "دعا" ومشتقّاتها تدور في اللغة بين الداعي وما يَدعو إليه من خَير أو شَر.
الدعوة في اصطلاح العلماء:
عُرِّفت بعِدّة تَعريفات، منها ما يلي:
التعريف الأوّل: حَثّ الناس على الخَير والهُدى، والأمْر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ليَفوزوا بسعادة العاجل والآجل.
التعريف الثاني: هي: قيام العلماء المُستنيرين في الدِّين بتعليم الجمهور من العامّة ما يُبصِّرهم بأمور دِينهم ودُنياهم، على قَدر الطاقة.
التعريف الثالث: إنقاذ الناس من شرٍّ واقع، وتحذيرهم من أمر يُخشى عليهم من الوقوع في بأسه.
ثانيًا: حاجة البشر للدعوة إلى الله:
لقد خلَق الله الإنسان في أحسن تقويم، واستخلفه في أرضه، وائْتَمَنَه على بعض أسرار كوْنه، وفضَّله على كثيرٍ مِن خَلْقه. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء:٧٠).
هذا التكريم والتفضيل ليس لكوْن الإنسان يأكل، أو يشرب، أو يتناسل؛ فهذه أمور يَشترك فيها مع كثير من الكائنات، ولكنْ خَلقه الله لرسالة كريمة وغاية عُظمى، تَنحصر في الأمور التالية:
1 / 10
أولًا: استخلاف الله للإنسان في الأرض، وتسخير الكون لخدمته. قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم:٣٢ - ٣٤).
ثانيًا: تحمُّل الأمانة التي شرَّفه الله بحَمْلها، واصطفاه للقيام بأعبائها، وتقبَّلها طَواعيةً، بينما اعتذرت السماوات والأرض والجِبال عنها، لِعِظم شأنها وخُطورة تبِعاتها. قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب:٧٢).
ثالثًا: عبادة الله ﷾ وطاعتُهُ، والتزام ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ (الذاريات:٥٦ - ٥٨).
رابعًا: تَوطيد الرَّوابط الأُسَريّة من خِلال النَّسب والمُصاهرة. قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ (النحل:٧٢).
كما عمّق العلاقات الإنسانية بالتعارف والتعاون. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحُجُرات:١٣).
1 / 11
ولن يستطيع الإنسان أن يُحقِّق هذه الأمور بنفسه، أو أن يَمضيَ في الحياة مُعتمدًا على عَقله فقط، أو أن يَسير وفْق رغباته ونَزواته وتَبَعًا لأهوائه؛ فكان من رَحمة الله بالبَشر أن أرسل لهم الأنبياء والمرسلين، وأيّدهم بالوحي والمعجزات، ليدْعُوا الناس إلى الطَّريق المُستقيم. قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (النساء:١٦٥).
هذا، ولقد ظهرت حاجةُ البشرية الشديدة للدّعوة إلى الله، التي تَرتكز على وحْي السماء، ورسالات الأنبياء، وسلوك الأتقياء، وذلك للأسباب التالية:
أولًا: إن الصراع بين الإنسان والشيطان لن يَنطفئ لهيبُه، ولن تَخمد جَذوته. فمنذ أن خلَق الله آدم ﵇ وأمَر الملائكة بالسجود له، -سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة-، فامتثلوا لأمْره ﷾، إلاّ إبليس الذي أنكر وأعرض، وأدبر واستكبر، وهدَّد وتوعّد، فأُخرِج من الجَنة صاغِرًا ذليلًا. قال تعالى: ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الأعراف:١٣ - ١٨).
وبهذا أصبحت الكرة الأرضية مَيدانًا فَسيحًا وساحةً رَحبة للنِّزال بين الإنسان والشيطان. ولو تُرك الإنسان في هذه المَعركة وَحْده دون وحيٍ من السماء يَحفظُه، ويُرسل الله الرسل لتُرشِده، والدعاة ليُحذِّرونَه، لتمكَّن الشيطان منه،
1 / 12
وأفسَدَ عَقيدتَه، وشوّه فِطرتَه؛ لذا كانت حاجة الإنسانية ماسةً للدّعوة إلى الله، لتَتخلّص من شَرّ الوسواس الخَناس الذي يُوسوس في صُدور الناس.
