Fitnah Besar (Bahagian Kedua): Ali dan Anak-anaknya
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
Genre-genre
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Halaman tidak diketahui
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Halaman tidak diketahui
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
Halaman tidak diketahui
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
Halaman tidak diketahui
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الفصل التاسع والأربعون
الفصل الخمسون
Halaman tidak diketahui
الفصل الحادي والخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
الفصل الرابع والخمسون
الفصل الخامس والخمسون
الفصل السادس والخمسون
الفصل السابع والخمسون
الفصل الثامن والخمسون
المراجع
الفصل الأول
Halaman tidak diketahui
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
Halaman tidak diketahui
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
Halaman tidak diketahui
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
Halaman tidak diketahui
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
Halaman tidak diketahui
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الفصل التاسع والأربعون
الفصل الخمسون
الفصل الحادي والخمسون
Halaman tidak diketahui
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
الفصل الرابع والخمسون
الفصل الخامس والخمسون
الفصل السادس والخمسون
الفصل السابع والخمسون
الفصل الثامن والخمسون
المراجع
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني)
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني)
Halaman tidak diketahui
علي وبنوه
تأليف
طه حسين
الفصل الأول
واجه المسلمون إثر قتل عثمان - رحمه الله - مشكلتين من أخطر ما عرض لهم من المشكلات منذ خلافة أبي بكر، إحداهما تتصل بالخلافة نفسها، والأخرى تتصل بإقرار النظام وإنفاذ أمر الله فيمن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض.
فقد أمسى المسلمون يوم قتل عثمان وليس لهم إمام يدبر لهم أمورهم ويحفظ عليهم نظامهم، وينفذ فيهم سلطانهم، ويقيم فيهم حدود الله، ويرعى بعد هذا كله أمور هذه الدولة الضخمة التي أقامها أبو بكر وعمر، وزادها عثمان سعة في الشرق والغرب.
فهذه البلاد التي فتحت عليهم ولم يستقر فيها سلطانهم بعد كانت في حاجة إلى من يضبط أمرها ويحكم نظامها ويبعد حدودها التي لم تكن تثبت إلا لتتغير؛ لاتصال الفتح منذ نهض أبو بكر بالأمر إلى أن كانت الفتنة وشغل المسلمون بها أو شغل فريق من المسلمين بها عن الفتوح.
وكانت للمسلمين جيوش مرابطة في الثغور تقف اليوم لتمضي غدا إلى الأمام، وهذه الجيوش لم تكن مشغولة بالفتح وحده وإنما كانت مشغولة كذلك بإقرار النظام فيما فتح عليها من الأرض، وتثبيت السلطان الجديد على أنقاض السلطان القديم، واستحداث نظم في الإدارة تلائم مزاج الفاتحين، واستبقاء نظم في الإدارة أيضا تلائم مزاج المغلوبين، وهذه الجيوش كانت محتاجة إلى من يمدها بالجند والعتاد، ويرسم لها الخطط، ويدبر لها من الأمر ما تحتاج إلى تدبيره.
وواضح أن الذين قتلوا عثمان لم يكونوا هم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان نفسه من المهاجرين والأنصار، وإنما كانوا شراذم من الجيوش المرابطة في ثغور البصرة والكوفة ومصر ومن ثاب إليهم من الأعراب ومن أعانهم من أبناء المهاجرين، وكانت الجلة من أصحاب النبي المهاجرين والأنصار قد وقفت مواقف ثلاثة مختلفة من هذه الفتنة: فأما كثرتهم فكانت ترى وتنكر وتهم بالإصلاح فلا تجد إليه سبيلا فتسكت عن عجز وقصور لا عن تهاون وتقصير، وأما فريق منهم فقد شبهت عليهم الأمور فآثروا العافية والتزموا الحيدة واعتزلوا الفتنة، وكانت قد وقعت إليهم أحاديث عن النبي تخوف من الفتنة وتأمر باجتنابها، فلزم بعضهم البيوت، وترك بعضهم المدينة مجانبا للناس فارا بدينه إلى الله.
وفريق ثالث لم يذعنوا للعجز ولم يؤثروا الحيدة والاعتزال، وإنما سعوا بين عثمان وخصومه، بعضهم ينصح للخليفة ويحاول الإصلاح بينه وبين الثائرين، وبعضهم ينقم من الخليفة فيحرض عليه ويغري به، أو يقف موقفا أقل ما يوصف به أنه لم يكن موقف المخذل للثائرين أو المنكر عليهم.
Halaman tidak diketahui
فلما قتل عثمان استرجع أكثر الصحابة لأنهم لم يستطيعوا أن ينصروه، وفكروا في غد، وأرادوا أن يستقبلوا أمورهم وتهيئوا لما يقبل عليهم من الأحداث، وأمعن المعتزلون في اعتزالهم وحمدوا الله على أنهم لم يشاركوا في الإثم ولم يخبوا ولم يوضعوا في الفتنة، وأما الآخرون فجعلوا يترقبون ما يصنع الناس، يفكرون في أنفسهم أو يفكرون فيمن يلوذون به من الزعماء.
ولم يكن للمسلمين نظام مقرر مكتوب أو محفوظ يشغلون به منصب الخلافة حين يخلو، وإنما كانوا يواجهون خلو هذا المنصب كما يستطيعون أن يواجهوه.
