Fiqh al-Usrah
فقه الأسرة
Genre-genre
حسن تربية الولد ورعايته
كذلك أيضًا من أعظم الحقوق وأَجلّها حسْن التربية والرعاية للابن والبنت، ولقد رغب رسول ﷺ في هذا العمل الصالح حتى ثبت في الحديث الصحيح عنه ﷺ أنه قال: (من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات، فرباهُن فأحسن تربيتهن، وأدبهن فأحسن تأديبهن إلا كنّ له سترًا أو حجابًا من النار)، فهذا يدل على فضيلة تربية الابن وتربية البنت على الخصوص على طاعة الله، قال العلماء: إنما ذكر البنت لأنها هي المربية غدًا لأبنائها وبناتها، والقائمة على حقوق بعلها وبيت زوجها؛ فلذلك ذكر رعاية البنات، وإلا فالفضيلة موجودة أيضًا لمن رعى الأبناء وقام عليهم وأدبهم فأحسن تأديبهم، ومن هنا قال ﵊ -يُبيّن حسن العاقبة لمن أنعم الله عليه بهذه النعمة، وهي تربية الولد تربيةً صالحة، ذكر حسن العاقبة فقال-: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له)، قال العلماء: إن الله ﷿ يحسن المكافأة لعبده على ما كان منه من رعايته لولده، فكما أحسن إلى ولده في الصغر، يجعلُ الله إحسانه نعمةً عليه حتى بعد موته، بل إن الذي يربي في الصغر، ويحسن تربية أولاده يرى بأم عينيه قبل أن يموت حسن العاقبة في ولده، ولهذا تجد من ربى ابنه على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، وعلى ما يُرضي الله ﷿ إذا كبِر فرق عظمه، ووهن وأصابه المشيب والكبر، وجد ابنه بجواره يساعده ويقوم على شأنه، ويحفظ أمواله ويكون أمينًا، راعيًا، حافظًا، على أتم الوجوه وأحسنها، وهذه هي ثمرة العمل الصالح، وثمرة من ربى وتعب على تربية أبنائه.
والعكس فمن ضيع أبناءه فإن الله يريه في الحياة قبل الموت شؤم ما كان منه من التقصير، فيصيبه الكبر ويرق عظمه، ويجد من تعب الحياة وشظفها، فيأتي أبناؤه ليكيدوا له ويؤذوه ويذلوه ويروه سوء العذاب في الدنيا قبل الآخرة، وهذا كله من عواقب سوء التربية، نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك رغّب النبي ﷺ في هذا العمل الصالح، وهو تربية الأبناء، رغّب فيه لعلمه حب الله لهذا العمل، وحبه سبحانه لمن قام به على أتم الوجوه وأكملها.
وخير ما يُربى عليه الأبناء، وآكد وأوجب ما يُرعى من تربية الأبناء: التربية الإيمانية، فأول ما يغرس الوالدان في قلب الولد الإيمان بالله ﷿ الذي من أجله خلق الله خلقه وأوجدهم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] .
فأول ما يُعتنى به: غرس الإيمان، وغرس العقيدة، فلا إله إلا الله.
يجب أن تغرس في قلب الصَّبي، فيعتقدها جنانه ويقر بها وينطقُ بها لسانه وتعمل بها وبلوازمها جوارحه وأركانه، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣]، فأول ما ابتدأ به وأول ما دله عليه في وعظه ونصحه وتوجيهه، أن ذكرهُ بحق الله ﷻ، وبين له أن ضياع هذا الحق هو الظلم العظيم؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وليس هناك أعظم من أن يصرف حق الله جل وعلا في عبادته لغيره كائنًا من كان ذلك الغير، ولهذا وعظ لقمان وابتدأ موعظته بهذا الأصل العظيم، فأول ما ينبغي على الوالدين أن يغرسا في قلب الصبي الإيمان بالله ﷿، فأطيب وأكمل وأعظم ما يكون من الأدب أن يغرس الأب وتغرس الأم في قلب الولد الإيمان بالله ﷿، وهو فاتحةُ الخير، وأساس كل طاعةٍ وبر، لا ينظر الله إلى عمل العامل أو قوله حتى يحقق هذا الأصل ويرعاه على أتم الوجوه وأكملها.
ولذلك لما ركب عبد الله بن عباس ﵄ وراء رسول الله ﷺ وهو صغير السّن، اختار ﵊ أن يأخذ بمجامع قلبه وهو في صِغَره إلى توحيد الله ﷻ: (يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن)، وانظر إلى الأسلوب، (يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن)، ينفعك الله بها نفع الدين والدنيا والآخرة: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفّت الصحف) .