ثانيًا: لقد أودع الله بين حنايا النَّفس البَشرية العديدَ من الغَرائز. قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران:١٤).
وهذه الغرائز تَغْلي داخل كيان الإنسان كالمِرْجل، وكلّ غَريزة تَتدَافع وتَتزاحَم لبَسْط إرادتها على سلوك الإنسان وتَصرّفاته.
وهذه الغرائز إن لم تُحكم بميزان الشَّرع، وإن لم تُضبط بمقاييس وحْي السماء ورسالات الأنبياء، فإنها تَنطلق مَسعورة لإشباع حاجاتها دون تَدبّر ورَويّة، ودون التفات لأوامر الله، مُتجاهِلة الأحكام الشرعية، مُحطمةً للتَّقاليد والأعراف الاجتماعية، فيَنتَكس الإنسان إلى سلوك الحَيوان، بل أضلّ من الحيوان. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف:١٧٩).
لذلك كانت الحاجة ضروريةً للدّعوة إلى الله، لتنظيم تلك الغَرائز البشريّة، وإشباعِها في إطار شَرْع الله الذي لا يَكبِتُها، ولا يَحرم الإنسان منها، ولا يَترك لها الحَبل على الغَارب، كالجَواد الجامِح؛ بل نَجد الإسلام العَظيم يُهذِّبها، ويَضبط دوافِعها. ولن يتمّ ذلك إلاّ من خِلال الدّعوة إلى الله على هدىً وبصيرة.
ثالثًا: إنّ العَقل البشري، مع أنه مَركز التَّوجيه، ومحور التَّفكير، ومَناط التَّكليف، وهو الذي يُميِّز الإنسان عن الحَيوان، فإنه لا يُحقِّق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، للأسباب التالية:
1 / 13
أولًا: قُصور العقل الإنساني، لأنه يَستقي المَعلومات من الحَواسّ، بواسطة الجِهاز العصبي الذي يَمتدّ بين خلايا الجسم وأنسجته وعظامه، ليتَّصل بالمخ في نظام عَجيب، وتناسُق مُعجِز مُبهر، يُنبئ عن قُدرة الخالِق، وعظَمة الصّانع ﷾. ومع ذلك، فالعَقل ليس مَعصومًا من الخطإ، وأحكامُهُ ليست صوابًا على وجْه الإطلاق؛ فهو يَحكم على الشيء من خِلال ما تُقدِّمه الحَواسّ الخَمس من مَعلومات، فإذا فَقَدت إحدى الحواسّ عَملها بسبب مَرض أو عِلّة بها، تَوقَّف العَقل عن مَعرفة حَقيقة الجُزئية الخاصّة بتلك الحاسّة المُعطَّلة.
ثانيًا: تفاوت العَقل البَشري، فعقول البَشر تَختلف في الفَهم، وتَتفاوت في الإدراك، وتَتدرّج في الذكاء، ممّا يَجعل الحُكم على الأشياء يَختلف اختلافًا ظاهرًا بين بني البشر، كما أنّ العقل يَخضع لمؤثِّرات كَثيرة، ولا سيما في هذا العصر الذي يحاصَر الإنسان بالغزو الفكري الذي تبُثّه أجهزة الإعلام المَرئية والمَسموعة والمَقروءة، ممّا أدّى إلى التفاوت العَقلي في شتّى المجالات، واختلفت النظرة والحُكم على الأشياء من دولة لدولة، ومن جماعة عن جماعة أخرى. ولقد صوّر القرآن الكريم اختلاف العقول في قوله تعالى: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (المؤمنون:٥٣).
ثالثًا: عَجْز العقل البشريّ عن مَعرفة ما وراء عالَم الحواسّ والمُشاهدة. إن العقل البَشري تقف حُدودُه عند عالَم الحِسِّ والمُشاهدة، أمّا ما عدا ذلك، كالبَعْث والحَشْر، وعالَم الغَيب، وما يتعلّق بالرُّوح، والمَلإ الأعلى، فلا طَريق لمعرفته من خِلال العَقل، وإنّما تتمّ المَعرفة عَبر الوحي الإلهي، ورسالات الأنبياء. ولقد حَدّد القرآن الكريم الأمور التي يقف العقل البشري قاصرًا وعاجزًا ومستسلمًا
1 / 14
أمامها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان:٣٤)، وكذلك ما يتعلّق بالروح وأسرارها، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا﴾ (الإسراء:٨٥)، وكلّ ما يتّصل بعالَم الغيْب، قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ (الجن:٢٦، ٢٧).