فأنت تعلم كيف بويع أبو بكر، وكيف رأى عمر أن بيعته كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها، وأنت تعلم أن عمر إنما بويع بعهد من أبي بكر إليه وإلى المسلمين، وقد قبل المسلمون عهد أبي بكر لم ينكره ولم يجادل فيه منهم أحد. وقد هم نفر من المهاجرين أن يجادلوا أبا بكر نفسه في هذا العهد فردهم عن هذا الجدال ردا قبلوه وأذعنوا له، وأنت تعلم أن عمر لم يعهد إلى أحد وإنما جعل الأمر شورى بين أولئك النفر الستة من المهاجرين الذين مات النبي وهو عنهم راض، فاختاروا من بينهم عثمان ولم يختلف عليه منهم أحد، ولم يعهد عثمان، ولو قد فعل لما قبل الناس عهده لكثرة ما أنكروا عليه وعلى ولاته وبطانته من الأحداث، أضف إلى ذلك أن الستة الذين عهد إليهم عمر بالشورى قد أصبحوا حين قتل عثمان أربعة، مات أحدهم عبد الرحمن بن عوف في خلافة عثمان، وقتل ثانيهم وهو عثمان، فلم يبق منهم إلا سعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعلي بن أبي طالب، وكان سعد قد اعتزل مع المعتزلين وتجنب الفتنة فيمن تجنبها، فلم يبق إذن إلا هؤلاء الثلاثة: علي وطلحة والزبير.
ثم أضف إلى ذلك أن كثيرا من أصحاب النبي الذين بايعوا الخلفاء الثلاثة لم يكونوا حاضرين أمر الناس في المدينة، فريق منهم قضى نحبه مستشهدا في حروب الردة وفتوح الفرس والروم، أو ميتا في فراشه، وفريق منهم رابطوا في الثغور مجاهدين ما أطاقوا الجهاد، مستقرين في الأمصار الجديدة حين عجزوا عن الجهاد، فلم تكن جماعة المهاجرين والأنصار التي شهدت مقتل عثمان في المدينة كجماعتهم تلك التي شهدت بيعة الخلفاء الثلاثة.
وكان الأمر مختلفا بين علي وطلحة والزبير ليس لهم موقف واحد من الخليفة المقتول ولا من الظروف التي انتهت بقتله.
فأما علي فكان يخذل الناس عن الثورة والفتنة ما وجد إلى تخذيلهم عنهما سبيلا، وقد سفر بينهم وبين عثمان، كما رأيت في الجزء الأول من هذا الكتاب وردهم عن المدينة، وسفر بينهم وبينه مرة أخرى وأخذ لهم منه الرضى، وحاول حين استيأس من ردهم بعد أن احتلوا المدينة على غرة من أهلها أن يقوم دون عثمان فلم يستطع، واجتهد في أن يوصل إليه الماء العذب حين أدركه الظمأ لشدة الحصار.
وأما الزبير فلم ينشط في رد الثائرين نشاطا ملحوظا، ولم ينشط في تحريضهم نشاطا ملحوظا أيضا، ولكنه ظل يترقب وهواه مع الثائرين، ولعله لم يكن يظن أن الأمر سيصير إلى ما صار إليه.
وأما طلحة فلم يكن يخفي ميله إلى الثائرين ولا تحريضه لهم ولا إطماع فريق منهم في نفسه، وكثيرا ما شكا منه عثمان في السر والجهر، والرواة يتحدثون بأنه استعان عليه بعلي نفسه، وبأن عليا استجاب له فذهب إلى طلحة ورأى عنده جماعة ضخمة من الثائرين، وحاول أن يرده عن خطته تلك فلم يستجب له طلحة فخرج علي من عنده وعمد إلى بيت المال فاستخرج ما فيه وجعل يقسمه بين الناس، فتفرق أصحاب طلحة عنه ورضي عثمان بما فعل علي.
وزعم الرواة أن طلحة لما رأى ذلك أقبل حتى دخل على عثمان تائبا معتذرا، فقال له عثمان: لم تجئ تائبا وإنما جئت مغلوبا، والله حسيبك يا طلحة.
ومهما يكن من شيء فقد قتل عثمان وهؤلاء الثلاثة في المدينة يرقبون ما يصنع الناس، وكان الثائرون قد ملأوا المدينة خوفا ورعبا، فلم يكن دفن الخليفة المقتول إلا بليل وعلى استخفاء شديد من الناس.
Halaman tidak diketahui
والرواة يختلفون في بيعة الإمام بعد قتل الخليفة، فقوم يقولون إن عليا بويع إثر قتل عثمان مباشرة. وليس هذا بثبت، وإنما الثبت الملائم لطبيعة الثورة ولطبيعة هذه الفتنة المشبهة أن المدينة ظلت أياما وليس للناس فيها خليفة وإنما يدبر أمورهم فيها الغافقى أحد زعماء الثورة.
وقد وقع الثائرون بعد أن شفوا أنفسهم من الخليفة المقتول في حيرة حائرة، كانوا يعلمون أن لا بد للناس من إمام ومن أن يبايع هذا الإمام في أسرع وقت ممكن قبل أن يستبد عمال عثمان بما في أيديهم، ويرسل أقواهم معاوية جنده إلى المدينة ليخضعها لسلطانه ويعاقب الثائرين على ما قدموا، وكانوا يعلمون أن أحدا منهم لا يستطيع أن ينهض بإمامة المسلمين لأن أمر الإمامة إنما هو إلى المهاجرين والأنصار يبايعون بها من يختارون من قريش.