فالرسول ﷺ ملأ قلبه بالله ملأ قلبه بالإيمان والعبودية والتوحيد وإخلاص التوجه لله ﷾: (احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك) فأخذ بكليته إلى الله، وكأنه يقول: اجعل الله نصب عينيك، إذا سألت فكنت في فاقة وضيقٍ وشدة فاسأل الله، وإذا ألمت بك الأمور، ونزلت بك الخطوب والشدائد فاستعن بالله، ثم بعد ذلك ينفض يديه من الخلق: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك)، ولذلك ينبغي أن يحرص الوالدان على غرس الإيمان بالله في قلب الولد، يقول بعض أهل العلم رحمةُ الله عليهم: إن الوالد مع ولده يستطيع في كل لحظة أن يغرس الإيمان في قلبه، فالمواقف التي تمر على الوالد مع ولده ويكون الولد بجواره يذكره فيها بالله، ويذكره فيها بوحدانية الله: وأن الله: ﴿قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد:٣٣]، وأنه وحده بديع السماوات والأرض، خالق الكون، ومدبر الوجود، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه سبحانه، فإذا نشأ هذا القلب على الفطرة، ونشأ هذا القلب على التوحيد، نشأ على الأصل العظيم الذي فيه سعادته، وصلاح دينه ودنياه وآخرته: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم:٣٠]، فتأتي هذه الكلمات النيرات، والمواعظ المباركة إلى قلب ذلك الصَّبي، وهو على الفطرة، وهو على الإيمان، لم تشبهُ شائبة كما قال ﵊: (كل مولدٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، فيغرس هذا الإيمان على تلك الفطرة فتكون نورًا على نور: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور:٣٥]؛ وعلى هذا ينبغي أن يحرص الوالدان على غرس الإيمان بالله ﷿ في أبنائهم.
ومن التربية الإيمانية: الأمر بالصلاة، قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ﴾ [طه:١٣٢]، وقال ﵊: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، فمن حق الولد على والديه الأمر بالصلاة، أن يأمراه بالصلاة في مواقيتها.
قال العلماء: يجب على الوالد وعلى الوالدة أن يعلما الولد كيفية الوضوء، وكيفية الطهارة، واستقبال القبلة، وصفة الصلاة، والهدي الذي ينبغي أن تؤدى به هذه العبادة.
والله ما علَّمت ابنك الوضوء فصب الماء على جسده إلا كان لك مثل أجره، ولا حفظته الفاتحة أو شيئًا من كتاب الله فلفظ لسانه بحرفٍ مما علمته، إلا كنت شريكًا له في الأجر حتى يتوفاه الله ﷿، ولو علّم ذريته فأنت شريك له في الأجر، فمن دعا إلى الهدى كان له أجره، وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئًا.
وما علّمته الصلاة فقام في ظلمة ليلٍ أو ضياءِ نهارٍ بين يدي الله، إلا أُجرت على قيامه، وكان لك مثل أجره وثوابه، فخيرٌ كثير وفضلٌ عظيم حين يتاجر فيه الوالد مع الله ﷿، وما قيمة الأولاد إذا لم يُرَبّوا على طاعة الله ﷿، ويُرَبّوا على منهج الله، وتنشأ تلك النفوس على محبة الله، ومرضاة الله، والقيام بحقوق الله، فلا خير في الولد إذا تنكّر لحق الله، وإذا ضيع الولد حق الله فسيضيع حقوق من سواه من باب أولى وأحرى، فينشئه على إقام الصلاة ويعوده أنه إذا أذن المؤذن ينطلق إلى بيت الله ﷿ فيعمره بذكره، ولذلك أمر النبي ﷺ تعليم الصبي الصلاة لسبع الصلاة منذ نعومته وصغر سنه، حتى إذا كبر ألف ذلك الشيء واعتاده.
كذلك أيضًا هذه التربية الإيمانية تستلزم التربية على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات وما يكون من الإنسان في معاملته مع الناس: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان:١٧-١٩] .
يقول بعض العلماء: إن هذه الآيات التي تضمنت وصايا لقمان، منهج كامل في التربية، فهو يجمع بين حق الله وحق عباده، بل حتى حظ النفس، فقد أمره بما فيه قوام النفس واستقامتها حتى في أخلاقها مع الناس؛ حيث قال له: لا تصعر خدك للناس، تكبرًا وخيلاء، ولا تمش في الأرض مرحًا، فالإنسان إذا أراد أن يربي ولده، يربيه على مكارم الأخلاق، فكمال العبد في كمال خلقه، كما قال ﷺ: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلقًا) يعوده الصدق في الحديث، وينهاه عن الكذب، يعوده حفظ اللسان، وينهاه عن أن يرتع لسانه في أعراض المسلمين بالغيبة والنميمة والسب والشتم واللعن؛ ولذلك نهى النبي ﷺ المؤمن أن يعد المسلم فلوّه وصغيره ثم لا يفي له؛ لأن الابن إذا رأى من والديه التقصير بالكذب في الوعد نشأ كاذبًا والعياذ بالله؛ فالولد يتأثر بوالديه، فإن رأى منهما خيرًا سار على ذلك الخير، وأحبه، وإن رأى منهم الشر -والعياذ بالله- والسوء سار على ذلك الشر وأحبه والتزمه، حتى يصعب أن ينفك عنه عند الكبر، نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك ينبغي أن يُعوّد على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، في قوله وعمل
4 / 9