رابعًا: خُضوع العقل للْهوَى.
"الهوى" في اللغة هو: مَيْل النفس وانحرافها عن الشيء، ثم استعمل في المَيل المَذموم، فيقال: "اتّبع هواه"، و"هو من أهل الأهواء". وقد حذَّر القرآن الكَريم مِن اتّباع الهوى، وانسياق الإنسان وراء نَزواته ونَزعاته التي قد تَطمس الحَقيقة. قال تعالى: ﴿فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ (النساء:١٣٥).
ولقد بيّن القرآن الكريم خُطورة اتّباع الهوى، وآثارَه السَّيئة على الإنسان، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ (الجاثية:٢٣).
والعَالَم المُعاصر الآن يَشهد خَللًا في العَقيدة، واضطرابًا في الفِكر، وانحرافًا في السُّلوك، بسبب الأهواء. نَجِد ذلك واضحًا في ميادين السِّياسة، والاجتماع، والثقافة، والاقتصاد. فاتّباع العُقول دون ضوابِط الشَّرع، يَفتَقد في كَثير من الأحيان للرؤية الصائبة، والفِكر السديد، والعَمل الرشيد.
1 / 15
خامسًا: عَجْز العقل البَشري عن إدراك الحِكمة من التَّشريع؛ فهناك أمور قد يَعْرف العقل حِكمةَ تَشريعها، ويعرف الفوائد المُترتِّبة على هذا التَّشريع. وهناك أمور يَقف العقل البشري عاجزًا عن إدراك الحِكمة من تَشريعها، ويَظل حائِرًا مُتسائلًا عن سِرّ تَحليلها أو تَحريمها.
ممّا سَبق، يتَّضح أنّ العَقل البَشري لا يستطيع وحْده أن يوجِّه الإنسان إلى السعادة، وأن يُحقِّق له الطمأنينة والأمْن، وأنّ الدَّعوة إلى الله ضَرورة فِطرية يَحتاج إليها الإنسان لتَحقيق خَيرَيِ الدنيا والآخرة.
سادسًا: إنّ الدعوة إلى الله أثَرٌ من آثار رحمة الله بالعباد، وشفقته ﷾ بهم، وتَعطّفه عَليهم؛ فهي تَحمل بين ثناياها ينابيع الخير للإنسان، حيث تَزْكو بعَقله، وتُطهِّرُ قَلْبَه، وتُنقِّي نَفسَه، وتُربِّي ضَميره، وتُوقِظ فيه معانيَ الفِطرة السّويّة التي فَطر الله الخَلْق عليها. ولقد شَملت الرحمةُ الإنسانية كلّها، بدعوة أشرف الخَلق وخاتم الرُّسل محمد ﷺ. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:١٠٧).
وقال ﷺ: «إنّما أنا رَحمة مُهداة».
وبهذا، يتبيَّن مَدى حاجة الإنسانية إلى الدّعوة إلى الله، وشَوق العالَم وتَطلّعه وتلهّفه إلى دعاةٍ يأخذون بيده من الكهف المُظلم الذي يَختَنق فيه، وتَنعدم رؤية الطريق المُستقيم وَسْط العَواصف التي تَعصف به، حيث أفقدته آدميَّته، وأنْسَتْه إنسانيّته؛ فالأمل مَعقودٌ، والرجاء مقصودٌ، وأيدِي البشرية تَمتدّ لأمّة الدعوة، تَستغيث بها، وتُناشِدها أن تُنقِذها ممّا هي عليه الآن. قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران:١١٠).
1 / 16
حُكم تبليغ الدّعوة وآراء العلماء في هذا
الدّعوة إلى الإسلام من خَصائص هذه الأمّة، مِن أجْلها خُلقت، وبالانتساب إليها شَرُفت، وبتَبليغها وتَعريف البَشر بالإسلام بلَغَت ذُرى المَجْد، وارتَقت مراقيَ الكمال.