ثم كانت أهواؤهم بعد ذلك مختلفة: هوى أهل مصر مع علي، وهوى أهل الكوفة مع الزبير، وهوى أهل البصرة مع طلحة. وقد جعل كل فريق منهم يختلف إلى صاحبه، وجعل الثلاثة يأبون عليهم ويمتنعون من قبول الإمامة منهم، وكأن الثائرين استيقنوا آخر الأمر أنهم لن يستطيعوا وحدهم أن يقيموا للناس إماما وأن لا بد أن يعينهم المهاجرون والأنصار على ذلك، يختارون أحد هؤلاء الثلاثة ويلحون عليه، ويؤيدهم الثائرون في هذا الإلحاح وما يزالون به حتى يرضى.
فجعلوا يدورون على أصحاب النبي يدعونهم - ملحين في الدعوة - إلى أن يختاروا لأمة محمد
صلى الله عليه وسلم
إماما، وقد رأى المهاجرون والأنصار أن لا بد مما ليس منه بد، وأدار كل منهم الأمر بينه وبين نفسه، وبينه وبين من استطاع أن يلقى من أصحابه، فإذا هم يميلون إلى علي ويؤثرونه على صحابيه.
وكذلك أقبلوا على علي يعرضون عليه الإمامة ويلحون عليه في قبولها، والثائرون يؤيدونهم في ذلك. وحاول علي أن يمتنع فلم يجد إلى الامتناع سبيلا، وما يرده عن القبول وقد رفض الخلافة حين قدمها إليه الثائرون، وهؤلاء المهاجرون والأنصار يعرضونها عليه ويريدون أن يبايعوه كما بايعوا الخلفاء من قبله، فقد قبل الخلافة إذن وجلس للبيعة على منبر النبي كما جلس الخلفاء من قبله، وأقبل الناس فبايعوه.
ولكن نفرا أبوا أن يبايعوا فلم يلح عليهم علي في البيعة ولم يأذن للثائرين في إكراههم عليها، من هؤلاء النفر سعد بن أبي وقاص، وهو أحد أصحاب الشورى، أبى أن يبايع وقال لعلي: ما عليك مني من بأس. فخلى علي بينه وبين ما أراد.
ومنهم عبد الله بن عمر، أبى أن يبايع وطلب إليه علي من يكفله لأن يلزم العافية ويفرغ من أمر الناس، فأبى أن يقدم كفيلا، فقال له علي: ما علمتك إلا سيئ الخلق صغيرا وكبيرا. ثم قال: خلوه وأنا كفيله.
وأبى البيعة قوم آخرون من هؤلاء الذين اعتزلوا الفتنة، فلم يرد علي أن يستكرههم ولا أن يعرض لهم أحد بسوء، وامتنع طلحة والزبير عن البيعة فأكرههما الثائرون عليها، ولم يتركهما علي وشأنهما كما ترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وغيرهما من الذين اعتزلوا الفتنة، فقد كان علي يعلم من أمرهما ما علم الثائرون، كان يعلم أن طلحة كان من أشد الناس على الخليفة المقتول، وأنه كان يطمح إلى ولاية الأمر، وكان يعلم أن الزبير لم يأمر ولكنه لم ينه، ولم يكن أقل من طلحة طموحا إلى ولاية الأمر؛ فلم يعفهما من البيعة ليستوثق منهما بقدر ما كان يمكن أن يستوثق منهما.
Halaman tidak diketahui
وتمت البيعة لعلي في المدينة بعد مقتل عثمان بخمسة أيام في بعض الروايات، وبثمانية أيام في بعضها الآخر، وظهر أن الأمور قد استقامت لعلي في الحجاز وفي ثغور الكوفة والبصرة ومصر، وكان الذي يشغله ولا يريد أن يستقيم له هو أمر الشام؛ ذلك أن الشام لم يشترك في الثورة من جهة، وكان حكمه إلى معاوية ابن عم عثمان من جهة أخرى، وسنرى بعد قليل سيرة علي في أمر الشام ومعاوية.
ولكن المهم أن عليا قد أصبح إماما للمسلمين، بايعه من حضر المدينة من المهاجرين والأنصار، وبايعه عن الثغور من حضر المدينة من الثائرين، فقد حلت إذن إحدى المشكلتين الخطيرتين؛ مشكلة الخلافة والخليفة الجديد، أو ظهر لعلي ولكثرة الناس أنها قد حلت وأن الأمر صائر بعد حلها إلى العافية والرضى والاستقرار.
ولم يكن بد من أن يعرض الإمام الجديد للمشكلة الثانية، وهي مشكلة هذا الإمام المقتول، فقد كان ينبغي أن يظهر أمر الله وحكم الدين في قتل هذا الإمام وفي قاتليه، أقتل الإمام ظالما؟ وإذن فلا ثأر له ولا قصاص من قاتليه، أم قتل الإمام مظلوما؟ وإذن فلا بد من أن يثأر له الإمام الجديد وينفذ في قاتليه ما أمر الله به من القصاص.
فأما أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار فكانوا يرون أنه قتل مظلوما، وأن ليس للإمام بد من الثأر بدمه، وأن أمور الدين لا تستقيم إذا ضيعت الحقوق وأهدرت الدماء ولم تقم الحدود.
هذا كله لو كان المقتول إنسانا من الناس ليس غير، فكيف وهو إمام الناس وخليفة المسلمين؟! وكان المهاجرون والأنصار يقولون: ما يمنع الناس إن لم نقتص من قتلة عثمان أن يثوروا بكل من سخطوا عليه من أئمتهم فيقتلوه؟ وقد تحدثوا في ذلك إلى علي فسمع منهم وأقرهم على رأيهم، ولكنه صور لهم الأمر على حقيقته؛ فالسلطان قد انتقل إليه بحكم البيعة، ما في ذلك شك، ولكنه ما زال في أيدي الثائرين بحكم الواقع من الأمر، فهم يحتلون المدينة احتلالا عسكريا ويستطيعون أن يقضوا فيها وفي أهلها بما يشاءون، ولا قدرة للخليفة ولا لأصحاب النبي عليهم؛ فالخير إذن في التمهل والأناة حتى تستقيم الأمور ويقوى سلطان الخليفة في الأمر، ثم ينظر في القضية بعد ذلك فيجري الأمر فيها على ما قضى الله ورسوله في الكتاب والسنة.
