Fitna Kubra Cuthman
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Genre-genre
وقد دفعها هذا كله إلى بعد الهمة وامتداد أسباب الطمع إلى غير حد، والصبر على المكروه حتى تظهر عليه، والسخر من العقاب حتى تذللها، بل دفعها هذا كله إلى ما هو أشد من ذلك خطرا، وهو ازدراء القيم المقررة، والاستهزاء بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، واستباحة كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة، وسعة الحيلة التي أتاحت لها أن تظهر للعرب أمينة على الدين، وليست من الدين في شيء. فقد كان السادة من قريش على أقل تقدير ينظرون إلى الدين على أنه وسيلة لا غاية، وإلى هذه الأوثان المنصوبة على أنها أسباب لكسب الرزق وبسط السلطان لا أكثر ولا أقل. وكان السيد من قريش رجلا أثرا شديد الطمع بعيد الهم عظيم المكر داهية، كلما حزبته المشكلات عرف كيف يستقبل ما حزب من الأمر، وكيف يخرج منه سالما معافى موفورا.
عرف عمر هذا كله في قريش، فلم تستطع أن تخدعه عن نفسها، بل لم يستطع إقبالها على الإسلام وإذعانها لسلطانه أن يغيرا رأيه فيها. وهو من أجل هذا آثر الاحتياط كل الاحتياط في سياستها، فلم يلن لها ولم يرفق بها، ولم يخل بينها وبين طمعها الشديد، وهمها البعيد واعتدادها بنفسها، وازدرائها لغيرها من الناس.
ولعل عمر أن يكون قد عرف للمهاجرين ما عرف لهم رسول الله من الفضل، فأنزلهم منازلهم، واختصهم بكثير من عنايته ورعايته؛ ولكن هذا كله لم يدفعه إلى الاطمئنان والهدوء والتخلية بين هؤلاء المهاجرين وبين ما كانوا يريدون حين استخلف على أمور المسلمين، وليس أدل على ذلك من سيرته هذه في قريش وقيامه عند شعب الحرة آخذا بحلاقيمها وحجزها أن تتهافت في النار، وقوله لمن كان يستأذنه في الغزو من المهاجرين: «لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من الغزو ألا ترى الدنيا ولا تراك.» وربما كان من أدل الدلائل على ذلك ما كان من شدته على خالد بن الوليد رحمه الله وعزله إياه ومراقبته له، مع ما أبلى خالد من البلاء الحسن أيام النبي وأيام أبي بكر في حرب العرب والروم جميعا. ليس لهذا مصدر إلا علمه بقريش وسوء ظنه بحسن استعمالها لما أبيح لها من قوة، وبحسن انتصارها على ما فرض عليها من ضعف. فقد كانت هذه القوة التي صورناها مصدر ضعف لقريش؛ لأنها كانت تدفعها إلى أن تغالي بنفسها فتتورط في الكبرياء، ولأنها كانت تدفعها إلى حب المال والحرص عليه فتتعرض لأخذه بغير حقه، ولأنها كانت تدفعها إلى إيثار أنفسها بالخير فتتعرض للانهزام أمام المنافع العاجلة وأمام اللذات القريبة التي لا تخلو من الإثم أحيانا. وكانت تدفعها إلى الطمع الذي لا حد له فتعرضها لتجاوز الحد والطموح إلى ما لا ينبغي الطموح إليه، كما تعرضها للظلم والاستعلاء. وإذا أشفق عمر من هذا كله بالقياس إلى المهاجرين الذين طالت صحبتهم للنبي وحسن بلاؤهم في المواطن كلها، فأحرى أن يشفق منه بل أن يشفق من أكثر منه بالقياس إلى من أسلم بأخرة من قريش، من هؤلاء الشيوخ والفتيان الذين لم يسلموا عن رغبة ولا عن رضا، وإنما أسلموا إما طمعا حين تبينوا أن كفة الإسلام راجحة، وإما قهرا حين دخلت عليهم مكة من أقطارها. وأولئك وهؤلاء لم ينظروا إلى الإسلام على أنه دين يتصل بالقلوب والضمائر، وترعى فيه حرمات الله وحقوقه، وإنما نظروا إليه على أنه صفقة خطيرة من تلك الصفقات التي كانوا يباشرونها، ومغامرة جريئة من تلك المغامرات التي كانوا يغامرونها داخل بلاد العرب وخارجها. وقد ذكروا حين أسلموا أو حين هموا بالإسلام أن النبي كان قد وعد قريشا حين دعاها إلى الدين الجديد ملك الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ففكروا جميعا في ملك الدنيا، وفكر بعضهم في ثواب الآخرة، ودفعهم هذا التفكير إلى أن يسلموا، ثم إلى أن يحتملوا من أثقال الجهاد والفتح ما احتمل غيرهم من الناس أو أكثر مما احتمل غيرهم من الناس.