والدّعوة إلى الله إحدى المَهام الرئيسيّة للمسلمين، ومَعلم بارزٌ يَنفردون به بين الأُمم. وهم مسؤولون أمام الله يوم القيامة عن قيامهم بالتَّبليغ، أو تَقاعسهم عنهم. قال تعالى: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ﴾ (الزُّخرُف:٤٣، ٤٤).
والأمّة الإسلامية في مَجموعها أمّةُ الدّعوة إلى الله، يَجب أن تتوافر جهودُها، وتتكاتَف كلمتُها، ويُرصد جزءٌ من مواردها لتبليغ الإسلام ونشْره، ودَفْع الشبهات عنه، وردّ كيْد كلّ مَن يَعتدي عليه.
ولقد أوضح القرآن الكريم، وبيَّنت السُّنّة النبوية الشريفة، حُكمَ تَبليغ الدّعوة إلى الله؛ ومِن خِلال نُصوص الكتاب والسُّنة، قسَّم العلماء هذا الحُكم إلى قسميْن:
القسم الأول: إنّ الدّعوة إلى الله فَرْض عَيْن على الأنبياء والمرسَلين، ثم العلماء الذين فقِهوا دين الله، ووقفوا على أحكامه، وتَعرَّفوا على شَرائعه.
- ومن أدلّة الوجوب من القرآن الكريم: ما يلي:
ما أمَر الله به رسوله ﷺ في أوائل ما نَزل من الوحي، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ (المدَّثر:١ - ٣).
وقال تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الحِجر:٩٤).
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
1 / 17
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (المائدة:٦٧).
وقال تعالى: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ﴾ (الحج:٦٧).
وقال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل:١٢٥).
ولقد أمَر الله المسلمين أن تَكون مِن بينهم جماعةٌ تَتَفرّغ للدّعوة والقيام بأمْرها. قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران:١٠٤).
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "ولتكُن منكم أمة منتصِبة للقيام بأمْر الله في الدّعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر؛ وأولئك هم المفلحون".
هذه الجماعة التي يُناط بها أمرُ الدّعوة إلى الله، يجب أن يَحْسُنَ اختيارها، وأن تُعدَّ إعدادًا خاصًا يؤهِّلُها لهذا العمل الشريف، وأن تُنتَقَى من بين المَواهب المُتفرِّدة والقُدرات المُتميِّزة. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة:١٢٢).
- والأدلّة من السنة النبوية الشريفة على وجوب تَبليغ الدعوة، وأنها فَرْض عَين على العُلماء، يشاركُهم في المَسؤولية ولاةُ الأمر من حُكَّام المسلمين وزُعمائهم، كَثيرة:
فعن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّرْه بيَده، فإن لم يَستطع فبِلسانه، فإن لم يَستطع فبقَلبه؛ وذلك أضعفُ الإيمان»، رواه مسلم.
1 / 18
وعن حذيفة ﵁، عن النبي ﷺ، قال: «والذي نفسي بيده! لتأمُرُنّ بالمَعروف ولتَنهوُنّ عن المُنكر، أو ليوشكنّ اللهُ أن يَبعث عَليكم عِقابًا منه، ثم تَدْعونه، فلا يُستجاب لكم»، رواه الترمذي بإسناد حسَن.
وعن عبد الله بن عمر ﵄، قال: قال رسول الله ﷺ: «بلِّغوا عَنِّي ولو آية»، رواه البخاري.
ومن فوق جبل عرفات، في حجّة الوداع، قال ﷺ قوْلته الآمرة الخالدة: «ألاَ فلْيُبلِّغ الشّاهدُ منكم الغَائب».
من خِلال هذه النصوص، انعَقد إجماع المسلمين على: وجوب تَبليغ الدّعوة إلى الله، وأنها فَرْض عَين على العُلماء والدُّعاة، وأنه يَجب على ولاة الأمر مؤازرتهم ومساندتهم، لتحقيق هذا الغَرض الدِّينيّ.