وقد رضي أصحاب النبي من علي بما رأى لهم، وأما الثائرون فكانوا يرون أنهم قتلوا الخليفة ظالما؛ فليس له ثأر ولا ينبغي للإمام أن يقتل به أحدا.
ومع ذلك فقد هم علي أن يحقق مقتل عثمان، ولكنه لم يستطع أن يمضي في التحقيق إلى غايته، ولهج قوم بأن محمد بن أبي بكر قد شارك في دم عثمان، ومحمد بن أبي بكر هو ابن خليفة رسول الله وأخو أم المؤمنين عائشة، وهو ربيب علي نفسه، فقد كانت أمه عند علي، تزوجها بعد موت أبي بكر، وقد سأل علي محمدا: أأنت قاتل عثمان؟ فأنكر، وأقرته نائلة بنت الفرافصة زوج عثمان على إنكاره.
ولكن الثائرين لم يكادوا يحسون بدء علي في هذا التحقيق حتى أظهروا السخط والتضامن، فصار علي إلى ما قدمنا من رأيه، وانتظر معه عامة الصحابة من أهل المدينة.
ولعلك تذكر أن عثمان نفسه قد واجه في أول خلافته مشكلة تشبه هذه المشكلة التي واجهها علي أول ما ولي الأمر، فقد كان أول مشكل عرض لعثمان هو أمر عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان متهما له بالتحريض على قتل أبيه، وقتله في غير تثبت وبغير قضاء ممن يملك القضاء، وكان المسلمون قد انقسموا في أمر هذا الفتى، فريق يرى إقامة الحد عليه، ومنهم علي، وفريق يكبر أن يبدأ عثمان خلافته بقتل ابن أمير المؤمنين عمر، وقد عفا عثمان لأن الهرمزان لم يكن له ولي من ذوي عصبته يطالب بدمه، فكان الخليفة هو الولي، وكان يرى أن من حقه أن يعفو، ولم يقبل علي وكثير من المسلمين في ذلك الوقت قضاء عثمان وإنما رأوه ظلما وإهدارا للدم وتفريطا في حق الله، وكان علي يقول بعد خلافته: لئن ظفرت بهذا الفاسق لأقتلنه بالهرمزان.
واجه عثمان إذن ابن خليفة من خلفاء المسلمين متهما بالقتل في غير حقه فعفا عنه، واختلف الناس في هذا العفو.
Halaman tidak diketahui
وواجه علي ابن خليفة آخر من خلفاء المسلمين متهما بالقتل وبأي قتل! بقتل إمام من أئمة المسلمين لا بقتل رجل غريب من المغلوبين المستأمنين، ولكن عليا لم يعف عن محمد بن أبي بكر وإنما حقق أمره حتى استبان أنه لم يقتل عثمان ثم منعته الظروف من المضي في التحقيق إلى غايته وإمضاء حكم الدين في القاتلين.
ومن الحق أن نلاحظ أن محمد بن أبي بكر لم يقتل عثمان بيده، ولكنه تسور الدار مع من تسورها عليه، فقد كان له إذن في قتل عثمان شأن ضئيل أو خطير، ولكن الذين كان لهم شأن في هذه الكارثة كانوا أكثر عددا وأقوى قوة وأشد بأسا من أن يقدر عليهم أو يقتص منهم الإمام الجديد، ثم جرت الأمور بعد ذلك على نحو زاد قضية الخليفة المقتول عسرا وتعقيدا كما سترى.
الفصل الثاني
ولم يستقبل المسلمون خلافة علي بمثل ما استقبلوا به خلافة عثمان من رضى النفوس وابتهاج القلوب واطمئنان الضمائر واتساع الأمل وانبساط الرجاء، وإنما استقبلوا خلافته في كثير من الوجوم والقلق والإشفاق واضطراب النفوس واختلاط الأمر، لا لأن عليا كان خليقا أن يثير في نفوسهم وقلوبهم شيئا من هذا، بل لأن ظروف حياتهم قد اضطرتهم إلى هذا كله اضطرارا؛ فقد نهض عثمان بالأمر بعد خليفة قوي شديد صعب المراس أرهقهم من أمرهم عسرا بما كان يسلك بهم إلى العدل من طريق وعرة خشنة لا يصبر على سلوكها إلا أولو العزم وأصحاب الجلد من الناس، وقد صورنا لك فيما مضى من هذا الكتاب شدة عمر على المسلمين عامة في ذات الله، وقسوته على قريش خاصة، يخاف عليهم الفتنة ويخاف منهم الفتنة أيضا، فلما نهض عثمان بأمر الناس أعطاهم لينا بعد شدة وإسماحا بعد عنف وسعة بعد ضيق ورضاء بعد مشقة وجهد؛ فزاد في أعطياتهم ويسر لهم أمرهم ما كان عسيرا حتى آثروه في أعوامه الأولى على عمر.
وأقبل علي بعد مقتل عثمان، فلم يوسع للناس في العطاء، ولم يمنحهم النوافل من المال ولم ييسر لهم أمورهم، وإنما استأنف فيهم سيرة عمر من حيث انقطعت، ومضى بهم في طريقه من حيث وقف.
