Fitna Kubra Cuthman
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Genre-genre
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد .
وكان يتحدث إليهم بأن لكل نبي وصيا، وبأن وصي النبي محمد هو علي، وبأن عليا خاتم الأوصياء كما أن محمدا خاتم الأنبياء. وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان. ويذهب بعضهم إلى أنه أحكم كيده إحكاما، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور وثبت على الخليفة، فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام.
ويخيل إلي أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافا شديدا. وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرا في المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان؛ فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه، ولم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف، وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلا. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر.
ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن. ولكني أقطع بأن خطره، إن كان له خطر، ليس ذا شأن. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان، ولم يكد يسلم حتى انتدب لنشر الفتنة وإذاعة الكيد في جميع الأقطار. ولو قد أخذ عبد الله بن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهوديا فلم يسلم إلا كائدا للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه إلى عثمان، ولبطش به أحدهما أو كلاهما. ولو قد أخذه عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما أعفاه من العقوبة التي كاد ينزلها بالمحمدين لولا خوفه من عثمان. والذي يكتب إلى عثمان يستأذنه في البطش بابن أبي بكر وابن أبي حذيفة وعمار بن ياسر في بعض الروايات؛ خليق ألا يعفي من عقوبته رجلا من أهل الكتاب قد اتخذ الإسلام وسيلة لإثارة الفرقة بين المسلمين، وتشكيكهم في إمامهم بل في دينهم كله. ولم يكن أيسر من أن يتتبع الولاة هذا الطارئ ومن أن يأخذوه ويعاقبوه وهم كانوا مهرة في تتبع المعارضين وإخراجهم من ديارهم وإرسالهم إلى معاوية أو إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.
ومن أغرب ما يروى من أمر عبد الله بن سبأ هذا أنه هو الذي لقن أبا ذر نقد معاوية فيما كان يقول من أن المال هو مال الله، وعلمه أن الصواب أن يقول: إنه مال المسلمين. ومن هذا التلقين، إلى أن يقال إنه هو الذي لقن أبا ذر مذهبه كله في نقد الأمراء والأغنياء وتبشير الكانزين للذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. لا يوجد أمد بعيد، وما أعرف إسرافا يشبه هذا الإسراف. فما كان أبو ذر في حاجة إلى طارئ محدث في الإسلام ليعلمه أن للفقراء على الأغنياء حقوقا، وأن الله يبشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم، وأن المال الذي يكسبه المسلمون حين يظهرون على العدو، أو الذي يؤديه المسلمون إلى بيت المال زكاة أو خراجا، أو الذي يؤديه الذميون إلى بيت المال جزية أو خراجا؛ هو مال المسلمين يجب أن يضاف إليهم في القول وأن يرد عليهم بالفعل. لم يكن أبو ذر بحاجة إلى هذا الطارئ ليعلمه هذه الحقائق الأولية من حقائق الإسلام، وأبو ذر سبق الأنصار جميعا وسبق كثيرا جدا من المهاجرين إلى الإسلام، وهو قد صحب النبي فأطال صحبته، وحفظ القرآن فأحسن حفظه، وروى السنة فأتقن روايتها، وشهد سيرة النبي وسيرة صاحبيه في الأموال والحقوق، وعرف من الحلال والحرام ما عرف غيره من أصحاب النبي الذين لزموه فأحسنوا لزومه.
فالذين يزعمون أن ابن سبأ قد اتصل بأبي ذر فألقى إليه بعض مقاله، يظلمون أنفسهم ويظلمون أبا ذر، ويرقون بابن السوداء هذا إلى مكانة ما كان يطمع في أن يرقى إليها.
والرواة يقولون: إن أبا ذر قال ذات يوم لعثمان بعد رجوعه من الشام إلى المدينة: لا ينبغي لمن أدى الزكاة أن يكتفي بذلك حتى يعطي السائل ويطعم الجائع وينفق من ماله في سبيل الله. وكان كعب الأحبار حاضرا هذا الحديث فقال: من أدى الفريضة فحسبه. فغضب أبو ذر وقال لكعب: يا ابن اليهودية! ما أنت وهذا؟ أتعلمنا ديننا؟! ثم وجأه بمحجنه. فأبو ذر ينكر على كعب الأحبار أن يعلمه دينه، بل أن يدخل في أمور المسلمين حتى بإبداء الرأي، مع أن كعب الأحبار مسلم أبعد عهدا بالإسلام من ابن سبأ، وكان مجاورا في المدينة يصبح ويمسي بين أصحاب النبي، وكان معاشرا لعمر وعثمان، ثم لا يتحرج من أن يتلقى من عبد الله بن سبأ أصلا من أصول الإسلام وحكما من أحكام القرآن! فاعجب لرجل من أصحاب النبي ينكر على كعب أن يجادل في الدين، ثم يتلقى الدين نفسه عن عبد الله بن سبأ!
وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ هذا - إن كان كل ما يروى عنه صحيحا - إنما قال ما قال ودعا ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف، فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها. وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا؛ ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على علي وشيعته من ناحية أخرى؛ فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدا للمسلمين. وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة! وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان!
فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديا ثم أسلم لا رغبا ولا رهبا ولكن مكرا وكيدا وخداعا. ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعا وأحزابا.
هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ.
Halaman tidak diketahui