القسم الثاني: تعاون جَميع أفراد الأمّة فيما بَينهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حقّ لدَى جَميع المسلمين، وفَرْض كِفاية إذا قام به البَعض سَقط الإثم عن الجَميع. أمّا إن تقاعست الأمّة عن التَّناصُح فيما بينها، فإنّ الجَميعَ مسؤولون ويأثمون عن هذا التقاعس.
- والأدلّة من القرآن الكريم على: أنّ الأمّة الإسلامية مُتضامنة فيما بينها على الأمر بالمَعروف والنَّهي عن المُنكر، ومن ذلك:
قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران:١١٠).
قال ابن كثير: "هذه الآية عامّة في جَميع الأمّة كلّ قَرن بحَسَبه".
1 / 19
وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:٧١).
وقال تعالى آمرًا المسلمين جميعًا بالتعاون فيما بينهم على البِرِّ والتقوى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (المائدة:٢).
وقال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (العصر:١ - ٣).
يقول الإمام الشافعي: "لو لمْ يَنزل من القرآن غير هذه السورة، لكَفَتِ المسلمين". ويقول أيضًا: "إنّ الناس أو أكثرهم في غَفلة عن تَدبّر هذه السورة".
- ومِن السُّنّة:
عن أبي رُقيَّة تَميم بن أوس الدَّاري ﵁: أن النبي ﷺ قال: «الدِّين النَّصيحة»، قلنا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: «للهِ، ولِكتابه، ولِرسوله، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم»، رواه مسلم.
وعن جَرير بن عبد الله، قال: «بايعتُ رسول الله ﷺ على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنُّصحِ لكلِّ مسلم»، متفق عليه.
ولقد بيّن الرسول ﷺ مَسؤولية المُجتمع المسلم، ووجوب التَّناصح فيما بَينهم، وأثَرَ ذلك في نَجاة المُسلمين من الفِتن والأحداث؛ فعن النعمان بن بشير ﵁: أنّ النبي ﷺ قال: «مَثل القائمِ على حُدود الله والواقع فيها كمثَلِ قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها. فكان الذين في أسفلها إذا
1 / 20
استقوْا من الماء مرّوا على مَن فَوقَهم، فقالوا: لو أنّا خَرقْنا في نَصيبنا خَرْقًا ولم نُؤذِ مَن فوقَنا. فإن يَتْركوهم وما أرادوا، هلكوا جَميعًا. وإن أخذوا على أيديهم، نَجَوْا، ونَجَوْا جَميعًا»، رواه البخاري.
ممّا سبق، يتَّضح عِظم أمْر الدّعوة إلى الله، وشَرف القيام بتَبليغ الإسلام ونَشْره، وأنّ هذا فَرْض عَيْن على العُلماء والأمراء، وأنه فَرْض كِفاية على مَجموع الأفراد، يقومون به وفْق قُدرات كلّ فَرد وإمكاناته، وحَسب مسؤولياته تجاه أهله، كما قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ (طه:١٣٢)، أو نحو العَشيرة والقَوم، قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء:٢١٤)، أو تجاه جيرانه وأصدقائه، تَمسّكًا وتَنفيذًا للأسُس التي وضعها القرآن الكريم، بقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل:١٢٥).
٢ - علاقة علْم الدّعوة بالعلوم الأخرى
ملَكة البيان ووسائلها
أولًا: التمهيد للمحاضرة:
لقد خَلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وأنعم عليه بنِعمة البيان، وهي مِن أجلِّ النِّعم التي أنعم الله بها على الإنسان، قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن:١ - ٤).
فملَكَةُ البَيان تَحْصُلُ للإنسان بوسائل عِدّة، منها:
أولًا: القِراءة والاطّلاع على سائر العلوم والمعارف. ولأهمية القِراءة في تَكوين عَقل وفِكر الإنسان، كان أوّلُ ما نَزل على الرسول ﷺ: قولُ الله تعالى: ﴿اقْرَأْ
1 / 21
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذي عَلَّمَ بالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق:١ - ٥).