وكان الناس بعد قتل عمر آمنين مطمئنين يشوب أمنهم واطمئنانهم شيء من الحزن على هذا الإمام البر الذي اختطف من بينهم غيلة، لا عن ملأ من المهاجرين والأنصار، ولا عن ائتمار به من أهل الثغور والأمصار، فكان قتله عنيفا يسيرا في وقت واحد، لم يصوره أحد بأبلغ مما صوره به عمر نفسه حين تلقى الطعنة التي قتلته، ثم تولى وهو يتلو قول الله عز وجل:
وكان أمر الله قدرا مقدورا .
كانت وفاة عمر إذن قدرا من القدر لم تتألب عليه جماعة ولم يأتمر به ملأ من المسلمين، وإنما اغتاله مغتال غير ذي خطر، فساق إليه موتا لم يكن منه بد.
فأما مقتل عثمان فكان نتيجة ثورة جامحة وفتنة شبهت فيها على الناس أمورهم؛ إذ لم يكن أحدهم يعرف أكان مقبلا أم مدبرا. وكان نتيجة خوف ملأ المدينة كلها أياما طوالا ثم انتشر منها في أقطار الأرض فاضطربت له النفوس أشد الاضطراب، وجهز العمال جنودهم لا ليرسلوها إلى حيث كان ينبغي أن ترسل من الثغور، ولكن ليرسلوها إلى عاصمة الدولة وقلبها ليردوا إليها الأمن ويجلوا عنها الخوف وليستنقذوا الخليفة المحصور، فلم تبلغ الجنود قلب الدولة ولا عاصمتها وإنما قتل الخليفة قبل ذلك، فعاد الجند إلى أمرائهم وتركوا المدينة يملؤها الخوف والذعر ويسيطر عليها القلق والاضطراب.
وكان أمر الثورة قد بلغ أهل الموسم في حجهم، وقرأ عليهم عبد الله بن عباس كتاب عثمان يبرئ فيه نفسه من الظلم والجور ويتهم فيه الثائرين به بالخلاف عن أمر الله والبغي على خليفة الله، فقضى الناس مناسكهم خائفين، وعادوا إلى أمصارهم خائفين، يحملون الخوف معهم إلى من أقام ولم يأت الموسم من الناس.
Halaman tidak diketahui
فليس غريبا إذن أن يستقبل المسلمون خلافة علي ووجوههم عابسة وقلوبهم خائفة ونفوسهم قلقة، ويزيد في هذا العبوس والخوف والقلق أن الثائرين الذين قتلوا عثمان كانوا ما يزالون مقيمين بالمدينة متسلطين عليها، حتى كأن الخليفة الجديد ومن بايعه من المهاجرين والأنصار لم يكونوا في أيديهم إلا أسارى؛ وآية ذلك أن الخليفة لم يستطع أن يمضي في تحقيق ما أصاب عثمان وما أصاب المسلمين من كارثة الفتنة لأنه لم يجد القدرة على هذا التحقيق.
وكان المسلمون من أهل المدينة يعرفون مكان العمال الذين أمرهم عثمان على الأمصار، ويقدرون أنهم جميعا - أو أن بعضهم على الأقل - سينكرون الخلافة الجديدة ويجادلون الخليفة في سلطانه غضبا لعثمان الذي ولاهم، وكانوا يخافون من هؤلاء العمال، بنوع خاص معاوية بن أبي سفيان عامل عثمان على الشام، يعرفون قرابته من الخليفة المقتول ويعرفون طاعة أهل الشام له لطول إقامته فيهم وإمرته عليهم منذ عهد عمر، وكانوا يعرفون مكانة معاوية من بني أمية، ويعرفون الخصومة القديمة بين بني أمية وبني هاشم قبل أن يظهر الإسلام وحين انتقل النبي وأصحابه بدينهم الجديد إلى المدينة، فقد أصبح أبو سفيان قائد قريش بعد أن قتل قادتها وسادتها يوم بدر، وهو الذي أقبل بقريش يوم أحد فثأر لقتلى بدر من المشركين، وامرأته هند أم معاوية هي التي أعتقت وحشيا أن قتل حمزة، فلما قتله أقبلت على ميدان الموقعة وبحثت عن حمزة حتى وجدته بين القتلى فبقرت بطنه واستخرجت كبده فلاكتها.
وأبو سفيان هو الذي قاد قريشا يوم الخندق وألب العرب على النبي وأصحابه وأغرى اليهود حتى نقضوا عهدهم مع النبي وأصحابه، وأبو سفيان هو الذي ظل يدبر مقاومة قريش للنبي وكيدها له ومكرها به حتى كان عام الفتح، فأسلم حين لم يكن له من الإسلام بد.
ومهما يقل الناس في معاوية من أنه كان مقربا إلى النبي بعد إسلامه، ومن أنه كان من كتاب الوحي، ومن أنه أخلص للإسلام بعد أن ثاب إليه ونصح للنبي وخلفائه الثلاثة، مهما يقل الناس في معاوية من ذلك فقد كان معاوية هو ابن أبي سفيان قائد المشركين يوم أحد ويوم الخندق، وهو ابن هند التي أغرت بحمزة حتى قتل ثم بقرت بطنه ولاكت كبده، وكادت تدفع النبي نفسه إلى الجزع على عمه الكريم.
وكان المسلمون يسمون معاوية وأمثاله من الذين أسلموا بأخرة، ومن الذين عفا النبي عنهم بعد الفتح بالطلقاء؛ لقول النبي لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء.»