وأراد كثير منهم عن نية صادقة أو غير صادقة أن يعوضوا بحسن البلاء في الفتوح ما فاتهم من حسن البلاء مع النبي في غزواته. ومن أجل ذلك لم يبطئوا حين دفعت العرب إلى الفتح، وإنما نفروا خفافا وثقالا، كثير منهم يريدون عرض الدنيا، وقليل منهم يريدون الآخرة. وكان زعماؤهم وسادتهم يحسون أنهم الطلقاء، وأنهم أقل درجة من الذين سبقوا إلى الإسلام وأبلوا فيه بلاء حسنا؛ فكان ذلك يغيظهم ويحفظهم ويشعرهم بشيء يشبه ما نسميه تعقيد النقص أو مركب النقص. ثم كانوا يعرفون رأي عمر خاصة فيهم، فكان ذلك يغيظهم من عمر، ويدعوهم إلى أن يحسنوا البلاء في الجهاد، ليظهروا لعمر أن رأيه فيهم جائر عن القصد، وليظهروا ذلك للناس، وليظهروا ذلك لأنفسهم قبل أن يظهروه للناس.
وهذا هو تأويل ما روي من أن خالد بن الوليد أتى بعكرمة بن أبي جهل، وقد صرع في يوم من أيام الشام، فوضع رأسه على فخذه وجعل ينظر إليه ويقول: «زعم ابن حنتمة أننا لا نستشهد.» وابن حنتمة هو عمر.
كان عمر إذن يسوس قريشا هذه السياسة العنيفة على علم بدخائل نفوسها، وبعد همها وحرصها على الاستمساك بما بلغت والوصول إلى ما لم تبلغ، حتى ولو خاضت إليه الغمرات خوضا. «وقد روي أن النبي رخص لعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة كانت به، فيقبل عبد الرحمن ذات يوم على عمر ومعه فتى من بنيه قد لبس قميصا من حرير، فينظر إليه عمر ثم يقول: ما هذا؟ ثم يدخل يده في جيب القميص فيشقه إلى أسفله. قال عبد الرحمن: ألم تعلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد رخص لي في لبس الحرير؟ قال عمر: بلى! لشكوى شكوتها، فأما لبنيك فلا.»
وعلى هذا النحو كان عمر يشفق على المهاجرين أن يتوسعوا فيما رخص لهم فيه النبي، ويشفق على غير المهاجرين من قريش أن يتوسعوا حتى فيما لم يرخص فيه النبي. وقد قام عمر دون معاوية يأبى عليه غزو البحر إشفاقا على المسلمين من هوله. وأكبر الظن أنه كان يرى غزو البحر هذا الذي كان معاوية يلح فيه مغامرة من هذه المغامرات التي لا تتردد قريش في ركوبها، كان يرى أن الحق عليه للمسلمين أن يجنبهم مغامرات فتيان قريش. وقد قدمت أن خلافة أبي بكر أتاحت لقريش أرستقراطية مفاجئة جديدة عوضتها من أرستقراطيتها القديمة، فكان عمر يشفق من هذه الأرستقراطية ويضرب لها الحدود، ويأبى أن تندفع إلى غير مدى.
هؤلاء بعض الرعية التي ابتلي عثمان بولاية أمرها. وكان على عثمان أن يسلك إحدى سبيلين لا ثالثة لهما: فإما أن يشتد كما اشتد عمر فيمسك زعماء المهاجرين في المدينة، ويظهر لعامة قريش ما كان يظهر لها عمر من سوء الظن بها، ويقف فتيان قريش وكهولهم كما كان يقفهم عمر عند حدود لا يتعدونها، ويجعل أمور الحكم والولاية كما كان يجعلها عمر شائعة بين العرب بل بين المسلمين، لا ينهض بها منهم إلا القادرون على احتمال أعبائها، وإما أن يلين فيخلي بين قريش وبين الطريق تمضي فيها إلى غير غاية، لا حد لطمعها ولا لجشعها ولا لمغامراتها ولا لإيثارها نفسها بالخير. وسنرى أن عثمان قد اختار الثانية راضيا عنها أو مكرها عليها.
Halaman tidak diketahui