ثانيًا: الكِتابة، وهي التي يُعبّر بها الإنسان عمّا يَجيش في فؤاده، وبما يَجول في قَلبه ووجْدانه، وبالكِتابة يتمّ التَّفاهم بين بني الإنسان، والتعارف بين الأمم والأوطان. وهي أداة لنقْل العُلوم والمَعارف، لذلك أقسم الله ﵎ بالحَرف الذي يُعبَّر به عن الفِكر، وبالقَلم الذي يُدوَّن به، وبالمادة العِلمية التي تُصاغ، قال تعالى: ﴿نْ * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ (القلم:١)، وقال تعالى: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق:٤، ٥).
ثالثًا: النَّظر والتأمّل في الأنفس والآفاق، قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات:٢١)، وقال تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (يونس:١٠١).
وكذلك التّأمّل والتّفكّر في تكوين الخَلْق، وتَطوّر حياة الإنسان، قال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ (الطارق:٥، ٦).
رابعًا: الحِكمة، وهي: الإصابة في القَول والعَمل، ويَختص الله بها مَن يَشاء من عِباده، بخِلاف العِلْم، فهو مُتاح للإنسانية كلّها، ويَنتج عَنه الخَير والشَّر. أمّا الحِكمة فلَن يأتي منها إلاّ الخَير فقط. قال تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (البقرة:٢٦٩).
خامسًا: التّقوى، وهي مِن أهمّ مفاتيح تحصيل العلوم والمعارف النافعة والمفيدة، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ (البقرة:٢٨٢).
1 / 22
هذه الوسائل وغَيرها: أدوات لتحصيل العُلوم والمَعارف، التي أمر الله رسوله ﷺ بالتَّزود منها، قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه:١١٤).
وإنّ معيار نجاح الدّعاة إلى الله يتوقّف على مِقدار ما يُحصِّلونه من عُلوم وما يَتزوّدون به من مَعارف، تُربِّي عُقولهم، وتَسمو بأفكارِهم، وتُوقِظ في قُلوبِهم ينابيع الخَير. ولن يَتسنَّى لهم ذلك إلاّ بَكثرة الاطّلاع، واتّساع الثقافة، اللّذَيْن يُؤدِّيان إلى دِقّة الفَهْم، وعُمق الفِكر؛ وهذا يَتحقّق حينما يكون الدّاعي مُلمًا بأطراف العُلوم النَّظريّة والتَّطبيقيّة، وكذلك سائر المَعارف الإنسانية وفْقَ كلّ عَصر وبيئة.
ولذا قيل: إن عِلْم الدَّعوة يَبدأ من حَيث تَنتهي كلّ التَّخصصات؛ فالإنسان إذا أراد أن يَنخَرط في سِلك الدُّعاة إلى الله، فلْيَتَنقّل في رياض العُلوم والمَعارف، مَثَلُه كمَثَل النَّحلة تَنتَقل من غُصْن إلى غُصْنٍ، وتَتحوّل من زَهرة إلى زَهرة، تَرتشف الرَّحيق، وتَمْتَص العَبير، لِتُخْرِجَ عسلًا مُصفىً فيه شِفاء للناس.
وكذلك الدّاعي إلى الله يَتريّض بين العُلوم المُختلفة، يَسبر أغوارها، ويَقِف على موضوعاتها، ويَتعرّف على فوائدها، فتَتّسع مَدارِكُه، وتَكثُر معارفه، ويكون لديه الدواء الناجِع والبَلسم الشافي لأمراض المُجتمع وعِلَلِه.
لذا، فعلْم الدّعوة مُرتَبط بالعُلوم الأخرى ارتباطًا وثيقًا، كارتباط الرأس بالجَسد. فالعلوم المُختلفة والمَعارف المُتنوِّعة، هي روافِد للتَّعريف بالإسلام، وشَرْح أحكامه، ودَعوة الناس إليه؛ فهي وَسيلة لأسمى غَاية، وأشرف عَمل، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فُصِّلَت:٣٣).