كان الناس يعرفون هذا كله ويقدرون أن الأمور لن تستقيم بين الخليفة الهاشمي والأمير الأموي في يسر ولين، وكانوا كذلك يعرفون أن قريشا قد صرفت الخلافة عن بني هاشم بعد وفاة النبي إيثارا للعافية وكراهة أن تجتمع النبوة والخلافة لهذا البطن من بطون قريش، وكانوا يرون أن الله قد آثر بني هاشم بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم
فاختصها بخير كثير، وأن بني هاشم ينبغي لهم أن يقنعوا بما آثرهم الله به من هذا الخير الضخم والفضل العظيم.
فكان الناس إذن لا يشفقون من فساد الأمر بين علي ومعاوية فحسب وإنما يشفقون من فساد الأمر بين علي وبني هاشم من جهة وسائر قريش من جهة أخرى، فلم يكونوا إذن يستقبلون حياة قوامها الأمن والعافية والسعة، وإنما كانوا يستقبلون حياة ملؤها القلق والخوف، ويشفقون أن تنتهي بهم آخر الأمر إلى ضيق أي ضيق، وتورطهم في شر عظيم.
وكانوا ينظرون فيرون جماعة من خيار المهاجرين والأنصار قد آثروا العزلة وكرهوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فاعتزلوا أمر عثمان واعتزلوا بيعة علي وأقاموا ينتظرون، وكانت الكثرة الكثيرة من هؤلاء الناس من خيار المسلمين وأصلحهم وأحقهم بالإجلال والإكبار، فيهم سعد بن أبي وقاص، أول من رمى بسهم في سبيل الله، وفاتح فارس، وأحد الذين مات النبي وهو عنهم راض، وأحد الذين جعل عمر إليهم أمر الشورى. وفيهم عبد الله بن عمر الرجل الصالح الذي أحبه المسلمون على اختلافهم أشد الحب؛ لفقهه في الدين وإيثاره للخير وبعده عن الطمع ونصحه للمسلمين في غير رياء ولا مداهنة.
Halaman tidak diketahui
ثم رأى الناس طلحة والزبير يبايعان عن غير رضى ولا إقبال، فما يمنعهم - وهم يرون هذا كله ويعلمون هذا كله ويقدرون هذا كله - أن تمتلئ قلوبهم خوفا ونفوسهم قلقا.
ومع ذلك فقد كان خليفتهم الجديد أجدر الناس بأن يملأ قلوبهم طمأنينة وضمائرهم رضى ونفوسهم أملا، فهو ابن عم النبي، وأسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة، وأول من صلى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يظهر دعوته ويصدع بأمر الله، أحس النبي أن أبا طالب يلقى ضيقا في حياته؛ فسعى في أعمامه ليعينوا الشيخ على النهوض بثقل أبنائه، فاحتملوا عنه أكثر أبنائه وتركوا له عقيلا، كما أحب، وأخذ النبي عليا فكفله وقام على تنشئته وتربيته، فلما آثره الله بالنبوة كان علي في كنفه لم يجاوز العاشرة من عمره إلا قليلا، فنستطيع أن نقول إنه نشأ مع الإسلام، وكان النبي يحبه أشد الحب ويؤثره أعظم الإيثار، استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من ودائع حتى ردها إلى أصحابها، وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، ثم هاجر حتى لحق بالنبي في المدينة فآخى النبي بينه وبين نفسه ثم زوجه ابنته فاطمة، ثم شهد مع النبي مشاهده كلها، وكان صاحب رايته في أيام البأس، وقال النبي يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.» فلما أصبح دفع الراية إلى علي، وقال النبي له حين استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.» وقال للمسلمين في طريقه إلى حجة الوداع: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.» وكان عمر رحمه الله يعرف لعلي علمه وفقهه، ويقول: «إن عليا أقضانا.» وكان يفزع إليه في كل ما يعرض له من مشكلات الحكم، وقال حين أوصى بالشورى: «لو ولوها الأجلح لحملهم على الجادة.» إلى فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين، ويؤمن له بها أهل السنة كما يؤمن له بها شيعته.
وسنرى حين نمضي في سيرته وحين نبين مواقفه من المشكلات الكثيرة التي عرضت له أنه كان أهلا لكل هذه الفضائل ولأكثر منها ، وأنه كان أجدر الناس بأن يسير في المسلمين سيرة عمر ويحملهم على طريقه ويبلغ بهم من الخير والنجح والفلاح مثل ما بلغ بهم عمر لو واتته الظروف.
وكان عمر رحمه الله صاحب فراسة صادقة وحدس لا يكاد يخطئ حين قال: «لو ولوها الأجلح لحملهم على الجادة.» كان يرى أن عليا أشبه الناس به في شدته في الحق وإذعانه للحق وغلظته على الذين ينكرون الحق أو يضيقون به، ولكن القوم لم يولوا خلافتهم الأجلح بعد وفاة عمر، حين كانت الدنيا مقبلة والنشاط قويا والإقدام قارحا والبصائر نافذة والأمور تجري بالمسلمين على ما أحبوا، وإنما ولوا خلافتهم عثمان، فكان من أمره معهم وأمرهم معه ما كان، حتى إذا فسدت الدنيا وانتشرت الأمور واضطرب حبل السلطان وظن بعض الناس ببعض أسوأ الظن وأضمر بعضهم لبعض أعظم الكيد؛ هنالك فزعت كثرة منهم إلى علي فبايعته، واعتزلته طائفة لا يريدون به بأسا، وأبت عليه طائفة أخرى لا تحبه ولا تريد أن تستقيم له طائعة.