1 / 23
والدّاعي إلى دين الله، والآمر بالمَعروف والناهي عن المُنكر، لا بدَّ وأن يَكون عالِمًا عِلْمًا يَقينيًا بما يَدعو إليه، أو يأمر به من مَعروفٍ، أو يَنهى عَنه من مُنكر، ولا بدَّ أن يكون عالِمًا بالأسلوب الذي يَستَخدمه، وبالعلوم التي تُفيده في ميادين الدّعوة، وذلك لتلافي الأمور التالية:
الأمر الأول:
الحذر من أن يَدعوَ إلى باطِل وهو يَحسبه حقًا؛ فيكون ضَررُه على الدِّين أشدّ من ضَرر الصامتِين، وخَطرُه أعظمَ من خَطر أعداء الدِّين، ولا سيما إذا اتُّخذ قُدوةً فيما يَدعو إليه من باطل في سلوكه الخاص.
الأمر الثاني:
الحَذر إذْ لم يكن عَالِمًا بَصيرًا وداعيًا حَكيمًا، أن يَتخذَ أسلوبًا مُنَفِّرًا؛ وهذا ضَرره أكثر من نَفعه.
الأمر الثالث:
إن لم يَكن عَالِمًا، فسوف يَستدلُّ على ما يَدعو إليه أو يَنصح به، بأدلّةٍ باطلةٍ، فيَحْصُلُ من دَعوته ضَررٌ أكثر من النَّفع، فيُسيء من حَيث يَتوقّع منه الإحسان.
الأمر الرابع:
خَشية أن يُسأل غير العالم عن مَسألة، فيُفتي فيها بغَير علْم، فيَضِلّ ويُضِلّ.
ولقد حذَّر الرسول ﷺ مِن اتّخاذ رُؤوس في العلْم جُهَّال، فيكونون وبالًا على الدِّين، ونَكبة للأمة.
1 / 24
فقد روى البخاري ومسلم: أن النبي ﷺ قال: «إنَّ الله تعالى لا يَقبض العِلْم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يَقبض العلْم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبقِ عالمًا، اتّخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسُئلوا، فأفتَوْا بغَير عِلْم، فضلُّوا وأضلّوا».
لهذه الأسباب ولغيرها، يتّضح ما ينبغي أن يكون عليه الداعية إلى الله، من وجوب الوقوف على شتَّى أنواع الثقافات، والإلمام ببعض العلوم التي يستفيد منها، ويُفيدُ غيره في ميادين الدّعوة.
وسوف نوضِّح العلاقة الوطيدة والارتباط العميق بين علْم الدعوة والعلوم الأخرى.
العلوم التي لها ارتباط وثيق بعِلْم الدّعوة
إنّ علْم الدعوة إلى الله لن يُؤتي ثماره، ولن تتحقّق نتائجُه إلاّ إذا ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالعُلوم والمَعارف حيث يَنهل منها الدَّاعية، ومن خِلال جِماع هذه العلوم، تَتولّد لديْه الثقافةُ الواسعة والإلمام بقضايا أمّتِه، ومشاكِل عَصره، وتكون عِنده القُدرة على استمالة المَشاعِر، واستِنهاض الهِمَم، وذلك بالحُجج الدامِغة، والبراهين الساطِعة، والأدلّة القوية، المُتسلِّحة بحُسن المَنطق، وسَلامة التَّعبير، ورَوعة الأداء.
والعُلوم التي ترتبط بالدّعوة، ويجب على الدعاة تَحصيلها والإلمام بها، هي ما يلي:
القسم الأول: علوم اللّغة العربيّة. لقد تَنزَّل القُرآن على قَلب الرسول ﷺ بلسان عَربيّ مُبين، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء:١٩٢ - ١٩٥).
1 / 25
فالرسول ﷺ أفصَح فُصحاء العَربية، وأطلقُهم لِسانًا، وأعذبُهم حديثًا، وأبلغُهم منطقًا. وقد أُوتيَ ﷺ جَوامعَ الكَلِم.
قال الإمام العلامة أبو سليمان الخطّابي -رحمه الله تعالى-: "اعلمْ: أن الله تعالى لمَّا وَضع رسول الله ﷺ مَوضع البَلاغ من وَحْيه، ونصّبه مَنصب البيان لدِينه، اختار له من اللغات أعذَبَها، ومن الألسُن أفصحَها وأبْيَنها. ثم أمدّه بجَوامع الكَلِم، التي جعلها رِدءًا لنبوّته، وعَلَمًا لرسالته، لِينتَظِم في القَليل منها عِلْم كَثير، يَسهُل على السامِعين حِفظُه، ولا يَؤودُهم حَملُه. فمَن تَتبّع جوامِع كلامه ﷺ لم يُعْدَم بيانها".