ونظر الخليفة الجديد ونظر أصحابه معه فإذا هم يواجهون أمورا عظاما، وقد أحاطت بهم فتنة مشبهة معماة إذا أخرج الرجل فيها يده لم يكد يراها.
أمام هذه الأمور العظام، وفي قلب هذه الفتنة المظلمة الغليظة وجد علي نفسه كأحسن ما يجد الرجل نفسه، صدق إيمان بالله ونصحا للدين وقياما بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل ولا يدهن من أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحا أو إخفاقا، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتا، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضى ضميره ورضى الله.
الفصل الثالث
وكان علي وعمه العباس يريان حين قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن الخلافة حق لبني هاشم لا ينبغي أن تصرف عنهم ولا أن يقوم بها أحد من دونهم، ولولا أن العباس أسلم بأخرة لفكر في نفسه أن يرشح نفسه خليفة لابن أخيه فيتلقى عنه تراثه في القيام بشأن المسلمين، ولكنه نظر في الأمر فرأى ابن أخيه عليا أحق منه بوراثة هذا السلطان؛ لأنه ربيب النبي وصاحب السابقة في الإسلام وصاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد كلها، ولأن النبي كان يدعوه أخاه حتى قالت له أم أيمن ذات يوم مداعبة: «تدعوه أخاك وتزوجه ابنتك!» ولأن النبي قال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.» وقال للمسلمين يوما آخر: «من كنت مولاه فعلي مولاه.» من أجل ذلك كله أقبل العباس بعد وفاة النبي على ابن أخيه فقال له: «ابسط يدك أبايعك.» ولكن عليا أبى مخافة الفتنة، وذكره العباس بذلك بعد أعوام طوال.
Halaman tidak diketahui
وكان هناك رجل آخر من قريش أراد أن يبايع عليا بعد وفاة النبي لا حبا له ولا رضى به ولا اعترافا بمكانته الخاصة من النبي بل عصبية لبني عبد مناف، وهذا الرجل هو أبو سفيان زعيم قريش أثناء حربها للنبي ومقاومتها للإسلام، والذي لم يسلم إلا كارها حين رأى جيوش المسلمين مطبقة على مكة فأدخله العباس على النبي فأسلم كرها لا طوعا، لم يتردد في الاعتراف بأن لا إله إلا الله؛ لأنه لم ير بهذا الاعتراف بأسا، ولكنه حين طلب إليه أن يشهد أن محمدا رسول الله قال: «أما هذه فإن في نفسي منها شيئا.» ولولا حث العباس له وتخويفه القتل لما اعترف بهذه الشهادة التي كان في نفسه منها شيء، ولكنه أسلم على كل حال، وعرف النبي له مكانته في قريش فجعل داره مثابة يأمن من أوى إليها من أهل مكة حين دخلها الجيش، فهو إذن أحد هؤلاء الطلقاء الذين عفا النبي عنهم حين دخل مكة فاتحا منتصرا، ولم يخطر له قط أن يكون خليفة للمسلمين، ولكنه رأى النبي من بني أبيه عبد مناف، ورأى عليا أحق الناس بوراثة سلطانه، ورأى الخلافة تساق إلى رجل من بني تيم هو أبو بكر، وقدر أنها ستساق بعد أبي بكر إلى رجل من بني عدي هو عمر، فآثر بني أبيه الأدنين على بني عمه، وقال لعلي: «ابسط يدك أبايعك.» ولكن عليا أبى أن يستجيب له كما أبى أن يستجيب لعمه العباس، ولو قد استجاب لهذين الشيخين لأثار بين المسلمين فتنة لم يكونوا في حاجة إليها، ولعلهم لم يكونوا قادرين على احتمالها فضلا عن مقاومتها والخروج منها ظافرين.
فقد علمت ما كان من خلاف الأنصار في أمر البيعة حين قبض النبي، فكيف لو اختلفت قريش نفسها؟! وقد علمت ما كان من ارتداد العرب في أول خلافة أبي بكر، فكيف لو اختلف الذين وفوا للإسلام من قريش والأنصار؟! كان علي موفقا إذن كل التوفيق، ناصحا لله وللإسلام كل النصح حين امتنع على هذين الشيخين فلم ينصب نفسه للخلافة ولم ينازعها أبا بكر وإنما بايعه كما بايعه الناس وصبر نفسه على ما كانت تكره، وطابت نفسه للمسلمين بما كان يراه حقا له، وكأنه قدر أن الأمر لن يعدوه بعد وفاة أبي بكر، وعذر المسلمين في استخلاف هذا الشيخ الذي أمره النبي أثناء مرضه أن يصلي بالناس، على أنه لم يسرع إلى بيعة أبي بكر وإنما تلبث وقتا غير قصير، ولعله وجد على أبي بكر كما وجدت عليه فاطمة رحمها الله؛ لأنه أبى أن يدفع إليها ما طلبت من ميراث أبيها
صلى الله عليه وسلم
وروى لها قوله: «نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.» ولكنه على كل حال أقبل فبايع واعتذر عن تلبثه بأنه لم يرد أن يخرج من بيته حتى يجمع القرآن، وقبل أبو بكر منه عذره.
وكان أبو بكر شيخا قد جاوز الستين من عمره قليلا، وكان علي ما يزال في نضرة شبابه قد نيف على الثلاثين، فكان يرى أن المستقبل أمامه وأمام المسلمين فسيح، وأن حقه سيرد إليه حين يختار الله لجواره هذا الشيخ الذي قدمه النبي لأمر من أمور الدين فقدمه المسلمون لأمور الدنيا.
ولكن أبا بكر عهد بالخلافة إلى عمر، وقبل المسلمون عهده مجمعين على قبوله لم يمار فيه منهم أحد، فاستبان لعلي يومئذ أن بينه وبين المهاجرين من قريش خلافا واضحا، فهو يرى لنفسه الحق في الخلافة، والمهاجرون لا يرون له هذا الحق، وإنما يرونه واحدا منهم يجري عليه من الأمر ما يجري عليهم.
فأما الأنصار فقد استيأسوا من الخلافة وطابت بها نفوسهم للمهاجرين من قريش يبايعون منهم من ينصبونه للبيعة، وقد بايع علي ثاني الخلفاء كما بايع أولهم كراهية الفتنة وإيثارا للعافية ونصحا للمسلمين، ولم يظهر مطالبة بما كان يراه حقا له بل لم يجمجم به، وإنما صبر نفسه على مكروهها ونصح لعمر كما نصح لأبي بكر، فلما طعن عمر وجعل الخلافة في هؤلاء الستة من أصحاب الشورى لم يشك علي في أن قريشا لا ترى رأيه ولا تؤمن له بحقه ورأى ألا يدعو إلى نفسه وألا يستكره الناس على ما لا يريدون، ولو قد أراد أن يستكرههم لما وجد إلى ذلك سبيلا، فلم تكن له فئة ينصرونه ولم يكن يأوي إلى ركن شديد، وإنما كان نفر يسير من خيار المسلمين يرون رأيه ويجمجمون بالدعوة إليه، ولكنهم كانوا من المستضعفين الذي لم يقووا إلا بالإسلام، ولم تكن لهم عصبية ولا قوة مادية، ومن هؤلاء الناس عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود.
وقد بايع علي عثمان كما بايع الشيخين وهو يرى أنه مغلوب على حقه، ولكنه على ذلك لم يتردد في البيعة ولم يقصر في النصح للخليفة الثالث، كما لم يقصر في النصح للشيخين من قبله، حتى كانت الخطوب التي صورناها في الجزء الأول من هذا الكتاب.
فكان طبيعيا إذن حين قتل عثمان أن يفكر علي في نفسه وفيم غلب عليه من حقه، ولكنه مع ذلك لم يطلب الخلافة ولم ينصب نفسه للبيعة إلا حين استكره على ذلك استكراها، وحين هدده بعض الذين ثاروا بعثمان بأن يبدءوا به فيلحقوه بصاحبه المقتول، وحين فزع إليه المهاجرون والأنصار من أهل المدينة يلحون عليه في أن يتولى أمور المسلمين ليخرجهم من هذه الفتنة المظلمة، ثم هو حين قبل البيعة لم يكره عليها أحدا من أصحاب النبي، وإنما قبل البيعة ممن بايعه وترك من لم يرد أن يبايعه، ترك سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وترك جماعة من الأنصار على رأسهم محمد بن مسلمة، ولم يستثن إلا هذين الرجلين: طلحة والزبير، خاف منهما الفتنة لموقفهما من عثمان والثائرين به، فرضي أن يستكرههما على البيعة، فيما يقول أكثر المؤرخين. وأكاد أعتقد أنا أنهما لم يستكرها، كما زعما وكما زعم كثير من الرواة، وإنما أقبلا على البيعة راضيين ثم بدا لهما بعد ذلك حين رأيا من الخليفة ما لم يكونا ينتظران، كانا يقدران في أكبر الظن أن عليا محتاج إليهما أشد الاحتياج، لأحدهما قوة في الكوفة ولأحدهما قوة في البصرة، وقد شارك أهل الكوفة وأهل البصرة في الثورة مشاركة خطيرة، وكان الناس يظنون أنهم إنما شاركوا في هذه الثورة عن تحريض، أو على أقل تقدير عن رضى من طلحة والزبير.
فكانا إذن يفكران في أن عليا سيعرف لهما مكانتهما وقوتهما وسلطانهما على حزبيهما من أهل البصرة والكوفة وسيشركهما في أمره، وستكون الخلافة ثلاثية يتقاسمها هؤلاء النفر الثلاثة من أصحاب الشورى: لعلي الحجاز ومصر وما وراءهما من بلاد العرب ومما فتح أو يفتح في شمال إفريقيا، وللزبير البصرة وما يليها، ولطلحة الكوفة وما وراءها. وكانا يظنان أن هذه الخلافة الثلاثية إن استقامت لهم كان أمر الشام يسيرا، ولكن عليا أبى عليهما ولاية هذين المصرين وأراد أن يسير فيهما سيرة عمر فيحبسهما معه في المدينة كما كان عمر يحبس أعلام المهاجرين من قبل، إلا أن عليا لم يعنف بهما كما كان عمر يعنف بمن يستأذنه في الخروج إلى الأقطار، وإنما قال لهما في رفق رفيق: «أحب أن تكونا معي أتجمل بكما؛ فإني أستوحش لفراقكما.» هنالك عرف الشيخان أن ظنهما لم يصدق وأن تقديرهما لم يكن صوابا، وأن عليا سيستأنف سيرة عمر من حيث انقطعت يوم طعنه ذلك الغلام، وأن أمرهما معه في المدينة سيكون كأمرهما وكأمر غيرهما من أعلام المهاجرين مع عمر، سيقيمان في المدينة وسيأخذان عطاءهما كل عام، ولن يلقيا من علي بعض ما كان يمنحهما عثمان من الرفق والتسامح واللين، فلم يطالبا بالكوفة ولا بالبصرة، وإنما سكتا على مضض ودبرا أمرهما في روية وأناة.
Halaman tidak diketahui