واللغة العربية كان يَنطقها العَربيّ بالسَّليقة، ويَتذوّق معانيها بالفِطرة، لا يَعرف نِقاطًا ولا علامات على الحروف، ولا تَشكيلًا للكَلمات.
وكان يُعبِّر عمّا يَجيش في خاطِره شِعرًا أو نَثرًا، بلُغة فَصيحة، سليمة بليغة، لا تَعرف اللَحن، ولا يَفشو فيها الخَطأ، وتَرفَّعت عن عُجْمة الفُرس، وتَنزَّهت عن لُغة الروم.
ولمّا جاء القرآن الكريم بلسانٍ عَربيّ مُبين، على رسول الله ﷺ، ازدادت مكانة اللّغة العربية، فارتفعت هامَتُها بين لغات الأمم، وأكسبها القرآن قُدسيّةً ومَهابةً، وأضفى عليها ثوبًا قَشيبًا من بَلاغة الأسلوب، وجَمال التَّصوير، وجَلال المَعاني، وموافقة الطَّبائع، ولمس السرائر، ورؤى المستقبل، وأحداث التاريخ، وإشارات العُلوم.
وكذلك أضاف إليها الرسول ﷺ ببلاغَته وفصاحَته، من خِلال أقواله ﷺ مَنزلةً رَفيعة، ومَرتبة سامية. وهكذا تضافَرت على اللغة العربية تلك العَوامل التي حافظت على بقائِها ونقائِها، لارتباطِها بالقرآن الكريم، الذي تَعهَّد الله بحِفظه، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحِجر:٩).
1 / 26
وقد استمرت اللغة العَربية يتحدّث العَرب بها دون قَواعد تُضبَط، والنُّطقَ بها قَبل بِعثة الرسول ﷺ وخِلال حياته ﷺ، وإبّان نُزول القرآن الكريم، كان يُكْتب بدون تَشكيل ولا عَلامات إعراب. ومع انتشار الإسلام، واختِلاط العَرب بغيرهِم من الأمم، فشا اللحن، وكَثُر الخَطأ، وتخوّف المسلمون أن يَتسرَّب هذا إلى القرآن الكريم، فيَلحَق به ما لَحِق بالكُتب السماوية السابقة من تَحرِيف وتَغيير.
وبَدأت أمارات اللّحن وبوادِر خَطره، حينما قَدِم أعرابي إلى المدينة في خِلافة عمر بن الخطاب ﵁، فقال: مَن يُقرِئني شَيئًا ممّا أنزل الله تعالى على رسوله ﷺ؟ فأقرأه رجل من بداية سورة (براءة)، حتى وصل إلى قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ (التوبة:٣)، فنَطق الرجلُ الذي يقرأ بها: "ورسولِهِ" -بكَسر اللام بدلَ ضَمِّها-، وهذا اللّحن يُفسِد المعنى إفسادًا كبيرًا. فلما سَمِع الأعرابي هذا، قال: وأنا أبرأ ممّا بَرئ الله منه، ورَجَع على عَقبيْه. فبلغت مقالتُه عمرَ بن الخطاب. فقال: رُدُّوا عليّ الرجُل! فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسولِ الله ﷺ؟ فقصّ الرجل عليه قِصّتَه.
فقال عمر: ليس هذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر ﵁: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ (التوبة:٣) -برفع اللام-، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممَن بَرِئ الله ورسوله منهم.
فأمَر ﵁ أبا الأسود الدؤلي المَولود عامَ واحد قَبل الهِجرة، أن يضع ضَوابط اللسان العربي. وقِيل: إن عليًا بن أبي طالب ﵁ هو الذي أمره بذلك.
فقد روى أبو الأسود الدؤلي أنه قال: "دَخلتُ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ﵁ فوجدت بيده رُقعة، فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأمّلت كلام العَرب فوجدتُه قد فَسد بمخالَطة هذه الحَمراء -يعني: الأعاجِم-،
1 / 27